التفرد، وأقسامه
نأتي الآن للحديث عن التفرد:
إذا انفرد الراوي برواية حديث، لم يشاركه غيره في رواية ذلك الحديث؛ فلا يخلو الحال من أحد أمرين:
- أن يكون هذا الحديث الذي انفرد به راويه ليس له معارض أو مخالف.
- أن يكون هذا الحديث الذي انفرد به راويه له معارض أو مخالف.
وفي كلا الحالتين إما أن يكون المنفرد بالحديث ثقة أو غير ثقة.
أقسام التفرد: ينقسم التفرد إلى قسمين:
القسم الأول: التفرد غير المخالف.
القسم الثاني: التفرد المخالف.
أولًا: التفرد غير المخالف ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: تفرد الثقة.
النوع الثاني: تفرد غير الثقة.
أولًا: تفرد الثقة غير المخالف له صورتان:
الصورة الأولى: أن يروي الثقة حديث لا يعرف إلا من جهته، وليس لهذا الحديث ما يعارضه؛ فهذا الحديث مقبول بلا خلاف بين العلماء؛ فالإمام الحافظ لا يضره التفرد بحال من الأحوال، بل إن تفرد الإمام الحافظ برواية ما لم يرو غيره، دليل على حفظه وإتقانه، وأنه حفظ ما لم يحفظ غيره.
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، وإنما الشاذ: أن يروي الثقة حديثًا يخالف ما روى الناس.
قال الإمام النووي: إذا روى العدل الضابط المتقن حديثًا انفرد به؛ فمقبول بلا خلاف، نقل الخطيب البغدادي اتفاق العلماء عليه.
قال الحافظ العراقي: إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه؛ فإن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو، ولم يروه غيره؛ فينظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلًا حافظًا موثوقًا بإتقانه وضبطه، قبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه.
قال الإمام مسلم: للزهري نحو تسعين حرفًا، يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد، وهذا هو الذي عليه العمل في كتب الحديث، ولا أدل على ذلك من أن الأئمة قد خرجوا في مصنفاتهم أحاديث غرائب، لا تعرف إلا من جهة راو واحد، واحتجوا بها. حتى الذين صنفوا في الصحيح المجرد؛ كالإمامين الجليلين: البخاري ومسلم. فقد خرج البخاري ومسلم، في صحيحهما أحاديث غرائب لا تعرف إلا من جهة راو واحد، وهي كثيرة في الصحيحين؛ فمن ذلك: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات»فقد تفرد في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وتفرد به عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، وتفرد به عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد به عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيي بن سعيد الأنصاري، ومنه انتشر حتى رواه عن يحيى بن سعيد، أكثر من مائة راو؛ فهو حديث آحاد غريب مطلق.
الصورة الثانية: زيادة كلمة أو جملة أو أكثر في الحديث، ويأتي الحديث عن هذا القسم في باب زيادة الثقات.
ثانيًا: تفرد غير الثقة غير المخالف:
إذا انفرد الراوي الذي لا يوثق بحفظه وإتقانه، ولم يكن من انفرد به مخالفًا لما رواه غيره، كان انفراده به خارمًا له مزحزحًا عن حيز الصحيح، ثم وبعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال منه، فإن كان المنفرد به غير بعيد عن درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده كأن يكون الراوي الذي انفرد بالحديث صدوق استحسنا حديثه، أي: عددناه حسن، ولم ينحط إلى قبيل الحديث الضعيف.
فإن كان المنفرد به غير بعيد عن درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده، كأن يكون الراوي استحسنا حديثه ذلك، وإذا كان الراوي بعيدًا من ذلك كأن يكون الراوي ضعيفًا، ولو من قبل حفظه رددنا ما انفرد به، وكان من قبيل الشاذ المنكر، قال الإمام النووي: وإن لم يوثق بضبطه أي: بضبط الراوي، ولم يبعد عن درجة الضابط كان حسنًا، وإن بعد كان شاذًا منكرًا مردودًا.
ثانيًا: التفرد المخالف:
ينقسم التفرد المخالف إلى نوعين:
النوع الأول: تفرد الثقة.
النوع الثاني: تفرد غير الثقة.
أولًا: تفرد الثقة المخالف:
إذا روى الثقة حديثًا خالف به رواية من هو أوثق منه، بالحفظ أو بالعدد، ولم يمكن الجمع بين الحديثين بوجه من وجوه الجمع، كان ما رواه الثقة شاذًّا، وما رواه الأوثق يقال له: المحفوظ، قال الحافظ العراقي: إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه؛ فإن كان مخالفًا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط، كان ما انفرد به شاذًّا مردودًا.
قال الحافظ ابن حجر: فإن خُولف -أي: الراوي الثقة- بأرجح منه لمزيد ضبط، أو كثرة عدد، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات؛ فالراجح يقال له: المحفوظ، ومقابله وهو المرجوح يقال له: الشاذ، وكذلك إذا روى الثقة حديثًا زاد فيه شيئًا، انفرد به عمن هم أوثق منه، ولم يمكن الجمع بين هذه الزيادة، وأصل الحديث الذي هو من رواية من هو أوثق منه؛ فحديث الثقة الذي به الزيادة المخالفة يكون شاذًّا.
قال الحافظ: وإما أن تكون الزيادة منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى؛ فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها؛ فيقبل الراجح ويرد المرجوح، وسيأتي لذلك مزيد بيان في باب زيادة الثقات.
ثانيًا: تفرد غير الثقة المخالف:
إذا روى الضعيف حديثًا خالف به رواية من هو أولى منه؛ فحديث الراوي الضعيف يقال له: المنكر، ومقابله يقال له: المعروف. من هذا يتضح أن بين الحديث الشاذ والحديث المنكر عموم وخصوص من وجه؛ لأن بينهما اجتماعًا في اشتراط المخالفة، وافتراقًَا في أن الشاذ رواية ثقة، أو صدوق، والمنكر رواية ضعيف، وسيأتي لذلك مزيد بيان -إن شاء الله تعالى.