التفسير في عصر التابعين، ومدارسه
أ. مدارس التفسير في عصر التابعين:
فتح الله على المسلمين كثيرًا من بلاد العالم، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهود الخلفاء الراشدين، فلم يستقرّ الصحابة في بلدٍ واحدٍ؛ بل بَعُدَ الكثيرُ منهم عن المدينة، ثم استقرَّ بهم المقام موزّعين على جميع البلاد التي دخلها الإسلام؛ فكان منهم الولاة، ومنهم الوزراء، ومنهم القضاء، ومنهم المعلّمون، ومنهم غير ذلك، اشتهرت بعض هذه المدارس بالتفسير، وتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة؛ وهي أشهر مدارس التفسير في الأمصار في عهد التابعين، وهي كالتالي:
مدرسة التفسير بمكة:
كان ابن عباس قائدها، وأشهر تلاميذه بمكة سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاوس بن كيسان اليماني، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير -رحمه الله- من كبار التابعين ومتقدّميهم في التفسير، والحديث، والفقيه، أخذ القرآن عن ابن عباس عرضًا، واستمع منه التفسير، وقد جمع سعيد القراءات الثابتة عن الصحابة، وكان يقرأ بها؛ لذلك كان ابن عباس يثق بعلمه ويحيل عليه من يستفتيه، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شيء: أليس فيكم ابن أم الدّهماء؟ أي: سعيد بن جبير. هذا أحد تلاميذ مدرسة مكة.
أيضًا مجاهد -رحمه الله- كان أقلّ أصحاب ابن عباس رواية عنه في التفسير، وكان أوثقهم؛ لهذا اعتمد على تفسيره الشافعي، والبخاري وغيرهما، وقد أجمعت الأمة على إمامة مجاهد، والاحتجاج به، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة.
وعكرمة أيضًا، وهو على مبلغ عظيم من العلم، وعلى مكانة عالية من التفسير، وقد شهد له العلماء بذلك.
وطاوس بن كيسان اليماني، كان على جانب عظيم من الورع والأمانة، شهد له بذلك أستاذه ابن عباس.
وعطاء بن أبي رباح، وكانت له مكانة كبيرة جدًّا في التفسير، كان ابن عباس يقول لأهل مكة إذا جلسوا إليه: تجتمعون إليّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟! ولكن عطاء كان مقلًا في التفسير، ولعل إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأي، فقد قال عبد العزيز بن رفيع: سُئل عطاء عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي.
مدرسة التفسير بالمدينة:
قائدها أبي بن كعب، ومن أشهر رجالها أبو العالية، وهو من ثقات التابعين المشهورين بالتفسير، ومحمد بن كعب القرظي، من أفاضل أهل المدينة علمًا وفقهًا، وكان عالمًا ثقة، كثير الحديث، واشتُهر أيضًا بتأويل القرآن.
وزيد بن أسلم، والذي كان يفسر القرآن برأيه، ولا يتحرّج من ذلك، وأشهر من أخذ التفسير عن زيد بن أسلم -من علماء المدينة- ابنه عبد الرحمن بن زيد، ومالك بن أنس.
مدرسة التفسير بالعراق:
قائدها ابن مسعود، ومن أشهر رجالها علقمة بن قيس؛ وهو ثقة مأمون، وكان علقمة من الربانيين المشهورين بالتفسير، ومن تلاميذ هذه المدرسة، مسروق، والأسود بن يزيد، ومرة الهمداني، وعامر الشعبي، والحسن البصري، وقتادة، المشهور ذا المكانة الكبيرة في التفسير.
ب. قيمة التفسير المأثور عن التابعين:
اختلف العلماء في الرجوع إلى تفسير التابعين والأخذ بأقوالهم، إذا لم يُؤْثَر في ذلك شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة -رضوان الله عليهم-؛ فنقل عن الإمام أحمد رضي الله عنه روايتان في ذلك: رواية بالقبول، ورواية بعدم القبول، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يُؤخذ بتفسير التابعي، واختاره ابن عقيل، وحُكي عن شعبة، واستدلّ أصحاب هذا الرأي على ما ذهبوا إليه، بأن التابعين ليس لهم سماعٌ من الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن الحمل عليهم، كما قيل في تفسير الصحابي: إنه محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وبأنهم لم يشاهدوا القرائن والأحوال التي نزل عليها القرآن، فيجوز عليهم الخطأ في فهم المراد، وظن ما ليس بدليل دليلًا، ومع ذلك فعدالة التابعين غير منصوص عليها، كما نص على عدالة الصحابة، نقل عن أبي حنيفة أنه قال: “ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيرنا، وما جاء عن التابعين فهم رجالٌ ونحن رجال”، وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه يُؤخذ بقول التابعي في التفسير؛ لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة، والراجح أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به، إلا إذا كان ممّا لا مجال للرأي فيه، فإنه يُؤخذ به حينئذٍ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه -بأن كان يأخذ من أهل الكتاب- فلنا أن نترك قوله، أما إذا أجمع التابعون على رأي، فيجب الأخذ به.
جـ. مميزات التفسير في عهد التّابعين:
أولًا: دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات؛ وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وكان لا يزال عالقًا بأذهانهم من الأخبار ما لا يتّصل بالأحكام الشرعية كأخبار بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وبدء الكائنات، وكثير من القصص، وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل، عمّا يُشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية، فتساهل التابعون، فزجّوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات دون تحرٍّ ونقد، وأكثر من رُوي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب، عبد الله بن سَلَام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير، أمرٌ مأخوذٌ على التابعين، وعلى من جاء بعدهم.
ثانيًا: ظلّ التفسير محتفظًا بطابع التلقي والرواية، لكنه لم يكن تلقيًا ورواية بالمعنى الشامل كما في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ بل كان تلقيًا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص، فأهل كل إقليم يعتنون بوجهٍ خاصّ بالتلقّي والرواية عن إمام مصرهم؛ فالمكيون عن ابن عباس، والمدنيون عن أُبيّ، والعراقيون عن ابن مسعود.
ثالثًا: ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب.رابعًا: كثرة الخلاف بين التابعين في التفسير عمّا كان بين الصحابة، وهو قليل بالنسبة لما وقع بعد ذلك من متأخري المفسرين.