Top
Image Alt

التفكك كعيب من عيوب شعر المحافظين من وجهة نظر العقاد

  /  التفكك كعيب من عيوب شعر المحافظين من وجهة نظر العقاد

التفكك كعيب من عيوب شعر المحافظين من وجهة نظر العقاد

مدرسة الجيل الجديد:

نتحدث عن مدرسة الجيل الجديد، وهي المدرسة المشهورة في تاريخ الأدب العربي وتاريخ النقد العربي الحديث باسم مدرسة الديوان أو جماعة الديوان، وقد بينا أن اسم هذه المدرسة الأصح والأدق مدرسة الجيل الجديد.

نكمل كلامنا عن نقد العقاد لأحمد شوقي بالحديث عن نقده لقصيدة شوقي في رثاء مصطفى كامل:

وكان العقاد في نقده يشير إلى منزلة القصيدة في رأي أنصار شوقي؛ فهو في هذا الموضع يبدأ كلامه فيقول:

قال قائل من سماسرة شوقي: ما ترى في رثائه لمصطفى كامل؟ أتنتقده؟ قلت: وماذا عساي أن أنتقد إن لم أنتقد الهراء والزيف والشتات؟! قال: إن القصيدة آيته؛ قلت: لقد هديتني -هداك الله- فما كنت أظنها آية لأحد من العالمين، وما حسبتها إلا زلة أسقطته فيها مغالبة الشجون لخاطره أو داهية خانه فيها إمكانه الذي ما فتئ يخونه؛ كما قال منها:

ماذا دهاني يوم بنت فعقني

* فيك القريض وخانني إمكاني

وما دهاه إلا العجز والفهاهة والحرج … وأخذ العقاد يمهد لنقده لهذه القصيدة؛ حتى قال:

فالعيوب المعنوية التي يكثر وقوع شوقي وأضرابه فيها عديدة مختلفة الشيات والمداخل؛ ولكن أشهرها وأقربها إلى الظهور وأجمعها لأغلاطهم عيوب أربعة، وهي بإيجاز: التفكك، والإحالة، والتقليد، والولوع بالأعراض دون الجواهر؛ وهذه العيوب هي التي صيرتهم أبعد عن الشعر الحقيقي الرفيع المترجم عن النفس الإنسانية في أصدق علاقاتها بالطبيعة والحياة والخلود من الزنجي عن المدنية -يريد أن يقول: هذه العيوب جعلتهم أبعد عن الشعر الحقيقي- ومن صور الأبسطة والسجاجيد عن نفائس الصور الفنية؛ ولكل من العيوب الآنفة أثر ظاهر في هذه القصيدة -يقول: هذه القصيدة في رثاء مصطفى كامل فيها أثر من هذه العيوب التي ذكرها: وهي التفكك، والإحالة، والتقليد، والولوع بالأعراض دون الجواهر.

ونلاحظ أنه أشار إلى أن هذه العيوب يقع فيها شوقي وأضرابه -يعني هذا النقد موجه لكل جيل المحافظين أو الشعراء المحافظين- ثم بدأ يتحدث عن التفكك، ويطبق ذلك على قصيدة شوقي، وعرف التفكك بأنه أن تكون القصيدة مجموعًا مبددًا من أبيات متفرقة، لا تؤلف بينها وحدة غير الوزن والقافية، وليست هذه -أي وحدة الوزن والقافية- بالوحدة المعنوية الصحيحة؛ إذ كانت القصائد ذات الأوزان والقوافي المتشابهة أكبر من أن تحصى؛ فإذا اعتبرنا التشابه في الأعاريض وأحرف القافية وحدة معنوية؛ جاز إذن أن ننقل البيت من قصيدة إلى مثلها دون أن يخل ذلك بالمعنى أو الموضوع -وهو ما لا يجوز.

يقول العقاد: ولتوفية البيان نقول: إن القصيدة ينبغي أن تكون عملًا فنيًّا تامًّا يكمن فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة كما يكمل التمثال بأعضائه والصورة بأجزائها واللحن الموسيقي بأنغامه؛ بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها؛ فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهازٍ من أجهزته ولا يغني عنه غيره في موضعه إلا كما تغني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة، أو هي -أي القصيدة- كالبيت المقسم لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها، ولا قوام لفن بغير ذلك حتى فنون الهمج المتأدبين؛ فإنك تراهم يلائمون بين ألوان الخرز وأقداره في تنسيق عقودهم وحليهم؛ ولا ينظمونه جزافًا إلا حيث تنزل بهم عماية وحشية إلى حضيضها الأدنى، وليس دون ذلك غاية في الجهالة ودمامة في الفطرة، ومتى طلبت هذه الوحدة المعنوية في الشعر فلم تجدها فاعلم أنه ألفاظ لا تنطوي على خاطر مضطرب أو شعور كامل الحياة؛ بل هو كأمشاج الجنين المخدج بعضها شبيه ببعض أو كأجزاء الخلايا الحيوية الدنيئة لا يتميز لها عضو ولا تنقسم فيها وظائف وأجهزة؛ وكلما استفل الشيء في مرتبة الخلق صعب التمييز بين أجزائه؛ فالجماد كل ذرة منه شبيهه بأخواتها في اللون والتركيب صالحة لأنْ تحل في أي مكان من البنية التي هي فيها؛ فإذا ارتقيت إلى النبات ألفيت للورق شكلًا خلاف شكل الجذوع وللألياف وظيفة غير وظيفة النوار؛ وهكذا حتى يبلغ التباين أتمه في أشرف المخلوقات وأحسنها تركيبًا وتقويمًا، وهي سنة تتمشى في أجناس الناس كما تتمشى في أنواع المخلوقات، ومصداق ذلك ما نشاهده من تقارب الأقوام المتأخرة في السحنة والملامح؛ حتى لا تكاد تشتبه وجوههم جميعًا على الناظر، وهي حقيقة فطنت إليها قبائل البدو بالبداهة.

وبهذا البيان والشرح وضح العقاد ما يريده من الوحدة المعنوية في القصيدة وهي الوحدة التي شاع تسميتها بعد ذلك بالوحدة العضوية، وهو يرى أن هذه الوحدة مفتقدة تمامًا في شعر شوقي وأضرابه، وأن قصيدة شوقي التي سيطبق عليها هذا المقياس: وهي قصيدته في رثاء مصطفى كامل والتي مطلعها:

المشرقان عليك ينتحبان

* قاصيهما في مأتم والداني

ويقول العقاد: وهذه كومة الرمل التي يسميها شوقي قصيدة في رثاء مصطفى كامل، نسأل من يشاء أن يضعها على أي وضع؛ فهل يراها تعود إلا كومة رمل كما كانت؟! وهل فيها من البناء إلا أحقاف خلت من هندسة تختل ومن مزايا تنتسخ ومن بناء ينقض ومن روح سارية ينقطع اطرادها أو يختلف مجراها؟!…

وتقريرًا لذلك نأتي هنا على القصيدة كما رتبها قائلها، ثم نعيدها على ترتيب آخر يبتعد جد الابتعاد عن الترتيب الأول؛ ليقرأها القارئ المرتاب ويلمس الفرق بين ما يصح أن يسمى قصيدة من الشعر وبين أبيات مشتتة لا روح لها ولا سياق ولا شعور ينتظمها ويؤلف بينها.

وجاء العقاد بقصيدة شوقي كما جاءت عنده في ترتيبها الذي وضعها فيه الشاعر:

المشرقان عليك ينتحبان

* قاصيهما في مأتم والداني

يا خادم الإسلام أجر مجاهد

* في الله من خلد ومن رضوان

لما نُعيت إلى الحجاز مشى الأسى
 
* في الزائرين وروع الحرمان

السكة الكبرى حيال رباهما

* منكوسة الأعلام والقضبان

لم تأْلُها عند الشدائد خدمة

* في الله والمختار والسلطان

يا ليت مكة والمدينة فازتا

* في المحفلين بصوتك الرنان

ليرى الأواخر يوم ذاك ويسمعوا

* ما غاب عن قس وعن سحبان

جارَ التراب وأنت أكرم راحل

* ماذا لقيت من الوجود الفاني

أبكي صباك ولا أعاتب من جنى

* هذا عليك كرامة للجاني

يتساءلون أبسلاسل قضيت أم

* بالقلب أم هل مت بالسرطان

الله يشهد أن موتك بالحجا

* والجد والإقدام والعرفان

إن كان للأخلاق ركن قائم
 
* في هذه الدنيا فأنت الباني

والقصيدة طويلة تبلغ أربعة وستين بيتًا، وبعد أن يثبتها العقاد كاملة بالترتيب الذي جاءت عليه عند شوقي يعيد العقاد ترتيب هذه القصيدة أو يبعثر أبياتها؛ فيأتي بالبيت الرابع عشر بعد البيت الأول، ثم يأتي بالبيت الحادي والعشرين، ثم بالبيت الرابع والستين، ثم بالبيت السابع والعشرين، ثم بالبيت التاسع، ثم بالبيت التاسع عشر، ثم بالبيت السادس والخمسين، ثم بالبيت السادس والثلاثين، ثم بالبيت الخامس والخمسين، وهكذا إلى أن تأتي الأبيات: الخامس، والخامس عشر، والخامس والعشرين، والثاني والعشرين، والرابع والعشرين، والسادس والعشرين في نهاية القصيدة؛ فيأتي ختام القصيدة في ترتيبها عند شوقي بهذه الأبيات:

علمت شبان المدائن والقرى

* كيف الحياة تكون في الشبان

مصر الأسيفة ريفها وصعيدها

* قبر أبر على عظامك حانِي

أقسمت أنك في التراب طهارة

* ملك يهاب سؤاله الملكان

وفي الترتيب الذي جعله العقاد بعد أن بعثر الأبيات يأتي آخر القصيدة هكذا:

للمرء في الدنيا وجل شئونها

* ما شاء من ربح ومن خسران

الناس غاد في الشقاء ورائح

* يشقى له الرحماء وهو الهاني

فاصبر على نعم الحياة وبؤسها

* نعمى الحياة وبؤسها سيان

ثم يقول العقاد فانظر أيها القارئ إلى هذه المرثاة؛ هل ترى بينها وبين سابقتها من تفاوت؟! -العقاد يقول: إنه ليس هناك فرق ولا تفاوت بين الأبيات كما جاءت في ترتيبها عند شوقي وبين القصيدة بعد أن بعثر العقاد أبياتها وبدل في مواضعها وجاء بالبيت الخامس مكان البيت العشرين والبيت الرابع مكان البيت الثلاثين أو كما فعل العقاد.

ثم قال: ولو أننا غيرنا بعض الضمائر التي تعلق الاسم على الاسم ولا رابطة بينهما وصححنا حروف العطف التي تصل الجملة بالجملة ولا تناسب بين معناهما لم يكد يجتمع بيت من القصيدة على بيت؛ وإنما ينحل انحلال هذه القصيدة من سؤال القارئ نفسه هل قرأ في الشعر أشد تفككًا منها؟! فعلى حسب الجواب يكون حكمه على مصدرها من قريحة شوقي؛ وهل هي نبعت من شعور فياض يتدفق على موضوعه فيغمره كما يغمر السيل الوهاد والنجاد، أو تقطرت من عقل ناضب ينضب بالقطرة بعد القطرة بخلع الضرس وبخلع النفس؛ فتأتي كالرشاش لا يتولد منه إلا الوحل واليبس.

ثم يقول العقاد: وقبل أن نتحول بكلامنا عن التفكك وفقدان الوحدة الفنية ننبه من يستبهم عليه الأمر إلى أننا لا نريد تعقيبًا كتعقيب الأقيسة المنطقية ولا تقسيمًا كتقسيم المسائل الرياضية؛ وإنما نريد أن نشع الخاطر في القصيدة ولا ينفرد كل بيت؛ فتكون كما أسلفنا بالأشلاء المعلقة أشبه منها بالأعضاء المنسقة -كما رأينا في هذه القصيدة.

التفكك:

إذًا هذا هو العيب الذي سماه العقاد التفكك: وهو أن القصيدة في شعر شوقي أو غيره من المحافظين لا تتحقق فيها وحدة فنية ويكون البيت فيها مخاصمًا من الناحية المعنوية للبيت الذي يليه ومن البيت الذي قبله؛ فليس هناك رابطة معنوية تجعل أبيات القصيدة تتلاحم ولا تجعل أجزاءها تنسجم.

الوحدة العضوية:

وقبل أن ننتقل إلى العيب الثاني من العيوب التي رمى العقاد بها شعر شوقي نتوقف مع مسألة الوحدة العضوية:

فقد رد النقاد على العقاد فيما ذهب إليه من وجوب توافر ما يسمى بالوحدة العضوية في القصيدة: أي بناء القصيدة بناءً هندسيًّا بحيث تخرج من بين يدي الشاعر كالكائن العضوي الذي لا يمكن نقل جزء منه مكان جزء آخر؛ فيقول الدكتور محمد مندور: وهي دعوة سليمة من ناحية الفلسفة الجمالية؛ ولكنها لا تكاد تتصور في الشعر الغنائي الخالص الذي يقوم على تداعي المشاعر والخواطر في غير نسق وضعي محدد؛ وإنما نتصور هذه الوحدة العضوية في القصائد ذات الموضوع الذي له بدء ووسط ونهاية على نحو ما نشاهد اليوم في عدد من قصائد الشعراء الشبان المعروفين بالشعراء الواقعيين؛ حيث يتخذ كل منهم موضوعًا لقصيدته قصة قصيرة أو دراما سريعة يعالج بها إحدى مشاكل عصره أو مجتمعه.

وعلى هذا الأساس نستطيع أن نتبين ما في بعض المقاييس التي فرعها الأستاذ العقاد عن هذا الأساس من تعسف غير مقبول: مثل زعمه بأن القصيدة السليمة البناء المتمتعة بالوحدة لا يمكن تقديم بيت منها على غيره.

وحكمه على قصيدة مثل رثاء شوقي لمصطفى كامل بأنها مفككة البناء لمجرد أن العقاد قد استطاع إعادة ترتيب أبياتها على نحو جديد دون أن يبدو عليها التخريب.

إذًا الدكتور محمد مندور يتوقف مع العقاد في هذا المبدأ، مبدأ الوحدة العضوية، ويناقشه فيه، ويذهب إلى أن هذا الأمر يصعب تحققه في الشعر الغنائي الذي منه شعر شوقي وغيره من المحافظين في الرثاء والغزل والوصف والمدح وغير ذلك، وأن هذه الوحدة يمكن أن تتحقق فيما يسمى بالشعر القصصي أو الدراما الشعرية.

ثم ذكر مندور أن شعر العقاد يمكن أيضًا أن نأتي منه بالقصيدة الواحدة فنغير في أبياتها ونبدل مواضع الأبيات ولا تفسد القصيدة؛ فالذي فعله مع شوقي في قصيدته في رثاء مصطفى كامل فعله تلميذ من تلامذة مندور كما ذكر وجاء بقصيدة من ديوان العقاد (هدية الكروان) الصادر سنة ألف وتسعمائة وثلاث وثلاثين، فأعاد ترتيب أبياتها ووضع جوار كل بيت رقم ترتيبه في القصيدة الأصلية وهي القصيدة التي يرثي فيها العقاد واحدًا من أدباء قنا كان معروفًا بالورع اسمه: حسين الحكيم.

وقصيدة العقاد تأتي على هذا النحو:

رفيق الصبا المعسول أبكيك والصبا

* وما كان أغلى ما بكيت وأطيبا

هذا البيت الأول أتى تلميذ مندور بعده بالبيت التاسع؛ فقال:

عجيب لعمري موت كل محبب إلينا

* وقد كان التعجب أعجبا

ثم جاء بالبيت الثالث عشر:

عهدتك في شرخ الصبا ناضر الصبا

* وفاجأني الناعي فأجفلت مكذبا

ثم جاء بالبيت العاشر وبعد البيت العاشر جاء بالبيت السابع، ثم جاء بالبيت الثالث … وهكذا؛ بل إن مندور يذكر أن هذا التلميذ استطاع أن يأتي بعدة أبيات أعاد هو نفسه تأليفها من شطرات مختلفة تخيرها من قصيدة العقاد المذكورة واستقام لها الفهم؛ فلم يكتفِ هذا التلميذ بأن يبعثر الأبيات -أبيات العقاد- وإنما أنشأ أبيات من أشطر أبيات مختلفة فيأتي بالشطر الأول من البيت الأول:

رفيق الصبا المعسول أبكيك والصبا

*…. …. …. …. …. …. …. ….

ثم يكمله بشطرة أخرى غير الشطرة التي كملته في ترتيب العقاد، فيقول:

…. …. …. …. …. ….

* وما تعرف الدنيا سوى الموت مذهبا

ومضى هذا التلميذ يبدل في مواضع الشطور أنصاف الأبيات -وليس في مواضع الأبيات- ليثبت تلميذ مندور -ويثبت مندور أيضًا- بهذه العملية أن العقاد نفسه لم يوفر في قصيدته هذه الوحدة العضوية التي طالب بها شوقي، وأن هذه القصيدة للعقاد يمكن أن تتهم وتعاب بالتفكك على مقياس العقاد وبطريقته كما عاب قصيدة شوقي بالتفكك.

نحن إذن نعرض نقد العقاد ونبين ما فيه، ونذكر أن كل ناقد يؤخذ منه ويرد عليه، ويظهر من هذا كله أن في نقد العقاد ذكاء وعلمًا ونقدًا؛ ولكن فيه أيضًا تعسف وتحامل.

هذا إذن هو العيب الأول الذي ذكره العقاد وهو عيب التفكك.

error: النص محمي !!