Top
Image Alt

التنصير معنًى وتاريخًا

  /  التنصير معنًى وتاريخًا

التنصير معنًى وتاريخًا

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، وأصلّي وأسلّم على خيْر خلْقه وخاتم رسُله، سيدنا ومولانا وإمامنا ومعلّمنا محمَّد صلى الله عليه  وسلم.

نلتقي الآن حول موضوع جديد يُعتبر إحدى وسائل الغزو التبشيري، أو الغزو الثقافي، أو الغزو الفكري، في عالمنا العربي والعالم الإسلامي؛ وهو بمعنى من المعاني يُمثِّل مع الاستشراق وجهيْن لعملة واحدة.

تحدّثنا عن الوجْه الأوّل –وهو: الاستشراق- وسوف نتناول -بعون الله تعالى وتوفيقه- الوجْه الثاني من هذه العُملة وهو: التبشير. كلاهما معًا -الاستشراق من جانب، والتبشير من جانب آخَر- يمثِّلان الموقف التاريخي للغرب عمومًا، وإن شئت فقل: لأصحاب الديانتيْن السابقتيْن: اليهودية والمسيحية، من الإسلام.

وأنا أميل عادة إلى أن أسمِّي الأشياء بأسمائها. إن كلمة “تبشير” هي المصطلح الفنّي لتلك الحركة التي يقوم بها علماء النصارى ورهبانهم لنشر تعاليم الإنجيل بين المسلمين أو بين أصحاب الديانات الأخرى، ولكنني أفضل أن أطلق عليها اسمها الحقيقي وهو: التنصير. فأنا أفضِّل استخدام كلمة: “تنصير” بدلًا من كلمة: “تبشير”، لأن هذه الكلمة أكثر دلالة على المطلوب من كلمة “التبشير” التي حاول بعض الكُتّاب أن يستعملوها للتعبير بها عن هذا الجهد التاريخي الذي بذَله ويبذله علماء الدِّين المسيحي من النصارى في نشر وبث تعاليم الإنجيل بين المسلمين وغيرهم.

فإذا علِمْنا أنّ الهدف من نشر تعاليم الإنجيل هو: تنصير المسلمين وغيرهم، كان من الأفضل والأحوط والأوْلى أن نُطلق على هذه الظاهرة كلمة: “تنصير” بدلًا من كلمة: “تبشير”.

وقد يكون مفيدًا لكم -أبنائي وبناتي طلاب هذه الجامعة: أن نعلم جميعًا أنّ سياسة التنصير، وسياسة العمل على نشر أو بثّ تعاليم الإنجيل بين المسلمين ليست جديدة، وليست هي بنت هذا العصر، ولا وليدة جيل بعيْنه؛ بل هي قديمة قِدم الإسلام نفسه، وقد يمتد تاريخها إلى عصر النبوّة، ثم عصر الخلفاء الراشدين، ثم عصر بني أميّة، وما زالت هذه الظاهرة مستمرة إلى يومنا هذا؛ كل ما في الأمر: أنّ أساليب التبشير أو أساليب التنصير تختلف من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، بل من فرد إلى فرد.

وأقدّم وثيقة سجّلت لنا تاريخ الحوار المسيحي الإسلامي هو: القرآن الكريم، وما جاء في القرآن الكريم من آيات كريمة سجّلت لنا ما كان يدور بين الرسول صلى الله عليه  وسلم مع أهل الكتاب في المدينة المنوّرة من حوار. وهذا الحوار -كما نلاحظ في الآيات القرآنية- كان يشتدّ أحيانًا ليأخذ شكل الصراع الذي يذهب إلى مستوى الكيْد للرسول، والتدبير لقتل الرسول صلى الله عليه  وسلم كما فعلت اليهود مع الرسول في المدينة. وكان يهدأ أحيانًا ليأخذ شكل الحوار الموسوم بالسِّمة العقلانية.

وهناك سورتان في القرآن الكريم سجّلتا لنا ما كان يجري بين الرسول وأهل الكتاب، وهما: سورة “آل عمران” وسورة “المائدة”. والذي يتدبّر آيات الحوار الواردة في هاتيْن السورتيْن يقف تمامًا على حقيقة هذه القضية، وحقيقة الموقف العقدي الذي كان يمثِّل موضوع هذا الحوار، وكيف فضح القرآن الكريم سرائر هؤلاء النصارى واليهود حين بدّلوا وحرّفوا ما أنزل الله على عيسى النبي، وما أنزله على موسى النبي. وبيّن أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هو من عند الله، وفي واقع الأمر ما هو من عند الله، وإنما هو من عند أنفسهم. واستمرت موضوعات هذه القضية تجسِّد نبرة الحوار الدينيّ خلال عصور الإسلام المتوالية.

وجسّد القرآن لنا هذا الهدف الذي استندنا إليه في تسمية الحركة بأنها تنصير وليست تبشيرًا، جسّدها لنا القرآن الكريم في العديد من آياته. اقرءوا معي إن شئتم قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَىَ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَىَ حَتّىَ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ} [البقرة: 120]. واقرءوا إن شئتم قوله تعالى: {وَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء: 89]، وقوله تعالى: {وَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2]، وقوله تعالى: {لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُواْ}([المائدة: 82]. هذه مواقف أودّ أن أضعها تحت أيديكم مع بداية حديثنا عن قضية التنصير في العالم؛ لأنها تجسد لنا الهدف الحقيقي من وراء الوسائل والمظاهر والمناهج التي اعتمدتها حركة التبشير في العالم في عصورها المختلفة.

ولقد تصدّى علماء الإسلام لهذه الظاهرة عبر القرون العديدة، فنجِد من علماء الكلام المعتزلة من يضَع رسالته في الرد على النصارى وما أثاروه من فِتَن بين المسلمين، ونجِد القاضي عبد الجبار في كتابه: (دلائل النبوَّة) نبّه على أساليب النصارى ومنهجهم في نشر تعاليم الإنجيل بين المسلمين، وردّ عليهم افتراءاتهم. كما تصدّى لنفس القضية الإمام ابن حزم في كتابه العظيم: (الفِصَل)، والإمام الشهرستاني في كتابه (المِلَل والنِّحَل)، وعلي بن ربن الطبري في رسالته: (الرد على النصارى)، والإمام ابن تيمية في كتابه العظيم: (الجواب الصحيح لمَن بدّل دين المسيح)، وابن القيم في كتابه: (هداية الحيارى في الرد على النصارى)، وكذلك الإمام القرافي في كتابه: (الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة)، والإمام القرطبي في كتابه: (الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام)، وكثير من الرسائل التي لا تكاد تُعَدّ ولا تُحصى في هذا الغرض، وكلها تناولت الفتن والشبهات والشكوك التي أثارها النصارى واليهود في هذه العصور المتتالية حول القرآن، وحول مصدر القرآن، وحول نبوّة محمد صلى الله عليه  وسلم وحول كونه خاتم الأنبياء أم ليس خاتم الأنبياء، إلى آخر الشبهات التي كانوا يُثيرونها من حين إلى آخَر. تولوا جميعًا الرّدّ عليها وتفنيدها، بل أكثر من هذا تجاوزوا مستوى الرّد على أكاذيبهم إلى محاولة نقْد ما في كتبهم، من تناقض وتحريف وتزوير وضَعه أهل هاتيْن الدِّيانتين بأيديهم ونسبوها إلى الله سبحانه وتعالى

ولعلّ من المفيد أن أنبِّه هنا إلى: أنّ هناك علمًا مستقلًّا برأسه الآن، يُدرس في معظم الجامعات الأوربية والجامعات الإسلامية أيضًا، يُسمّى: علم مقارنة الأديان. لقد وضع المسلمون الأوائل أصول ومناهج هذا العلْم من خلال تناولِهم لهذه الكتب السابقة ومقارنة بعضها ببعض، بل مقارنة أوّلها بآخرها لإظهار ما بها من تناقض لبيان أنّ التحريف والتبديل قد تطرّق إليها في كثير من المواضع، ممّا أصابها بالخلل، وصدق الله العظيم في قوله تعالى: { يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ}  [النساء: 46].

وفي عصرنا الحاضر، كتب الأستاذ “رحمة الله الهندي” كتابه العظيم: (إظهار الحق) الذي يُعتبر من أهم الكتب الحديثة التي عرضت لقضية التبشير بأسلوب رصين ومنهج علمي رائع، أفاد من كتب العلماء السابقين. ثم بدأت هذه القضية تأخذ مكانها البارز في اهتمامات المفكرين المعاصرين لنا، وفي الأقسام الأكاديمية في كليات الجامعات المتعدّدة. ولعلّها تمثل الآن أهمّ قضايا الحوار القائم بين المسيحية والإسلام في المؤتمرات المتعدّدة التي أخذت تحتلّ بؤرة الصراع القائم بين أهل هاتيْن الديانتيْن عبر التاريخ. وتحوّلت لغة الصراع إلى لون جديد من الحوار، كمظهر جديد من مظاهر العلاقة بين هاتيْن الديانتيْن.

سوف أركِّز على نصوص القائمين بحركة التبشير أنفسهم أو القائمين على سياسة التنصير، وكذلك على التوصيات التي يُوصون بها في مؤتمراتهم المتعدّدة؛ ليكون كلامهم هُم شاهدًا لنا بما نريده من هذه الدروس، من حيث هدفها، ومن حيث غايتها، وليكون في نفس الوقت ردًّا عمليًّا على الذين يردِّدون كلامهم ويتشيّعون لمنهجهم، تحت ستار المدنية أحيانًا، وتحت ستار التحضّر والتنوير أحيانًا، وما إلى ذلك من مسمّياتهم الكثيرة التي يتستّرون خلفها لبثّ أفكارهم بين المسلمين.

ولقد نشطت المؤسسات التنصيرية في عالمنا المعاصر منذ القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين، واشتدت بعد الحربيْن العالميتيْن الأولى والثانية، ممّا لفت أنظار المفكّرين المسلمين أن يتنبّهوا لخطورة هذه القضية وسوء عاقبتها، ممّا دعا البعضَ إلى رصد هذه المؤسسات، وتتبّع تاريخ هذا النشاط التنصيري في القرنيْن الأخيريْن بالذات.

وقبل أن أدخل إلى الحديث عن تاريخ حركة التبشير أو التنصير، أودّ أن أضع أمام حضراتكم تعريفًا بسيطًا لمعنى “التبشير”، ومن هو “المبشِّر”؟ وما هي أهداف هذه الحركة؟

فإن كلمة “التبشير” بهذا التعبير اللغوي الذي أطلقه رجال الكنيسة النصرانية على النشاط الذي يقوم به الرهبان والقساوسة والمتعهِّدون بهذه المهمّة لمحاولة تنصير الشعوب غير النصرانية، ولا سيَّما بين المسلمين، تعبير أطلقه رجال الكنيسة النصرانية على هذا النشاط الذي يقوم به فئةٌ من رجال الكنيسة. قد يكونون قساوسةً، أو رهبانًا، أو تجارًا، أو علماء فلَك، أو علماء دِين، أو مهندسين، أو فنيين، لأن هذه المهمة -مهمّة التبشير أو التنصير- هي في حقيقتها تعتبر مسئولية كلّ من يَدين بالنصرانية، لكنهم بدءوا يخصِّصون لها رجالًا معيّنين بمناهج معيّنة ووسائل معاصرة؛ ليكتسبوا بها وجاهة عند أولئك الشعوب التي يعملون فيها. ثم تحوّل هدف التبشير داخل الشعوب المسلمة ليس الهدف منه إدخال المسلم إلى الديانة النصرانية، ولكن كما صرح بعضهم: أن يخرج المسلم عن دِينه، ولا ينبغي أن ينال شرف النصرانية.

افهموا هذه القضية! غايتها: إخراج المسلم عن دِينه، هل ليكون نصرانيًّا؟ في العصور المتأخِّرة اعتبروا أن هذا شرفٌ لا ينبغي أن يلحق به أبناء المسلمين، وصرّحوا بهذا في بعض المؤتمرات التي سوف نتعرّض لها بالتفصيل فيما بعد. هذا هو التعريف البسيط جدًّا لحركة التبشير. والمبشِّر أو المبشِّرون أو المنصِّرون هم: الذين يجنِّدون أنفسهم للقيام بهذه المهمة، سواء أكانوا من العاملين أو العاملات في السلك الكنسي كالرهبان والقساوسة، أو في الأعمال المدنية من المتطوِّعين والمتطوعات من ذوي الاختصاصات الأخرى، كالمهندسين والأطباء، والممرضات، والحكيمات، والمشرف الاجتماعي، والأخصائي النفسي، والطبيب … و … و … إلى آخره.

فليست المهمة إذن قاصرة على رجال الكنيسة، ولا على المنتمين إلى العمل الديني، وإنما كل نصراني يعتبرها جزءًا من مهمّته بمقتضى انتمائه إلى النصرانية. وهم يستدلّون على ذلك بأدلة من الأناجيل قد نتعرّض لها فيما بعد؛ إنما المهمّ: أن نعلم أنّ وظيفة التبشير ليست قاصرة على القسيس أو الراهب، وإنما تمتدّ لتشمل كلّ من ينتمي إلى المسيحية، وكلّ حسب استطاعته؛ ولذلك وجدْنا بعضهم يُنصِّر أو يُبشِّر عن طريق الدعوة إلى النصرانية مباشرة، والبعض الآخر يستخدم التعليم أو الثقافة العامة، أو الخدمات الصحية، أو الخدمات الاجتماعية، أو دسّ الأفكار التنصيرية في مقالة، في مسرحية، في رواية، في حديث تليفزيوني، في مؤتمر … إلى آخره.

أما كلمة “التبشير” في أصلها اللغوي فهي تحمل معنى: البشارة بما هو خير، أو تبليغ ما هو خير للناس؛ لكي يكون واقعُ المبشِّرين الصليبيِّين وأهدافهم من التبشير تحمل هذه الدلالة التي تدعو إلى التفاؤل. “التبشير”: كلمة “البشارة” -كما قلت: خبر بما هو خيْر، فعندما يُطلق على نفسه كلمة “مبشِّر”، وعلى كلامه اسم “التبشير”، يدعو المستمع إلى التفاؤل بما يسمع. وهذه المصطلحات ينبغي أن نتوقّف أمامها لِنعرف دلالتها اللغوية، والهدف منها؛ وهذا باختصار هو معنى كلمة “التبشير”، والهدف من التبشير، وكلمة “المبشِّر”.

أنتقل بعد هذا إلى الحديث بإيجاز عن تاريخ التبشير؛ لأننا سوف نجد في تأريخنا لهذه الحركة أنها مرت بمستويات: فقد كانت في العصور السابقة -خاصة في العصور الوسطى- كانت تقتصر على بعض النشاطات التي يقوم بها أفراد معيّنون جنّدوا أنفسهم لهذه القضية: فرْد هنا وفرْد هناك، لكنها في العصر الحديث أخذت تأخذ شكلًا تنظيميًّا في صورة مؤسّسات تبشيرية، جميعات تبشيرية، دُور، مدارس، معاهد، كليات، أقسام في كليات. بدأت تأخذ شكلًا تنظيميًّا أكثر ممّا كان موجودًا في العصور الوسطى.

وإذا تتبّعنا تاريخ هذه المؤسسات التبشيرية، سوف نجد أنّ معظم المؤرِّخين لهذه الحركة يكادون يُجمعون على: أنّ أوّل مَن مارس هذه المهمّة في العالَم الإسلامي الحديث هو: “ريمون لول” 1299م أو 1300م تقريبًا. هذا الراهب كان مفكرًا إسبانيًّا تعلّم اللغة العربية، واستطاع أن يحصل على إذْن كتابي من الملِك يعقوب -صاحب مدينة أرهونة في إسبانيا- ليقوم بمهمّة التبشير في مساجد المسلمين وبين صفوف المسلمين. ونحن نعلم أن الإسلام ظلّ في إسبانيا ما يقرب من ثمانية قرون، لكن في أواخر عهد الإسلام بهذه المنطقة الجغرافية بدأت تتسلّل عوامل الضعف بين صفوف المسلمين، فانتهز المستشرقون هذه الظاهرة -ظاهرة ضعف المسلمين، وظهور ملوك الطوائف- وبدءوا يستغلّون هذه الفرصة لنشر تعاليم الإنجيل بين صفوف المسلمين.

وكان في ذلك محتميًا بالسلطة المسيحية في إسبانيا، وذلك بعد أن فشلت الحروب الصليبية في تحقيق أحلام الغرب، وعودة بيت المقدس إلى السلطة الكنسية وانتزاعه من أيدي المسلمين. ولعلنا هنا نستطيع أن نربط بين ظهور فكرة الاستشراق من جانب، وظهور قضية التبشير بشكل منظّم أو في هيئة مؤسسية من جانب آخَر. يعني: يمكن أن نقول بشيء من الاطمئنان: أنّ ظهور الاستشراق ارتبط بظهور التبشير في شكل مؤسسي، في شكل منظم، أو تحت رعاية الدولة.

وكان قبل ذلك قد تأسس في سوريا وبلاد الشام جماعة تسمَّى: “جماعة الإخوة الكرملية” أسّسها أحد الصليبين في سنة 1157م. هذه التواريخ مهمة جدًّا لكي نعرف منها كيف تحوّل التبشير من نشاط فردي -مجهودات فردية غير منظّمة- إلى نشاط مؤسسي سياسي تتبنّاه الدولة وتتبنّاه الحكومة القائمة.

سنة 1157م تأسّست هذه الجماعة التي أطلقت على نفسها: “الإخوة الكرملية”. وأطلق على المكان الذي تأسّست فيه اسم: جبل الكرمل. وفي أوائل القرن الثالث عشر تأسّست مدرسة الآباء الفرنسيسكان والدومينيكان، وأنشأت لنفسها فروعًا مختلفة في أنحاء سوريا وبيروت. ومن المهمّ: أن نشير هنا إلى أنّ المدارس التبشيرية التي تأسّست في سوريا وبيروت كان لها أكبر الأثر في أمور مهمة جدًّا تتعلّق بمستقبل الإسلام والمسلمين في هذه المنطقة. فقد ساعدوا على إسقاط الخلافة العثمانية من جانب، وساعدوا على نشر الفكر القومي من جانب آخَر، وساعدوا على أكذوبة فصْل الدِّين عن الدولة من جانب ثالث. مع امتداد التاريخ، نجد أنّ هذه المنطقة النشاط التبشيري فيها نشيط جدًّا وله آثار قوية جدًّا في المنطقة. ويمكن أن نأخذ من هذه النقطة التاريخية بدايات طبيعية للتفكير في تأسيس دولة إسرائيل في منطقة شمال الجزيرة العربية، أو في منطقة فلسطين الآن. التفكير في تأسيس هذه الدولة تمالأ عليه الفكر الاستشراقي والفكر التبشيري، متعاونًا مع الفكر الصهيوني الماسوني كما سوف نعرف فيما بعد. وفي أعقاب الحروب الصليبية كتب (وليم الطرابلسي) في بيروت رسالة تتعلق بشئون المسلمين، يوصِي في هذه الرسالة باستخدام المرسلين -المرسلين الذين يعنيهم: هم المبشِّرون أو المنصِّرون- بدلًا من الجنود المعسكرين، لاستعادة البلاد المقدسة. وهذا الكلام كتبه “فيليب حتى” في كتابه: (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين) في الجزء الثاني صـ 263. ليس هذا الكلام من عندي، وإنما هو من عند المؤرخين الذين أرخوا للحضارة الإسلامية في بلاد الشام والحركة التبشيرية فيها. ولقد أشار “فيليب حتى” إلى هذه الوثيقة الخطيرة في كتابه عن تاريخ سوريا وفلسطين، وأوضح القول في العلاقة المتبادَلة بين الاستشراق من جانب والتنصير من جانب آخَر. وأشار إلى أن هدف الفريقيْن يكاد يكون واحدًا، وإن اختلفت الوسائل بينهما؛ فالمبشرون يستفيدون من دراسات المستشرقين؛ دراستهم لخصائص البلاد: أحوالها الثقافية، أحوالها الاجتماعية والسياسية، عاداتها، تقاليدها، كيفية التقرب إلى أهلها، ما هي المداخل النفسية لأهل هذه البلاد؟ كيف يتم التعاون؟ ويكون التعاون قائمًا بين المبشرين وبين أهل هذه البلاد لاستقطاب أهل الرأي في المنطقة للسيطرة عليها بكل الوسائل المتاحة؟ ولقد ركّزت حملات التنصير في العصر الحديث على أطراف العالم الإسلامي، والمناطق النائية في شرق وجنوب شرق آسيا، وبصفة خاصة في بلاد إندونسيا.

error: النص محمي !!