Top
Image Alt

التفسير في عصر التدوين

  /  التفسير في عصر التدوين

التفسير في عصر التدوين

الخطوة الأولى: كان التفسير في عصر الصحابة والتابعين يتناقل بطريق الرواية، فالصحابة يَرْوُوْنَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويروي بعضهم عن بعض، والتابعون يروون عن الصحابة، بعد عصر الصحابة.

الخطوة الثانية: ابتدأ التدوين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أبوابه متنوعةً، وكان التفسير بابًا من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث، فلم يُفرد له تأليفٌ خاصٌّ يفسر القرآن سورة سورة، وآية آية من مبدئه إلى منتهاه، فما رواه البعض من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفسير المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين، كان يوجد بجوار الحديث.

الخطوة الثالثة: انفصال التفسير عن الحديث، فأصبح علم التفسير قائمًا بنفسه، ووضع التفسير لكل آية من القرآن، ورُتّبَ ذلك على حسب ترتيب المصحف، وتمّ ذلك على أيدي طائفة من العلماء، منهم: ابن ماجه، وابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وغيرهم من الأئمة، وكلها مرويّة بالإسناد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير بالمأثور، اللهم إلا ابن جرير الطبري؛ فإنه ذكر الأقوال، ثم وجّهها، ورجّح بعضها على بعض، وزاد على ذلك الإعراب إن دَعَتْ إليه حاجة، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تُؤخذ من الآيات القرآنية.

الخطوة الرابعة: لم يقف التفسير عند هذا؛ بل خَطَى بخطوة لم يتجاوز بها حدود التفسير بالمأثور، وإن كان قد تجاوز روايته بالإسناد، فصنّف في التفسير خلقٌ كثير، اختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم، دون أن ينسبوها لقائليها، فدخل الوضع في التفسير، والتبس الصحيح بالعليل، وأصبح الناظر في هذه الكتب يظنّ أن كل ما فيها صحيح، فنقله كثير من المتأخرين في تفاسيرهم، ونقلوا ما جاء في هذه الكتب من إسرائيليات، على أنها حقائق ثابتة، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع، والإسرائيليات في التفسير، ولقد وُجِدَ من بين هؤلاء المفسرين، من عُني بجمع شتات الأقوال، فصار كلما ظهر له قولٌ أورده، وكلما خطر بباله شيء اعتمده، فيأتي من بعده وينقل ذلك عنه دون أن يتحرّى الصواب فيما ينقل، ودون التفات منهم إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومَن يرجع إليهم في التفسير؛ ظنًّا منهم أن كل ما ذُكر له أصل ثابت، وليس أدلّ على نهم هؤلاء القوم بكثرة النقل، من أن بعضهم ذكر في تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضّآلّينَ} [الفاتحة: 7]، عشرة أقوال مع أن تفسيرها باليهود والنصارى، هو الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين، حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في ذلك اختلافًا بين المفسرين.

الخطوة الخامسة: وهي أوسع الخطى وأفسحها؛ حيث امتدت من العصر العباسي إلى يومنا هذا، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصورًا على رواية ما نُقل عن سلف هذه الأمة، تجاوز إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلي، بالتفسير النقلي، وكان ذلك على تدرّجٍ ملحوظٍ؛ فاعتمد التفسير على الناحية العقلية، وبدأ ذلك أولًا على هيئة محاولات فهم شخصي، وترجيح لبعض الأقوال على بعض، وكان هذا أمرًا مقبولًا، ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة، ودلالة الكلمات القرآنية، ثم ظلّت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم متأثرة بالمعارف المختلفة، والعلوم المتنوعة، والآراء والعقائد المتباينة، حتى وُجِدَ من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بُعدٍ عظيم، فدوّنت علوم اللغة، والنحو والصرف، وتشعّبت مذاهب الخلاف الفقهي، وأثيرت مسائل الكلام، وظهر التعصب المذهبي، وقامت الفرق الإسلامية بنشر مذاهبها والدعوة إليها، وتُرجمت كتب الفلاسفة، فامتزجت كل هذه العلوم -وما يتعلّق بها من أبحاثٍ- بالتفسير، حتى طغت عليه، وغُلِّبَ الجانب العقلي على الجانب النقلي، وصار أظهر شيء في هذه الكتب، هو الناحية العقلية، وإن كانت لا تخلو مع ذلك من منقولٍ يتصل بأسباب النزول، أو بغير ذلك على المأثور.

وتحكمت الاصطلاحات العلمية، والعقائد المذهبية في عبارات القرآن الكريم؛ فظهرت آثار الثقافة الفلسفية والعلمية للمسلمين في تفسير القرآن، وقد استمرت هذه النزعة العلمية العقلية، وراجت في بعض العصور رواجًا عظيمًا، كما راجت في عصرنا الحاضر تفسيرات يريد أهلها من ورائها، أن يحملوا آيات القرآن كل العلوم، ما ظهر منها وما لم يظهر، كأن هذا وجه من وجوه إعجاز القرآن؛ لكي يتمشّى مع الزمن، وهذا غلوّ منه وإسرافٌ يُخرج القرآن عن مقصده الذي نزل من أجله.

6. الخطوة السادسة:

وهي التفسير الموضوعي، فهناك من العلماء من ضيّق دائرة البحث في التفسير، فتكلّم عن ناحيةٍ واحدةٍ من نواحيه المتشعبة المتعددة، فابن القيم –مثلًا- أفرد كتابًا من مؤلفاته للكلام عن أقسام القرآن، سماه (التبيان في أقسام القرآن)، وأبو عبيدة أفرد كتابًا عن مجاز القرآن، والراغب الأصفهاني أفرد كتابًا في مفردات القرآن، وأبو جعفر النحاس أفرد كتابًا في الناسخ والمنسوخ من القرآن، وأبو الحسن الواحدي أفرد كتابًا في أسباب نزول القرآن، والجصاص أفرد كتابًا في أحكام القرآن، وغيرهم كثيرٌ من العلماء الذين قصدوا إلى موضوعٍ خاص في القرآن، يجمعون ما تفرق منه، ويفردونه بالدرس والبحث.

وتوسع المتقدمون في التفسير؛ ممّا جعل المتأخرين لا يلقون عنتًا في محاولاتهم لفهم كتاب الله، وتدوين ما دوّنوا من كتبٍ في التفسير؛ فمنهم من أخذ كلام غيره وزاد عليه، ومنهم من اختصره، ومنهم من علّق الحواشي، وتتبّع كلام من سبقه، تارة بالكشف عن المراد، وأخرى بالتفنيد والاعتراض، ومع ذلك فاتجاهات التفسير، وتعدّد ألوانه لم تزل على ما كانت عليه متشعّبة متكاثرة.

أما في عصرنا الحاضر، فقد غلب اللون الأدبي الاجتماعي على التفسير، ووُجِدَتْ بعض محاولات علمية، في كثيرٍ منها تكلفٌ ظاهر، أما اللون المذهبي فقد بقي سُنة إلى يومنا هذا، بمقدار ما بقي من المذاهب الإسلامية. هذا هو شأن التفسير في مرحلة التدوين، وهذه خطواته التي تدرّج فيها حتى اليوم.

error: النص محمي !!