الثقافة التاريخية
كما أن من الثقافة اللازمة للداعية الثقافة التاريخية، فالتاريخ هو ذاكرة البشرية وسجل أحداثها، وديوان عبرها، والشاهد العدل لها أو عليها. ويهمنا في ذلك تاريخ الإسلام والأمة الإسلامية خاصة، وتاريخ الإنسانية بصفة عامة أعني: المواقف الحاسمة منه، والملامح الرئيسية فيه؛ لأنه لا يُتصوّر أن يدرس الإنسان تاريخ البشرية كافة ولو كان متخصصًا، فكيف بغير المتخصص، وإنما يحتاج الداعية إلى التاريخ لأمور منها:
أن يوسع آفاقه، ويطلع على أحوال الأمم وتاريخ الرجال، وتقلبات الأيام، فإن الله تعالى قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج: 46]، ومنها: أن التاريخ أصدق شاهد على ما يدعو إليه الدين من قيم ومفاهيم، فهو مرآة مصقولة تتجلى فيها عاقبة الإيمان والتقوى، ونهاية الكفر والفجور، وجزاء الشاكرين وعقوبة الكافرين؛ لهذا اهتمّ القرآن بقصص السابقين وتواريخ الغابرين لما فيها من عبر بليغة، وعظات حية، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيص إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد} [ق: 36، 37].
وأود أن ينتبه الداعية الذي يطالع التاريخ ويقتبس منه إلى الأمور الآتية:
أولًا: ألا يجعل أكبر همه وعي جزئيات التاريخ وتفصيلاته، فهذه لا يمكن أن تُحصر، ولو أمكن أن تُحصر؛ لكانت فائدة الداعية جدّ قليلة؛ إنما المهم رءوس العبر ومواقع العظمة في التاريخ.
ثانيًا: أن يكون ذا وعي يقظ للوقائع التاريخية التي تخدم موضوعه، وتعمق فكرته، وتقدم له الشواهد الحية.
ثالثًا: أن يُعنى بسير الرجال، ومواقف الأبطال، وبخاصة العلماء والدعاة والصالحين، وفي تاريخنا بفضل الله -عز وجل- ثروة من السير تتمثل فيها الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، وتبرز الشخصية المسلمة مجسدة في مواقف وأعمال، كما نلمس ذلك في كتب الطبقات والتراجم كـ(وفيات الأعيان)، و(طبقات ابن سعد)، و(تهذيب التهذيب)، و(حلية الأولياء)، و(صفة الصفوة)، وغيرها.
رابعًا: أن يهتم الداعية بربط الحوادث والوقائع، وخصوصًا في تاريخنا الإسلامي بأسبابها وعللها المعنوية والأخلاقية، وأن يكون محور التاريخ الإسلامي هو الإسلام نفسه دعوة ورسالة، وأثره في تربية الأجيال، وتكوين الأمة المسلمة، وإقامة الدولة الإسلامية، وبناء الحضارة الإسلامية، والثقافة الإسلامية، وهنا يجب أن نُركّز على عدة حقائق تاريخية قد يغفلها مغفلون عمدًا أو سهوًا.
أولًا: يجب إبراز الجاهلية العالمية والعربية التي كان يتردَّى فيها العالم عامة، والعرب خاصة على حقيقتها بلا إفراط ولا تفريط، كما قال رب العالمين: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة: 2].
ثانيًا: يجب الاهتمام بحركة الإصلاح والتجديد في تاريخ الإسلام، وبرجال التجديد الذين يبعثهم الله بين حين وآخر في هذه الأمة؛ ليجددوا لها دينها أيًّا كان لون هؤلاء الرجال واتجاههم، كما يجب الالتفات إلى دور الإسلام ورجاله وأثره في حركات المقاومة والتحرير التي ظهرت في العالم الإسلامي على تباعد أطرافه.