Top
Image Alt

التّسامح عن قوة وعزّة لا عن ضعف وذلّة، الحرية الإنسانية بضوابطها في الإسلام

  /  التّسامح عن قوة وعزّة لا عن ضعف وذلّة، الحرية الإنسانية بضوابطها في الإسلام

التّسامح عن قوة وعزّة لا عن ضعف وذلّة، الحرية الإنسانية بضوابطها في الإسلام

الدعامة الرابعة: التّسامح عن قوة وعزّة، لا عن ضعف وذلّة:

فقد دعا الإسلام إلى التسامح غير الذليل، أي: التسامح عن قوّة وعزّة، لا عن ضعف وذلّة أو هوان؛ فالإسلام يبني العلاقات الإنسانية -سواء أكانت بين الأفراد أو الآحاد، أم كانت بين الجماعات- على التسامح، من غير استسلام للشر أو تمكين للأشرار. وقد نص الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم على ضرورة دفْع العداوة بالتي هي أحسن. وأنّ هذا الدفع الكريم هو الذي يجلب المحبة إذ كان لها موضع. وأمر نبيّه الأمين أن يصفح الصفح الجميل عمّن يعاديه. والصفح الجميل هو: الصفح في علوّ، ومن غير استسلام للشر، أو استخذاء للأشرار.

أذكر لكم بعض ما ورد في هذه المعاني من آيات كثيرة في الذِّكْر الحكيم، مثل: قوله -تعالى-: ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ} [فُصِّلَت: 34]، وقوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحِجر: 85]، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ} [النحل: 126، 127]، ثم قوله -تعالى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

وإذا كان هناك ما يوجب عقاب الأشرار أفرادًا أو جماعات، فإنّ العقاب يجب أن يكون في دائرة الأخذ بالحق من غير اعتداء. وإذا كان الصبر ممكنًا يكون أوْلى بالاتّباع.

ولقد طبّق النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ التسامح في علاقاته بالمشركين وغيرهم، في معاهداته وفي حروبه. ففي المعاهدات نراه في صلح الحديبية، وهو الصلح الذي عُقد بيْنه وبين المشركين عندما أراد أن يحجّ فمنعوه، وأبوْا أن يدخل البيت الحرام، وقد كان أساس هذا الصلح شططًًا من جانب المشركين، وسماحة من جانب النبي صلى الله عليه وسلم. فقد أصروا في صلحهم على أن يمنعوه من الحج في عامه هذا، فقبِل هذا الشرط، ومعه جيش يستطيع به أن يدكّ عليهم ديارهم. وليس هذا فحسب، بل اشترطوا مع ذلك أنّ من يخرج من مكة مسلمًا ملتحقًا بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يُردّ إليهم إن لم يكن ذلك برضا أهله، وأنّ من يخرج من عند محمد مرتدًّا إلى مكة يَقبلونه ولا يمنعونه، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم السمح الكريم ذلك الشرط، حتى ضجّ بعض المؤمنين من قبوله. ووقف عمر بن الخطاب يهزّ سيفه ويقول: “لماذا نرضى بالدّنيّة في ديننا؟”. ولكنها الحِكمة النبوية والرسالة المحمدية، آثرت الصبر والسماحة وحقن الدماء. ولم يكن ذلك قبولًا للدّنيّة، ولكنه الهدي الإسلامي الذي حثّ على الصبر بدل القتل والقتال، والرفق بدل العنف؛ وتأجيل فيه رفق خير من تعجيل فيه عنف، ولا يعلم مدى هذا العنف وآثاره إلا الله سبحانه وتعالى.

على أن الصفح الجميل أبرز ما يكون ظهوره عند الانتصار؛ فما كانت الحرب للثأر ولا الانتقام، بل لإعلاء الحق ودفع عدوان الباطل؛ ولذلك عندما فتح الله تعالى مكة وخضعت لكلمة التوحيد، كان الصفح الكريم. فقد قال النبي الرحيمصلى الله عليه وسلم بعد أن استتبّ له النصر للملإ من قريش: ((ما تظنّون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا. أخ كريم وابن أخ كريم. فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: أقول لكم ما قاله أخي يوسف لإخوته: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ} [يوسف: 92] اذهبوا، فأنتم الطلقاء!)) أي: الأحرار.

ولقد كان ذلك شأنه في كلِّ حروبه: تطيّب القلوب بالصفح بدل أن يثيرها بالانتقام؛ فبعد غزوة بني المصطلق يُخرج من الأسْر مائة بيت أراد المسلمون أن يسترقّوهم، بأن تزوّج جويريه بنت الحارث كبير هذه القبيلة، فأطلق كل مجاهد مَن في يده الأسرى، وقالوا: كيف نسترقّ أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان عمل الرسول صلى الله عليه وسلم إعلانًا للصفح، وما كان الزواج لشهوة يبتغيها؛ لأنه كان يستطيع قضاءها بامتلاكها؛ بل هو الصفح في أجملِ صوَره. وكذلك فعَل مع صفيّة ابنة حيي بن أخطب كبير أهل خيبر، بعد الانتصار عليهم ودكّ حصونهم حصنًا حصنًا. إنها صورة عملية رائعةٌ للعفو والتسامح والصفح الجميل. صورة تذكِّرنا بعتاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم عن موقفه من أسرى بدر في سورة “الأنفال”. إنه عتاب قاس وشديد اللهجة -إن جاز هذا الوصف- لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتّىَ يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الاَخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68].

من مجموع ذلك يتبيّن لنا: أن التسامح والصفح الجميل هو السياسة الإسلامية التي رسمتْها النبوة في العلاقة بين الناس بعضهم مع البعض، وخصوصًا بين المسلمين وغيرهم. وهي السياسة المطلقة في حال السِّلم، والسياسة الشافية للقلوب المجروحة في أعقاب الحروب، لأن المغلوب المجروح يجب أن يَرفأ جروحَه بدل أن يَنكأ قروحه.

الدعامة الخامسة: الحرية الإنسانية بضوابطها في الإسلام:

فالشخصية الإنسانية -سواء أكانت شخصية آحاد، أم شخصية معنوية لجماعة أو دولة- لا تتوافر إلاّ في ظل الحرية. فإن الله -تعالى- الذي خلَق الإنسان مستعدًّا للعلم بالأشياء، كما أشرنا؛ إذ قلنا: إنّ الله أخبر بأن الله علّم آدم الأسماء كلها، أي: جعل فيه الاستعداد للعلْم بما في الكون وما يسيِّره وبالنواميس التي تحكمه، وإن ذلك الاستعداد لا ينمو إلاّ في حرية مكفولة، فلا بد أن يكون فكْره حرًّا، ولا بد أن يكون حرًّا في تنقلاته وحرًا في إقامته وترحاله. ولا يمكن أن تنمو أيّ قوّة إلا في حركة حُرّة مستمرة، سواء أكانت حركة الجوارح الظاهرة، أم حركة المواهب الكامنة. وإنّ الحرية الحقيقية تبتدئ بتحرير النفوس من سيطرة الأهواء والشهوات وجعلها خاضعة لسلطان العقل والإيمان؛ ولذلك دعا الإسلام إلى تحرير النفوس من هذه السيطرة، وندّد بالذين يتّبعون أهواءهم من غير أن تسيطر عقولهم وإرادتهم، وعبّر عن هؤلاء الذين يخضعون لأهوائهم بأنهم يتّخذون إلههم هواهم؛ قال تعالى: {فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} [القصص: 50]، وقوله -أيضًا-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَـَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَىَ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىَ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىَ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّهِ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ} [الجاثية: 23].

والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أيضًا إلى إخضاع الهوى للإيمان وحُكم العقل؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به))، واعتبر الرجل القويّ هو الذي يسيطر على هواه في غضبٍ أو في رضا؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصَّرعة))، وفي رواية: ((ليس الشديد بالقوة)) -أي: الذي يصرع الرجال أو القوي- (( إنما الشديد مَن يملك نفسَه عند الغضب)).

وعلى ذلك؛ لا يعرف الإسلام من الحرية: الانطلاق وراء الهوى من غير قيْد من حُكم العقل والإيمان الصادق؛ إنما الحرية تبتدئ بتحرير الإرادة والعقول من أغلال الأهواء والنزوات. وإذا كنا نقرّر أنّ الحرية مبدأ إسلامي يجب توافره لكمال الشخصية الإنسانية في الأفراد والجماعات، فإنّ حرية الإسلام تبتدئ بتقييد نفس الحُر لحُكم العقل حتى لا يضلّ أو يُضِل.

ومن مظاهر هذه الحرية في الإسلام: حُرِّيّة التّديّن: فقد احترم الإسلام حرية العقيدة احترامًا كاملًا، فمنَع الإكراه في الدِّين، إذ نفى القرآن الكريم بالنص أن يكون الإكراه طريقًا للدِّين، ومنع المؤمنين من أن يُكرهوا أحدًا على الدخول في الإسلام. وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النص المانع، قال -تعالى-: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 265]، وقال تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، ويُذكر أنّ صحابيًّا من الأنصار أراد أن يُكره ابنيْن له على الإسلام، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وجاءت امرأة عجوز إلى عمر رضي الله عنه تطلب منه بعض الحاجة, ولم تكن مسلِمة, فدعاها عمر إلى الإسلام فامتنعت. فخشي الفاروق أن يكون قد أعْنَتها بما طالب، فاتّجه إلى ربه ضارعًا، وقال: “اللهم إني لم أُكرِهْها”.

وإن الإسلام ليعتبر امتحان المؤمن في عقيدته فِتنة، ويقرِّر أنّ الفتنة أشدّ من القتل؛ لأنها تعذيب للروح والعقل والقلب. وإنّ حرية التديّن لا تتكوّن للرجل الحر مِن مَنْع الإكراه فقط؛ بل لا بُدّ أن يكون أساس العقيدة تفكيرًا سليمًا يحكم العقل، من غير تقليدٍ ولا خضوع لأهواء جامحة مسيطرة.

عناصر حُرية الاعتقاد:

وبذلك تتكوّن حُرية الاعتقاد من عناصر ثلاثة:

أوّلها: تفكير حرّ غير مأثور بتعصب لجنسية أو تقليد أو شهوة أو هوى؛ فكثيرًا ما تتحكم الأهواء والجنسية باسم التديّن.

وثانيها: منع الإغراء أو الإكراه للحمل على العقيدة؛ فليس بمتديّن حر مَن يعتقد اعتقادًا تحت تأثير إغراء بالمال أو المنصب أو الجاه. وإنه من أشدّ أنواع الإكراه: تسليط المخدّرات والمسكرات كما يفعل بعض المبشِّرين بالمسيحية في إفريقية أو غيرها…

وثالثها: العمل على مقتضى العقيدة، وتسهيل ذلك لكلِّ معتنق لِدين من غير إرهاق، وقد حمَى الإسلام هذه العناصر كما ذكرْنا؛ فمَنع الإكراه والإغراء لِيتحرّر الفكر، ومنَع التقليد؛ بل دعا الناس إلى النظر الحر في الكون وما يشتمل عليه من أسرار، ليستنبطوا بالنظر في الآيات الكونية عظمةَ الخالق المُبدِع. ولا تكاد تفتح المصحف حتى نور القرآن بين يديك يحثُّ على السير في الأرض والنظر في الكون.

ولذلك قال القائل:

وفي كل شيء له آيةٌ

*تدلُّ على أنه الواحدُ

ومن الآيات الدالة أيضًا على ضرورة النظر في الكون: قوله -تعالى-: {أَمّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـَهٌ مّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (61) أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوَءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرْضِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ (62) أَمّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ تَعَالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ (63) أَمّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ والأرْضِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل 60- 64].

ولقد نهى الإسلام عن التقليد الأعمى من غير دليل ولا برهان، فلعن الذين يتبعون آباءهم من غير دليل، وقال سبحانه وتعالى في ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].

وإن الإسلام عمل على حماية عقيدة الذين يستظلّون بظلّه، أو يعقدون معه عهدًا، أو لا يثيرون عليه حربًا؛ بل إنه سهّل لهم القيام بشعائر دِينهم، ومن ثَمّ قرر فقهاء المسلمين فيما استنبطوه من نصوص قرآنية ونبوية، ومن أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام قاعدة تقول: “أُمِرْنا بترْكهم وما يَدِينون”. وبهذه القاعدة المجمَع عليها من فقهاء المسلمين، حُميتْ حرية العقيدة في ظل الإسلام؛ فلا يُضارّ غير المسلم فيما يعتقد، ويُقيم شعائره الدينية حرًّا غير مضطرب ولا وَجِل أو خائف، ما دام محافظًا على النظام العام ولم يُؤْذِ مشاعر أصحاب الملل والنحل الأخرى.

وروي في تسهيل عبادة غير المسلمين الذين تَحكمهم الدولة الإسلامية: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما ذهب ليعقد معاهدة السلام والأمن مع القائمين على إيلياء رأى رضي الله عنه هيكلًا لليهود قد ستره التراب ولم يبقَ منه إلا أعلاه، فجاء بفضل ثوبه وأخذ بعض التراب المتراكم فيه، فاقتدى به جيش المسلمين؛ فزال كلّ ما ستر الهيكل من تراب، وبدا واضحًا ليقيم اليهود عنده شعائرهم الدينية. وفي هذه الرحلة الطيبة المباركة حضر وقت الصلاة وهو بجوار كنيسة بيت المقدس فصلّى خارجها، فقيل له: ألاَ تجوز الصلاة فيها؟ فقال الحاكم العادل الحر: “خشِيت أن أصلّي فيها، فيزيلها المسلمون من بعدي ويتّخذونها مسجدًا”. فأيّ حماية للحرية الدينية أقوى من هذه المواقف؟ أو أي تسهيل لأداء العبادات لغير المسلمين أكرم من هذا؟!.

وإن فقهاء المسلمين، إذ يقررون الحرية الدينية على هذا النحو السمح، ينبعثون عن فكرة نبتَت عن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم لأن مَن له دينٌ ولو كان مخطئًا، له هديٌ يهديه وله وازع دينيّ يزجره.

وفي الجملة: إن لهؤلاء الذين يستظلون بالدولة الإسلامية أحكامًا خاصة بُنيت على التسامح، سنبيّنها في موضعها -إن شاء الله تعالى- عند الكلام عن حال السّلم في العلاقات الدولية في الإسلام.

أيضًا، من مظاهر الحرية أو من صوَرها: الحرية في تقرير المصير؛ حيث ضمن الإسلام حرية الرأي، وحرية العقيدة، وحرية الإقامة لمن يستظلّون برايته. وضمَن حرية تقرير المصير لِمَن يخالفونه.

فقرّر أوّلًا: أنه لا يجوز لمسلم أن يخضع لدولة غير إسلامية، ولا يجوز للمسلمين أن ينضوُوا تحت لواء دولة غير إسلامية؛ لأنهم لا يتمكّنون من تنفيذ أحكام دِينهم في الأسرة وفي المعاملات الإسلامية والزواجر الاجتماعية إلا في ظل حاكمٍ مسلمٍ يستمدّ حُكمه من القرآن والسّنّة، لا من أوضاع الناس وأعرافهم، لأن الإسلام -ككلّ الأديان- جاء لإصلاح أوضاع الناس لا للخضوع لها. ولو أن أوضاع الناس هي التي يجب أن تسود، ما بعث الله رسوله، ولكانت الأديان السماوية لا أثر لها في العمل؛ ولذلك كان من الخطأ البيِّن أن نُخضع أحكام الشريعة لأهوائنا، وكان من الصواب والحكمة أن نَخضع نحن لأحكام الشريعة؛ فهي الحاكمة علينا أو نحن محكومون بها. وإنه في سبيل تنفيذ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا يُؤمِن أحدُكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)).

قرّر الإسلام أنّ لكلِّ أمّة أن تقرِّر مصيرها من غير اعتداء أمّة على أخرى، ولا يجوز للمسلمين أن يعتدوا على أحد، ولا يجوز لدولة الإسلام أن تستعمر أرض دولة أخرى أو تأخذ وسائل الاستغلال من أيدي أهلها. وإنه حتى في حال الاعتداء، لا يجوز التّحكّم في المغلوبين وانتزاع أرضهم من أيديهم. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومَن جاءوا بعده أبقَوا الأرض الزراعية في أيدي أهلها، وجعلوا عليها ضرائب مفروضة سمّوها: “الخراج”، وهو: ضريبة لا تزيد على ما يُفرض الآن من ضرائب في البلاد الحرة، كما أنها لا تزيد كثيرًا عما يُفرض على الأرض الزراعية من زكاة عن الزروع والثمار بشروطها أيضًا. ولا قتال إلاّ إذا كان اعتداء -على ما سنبيّن، إن شاء الله تعالى- أو إذا وُجد القتال فحق الشعوب في تقرير مصيرهم ثابت؛ ولذلك كان القائد المسلم الذي يرسله النبي صلى الله عليه وسلم للقتال بسبب الاعتداء يخيِّرهم بين الإسلام أو العهد أو القتال. فإن اختاروا العهد كان الوفاء واجبًا، وإن اختاروا القتال كان بسبب ما اختاروا.

وإن تقرير المصير كان يثبت حتى في الميدان وبعد النصر؛ يروى أنّ قتيبة بن مسلم الباهلي فتح بعض أقاليم سمرقند من غير أن يُخيّرهم بين الإسلام أو العهد أو القتال، فشكا أهل هذا الإقليم إلى الحاكم العادل الذي نهج منهاج الراشدين عمر بن عبد العزيز أن قتيبة قاتلهم قبل أن يُخيّرهم ذلك التخيير ليقرِّروا مصيرهم. فأرسل الخليفة إلى القاضي ليستمع إلى هذه الشكوى ويحقّقها. فتبيّن له صدْقها. فأصدر أمْره إلى جند المسلمين بأن يخرجوا من البلد الذي فتحوه، ويعودوا إلى ثكناتهم -وهي: الأماكن التي يتجمّع فيها الجند. ثم خيّر أولئك بين هذه الأمور الثلاثة -القتال، أو العهد، أو الإسلام-. خيرهم بين هذه الأمور الثلاثة ليُقرِّروا مصيرهم، فاختاروا العهد. ومنهم من اختار الإسلام الذي سمح بذلك التخيير بعد الفتح والانتصار.

وإن الفتوح الإسلامية الأولى التي قامت في عهد الراشدين امتدادًا لحروب النبيصلى الله عليه وسلم قد اتّسمت بالعدالة، وبتحرير الشعوب من ربقة الاستبداد الروماني والفارسي، وما وراء ذلك من مظالم المستبِدِّين؛ بل إنه حتى بعد انتهاء عهد الراشدين كان أكثر الحكّام المسلمين يفتحون أبواب الحرية للخاضعين لسلطانهم من غير المسلمين، ولا ينكثون العهد لِمَن يعاهدونهم. ولقد دفع ذلك جوستاف لوبون لأن يقول: “إنّ التاريخ لم يَعرف فاتحًا أرحم من العرب. وقد يكون من الخطأ أن يُسمّى دخول العرب في البلاد فتحًا أو غزوًا؛ لأنه كان إنقاذًا أو تحريرًا للشعوب من ربقة الظلم والاضطهاد”.

error: النص محمي !!