الجاحظ
من كُتاب العصر العباسي: الجاحظ:
والجاحظ: هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكِناني، وقد اشتهر بلقبه هذا الجاحظ -كما قالوا- لجحوظ عينيه.
وُلد الجاحظ بالبصرة سنة مائة وستين من الهجرة النبوية الشريفة، فأخذ الأدب والعلوم عن شيوخها وكبار علمائها، وكانت البصرة في ذلك الوقت زاخرةً بالعلماء والأدباء ومجالس العلم والأدب، واختلط الجاحظ بالمعتزلة واعتنق مذهبهم، وأتقن علم الكلام، وقرأ ما تُرجم إلى اللغة العربية، وجمع من الثقافة الموجودة في عصره ما استطاع، وقد كان ذا نَهْم شديد في حب العلم والقراءة، وهو إمام الكُتَّاب في العصر العباسي الأول.
وكانت طريقته في الكتابة تقوم على الإطناب والازدواج، والمزاوجة والترادف، وإتباع الشيء بمثله، والجمع بين المعاني الكثيرة والموضوعات المتعددة في السياق الواحد.
ويقول بعض مؤرخي الأدب عنه: لم يكن في زمان الجاحظ رجلٌ أغزر منه علمًا، ولا أمتع أدبًا، ولا أوسع اطلاعًا، ولا أكثر تصنيفًا، ولا ألطف بحثًا، ولا أطيب فكاهةً، ولا أغوص على معنًى مخترع، ولا أصوغ لكلام بليغ من الجاحظ.
وهو أول من أكثر التصنيف في الأدب، وأول من أسهب القول في اللطائف والفكاهات، وأول من وضع كتب المحاضرات الجامعة، وأول عالم عظيم جمع بين طرفي الجد والهزل، فكان إمامًا في الدين، وسامرًا من السُّمار، وكانت له مشاركة في كل علم وُجِدَ في عصره، وكان عالِمًا بالحيوان والنبات، وَصَّافًا لأحوال الناس وأمور معايشهم وأحوالهم.
ومن الكتب المشهورة للجاحظ كتابه (البيان والتبيين) و(الحيوان)، وله كتب كثيرة ورسائل متنوعة.
ومن نماذج كتابته التي تدل على أسلوبه وطريقته:
قطعة يتحدث فيها عن الكِتاب وفضله، فيقول:
“الكتاب نعم الذخرة والعقدة، ونعم الجليس والعُمدة، ونعم النشرة، ونعم المشتغل والحِرفة، ونعم الأنيس ساعةَ الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل، والكتاب وِعاء مُلئ علمًا، وظَرْفٌ حُشي ظرفًا، وإناء شحن مِزاحًا وجِدًّا، إن شئتَ كان أبين من سَحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه، ومَن لك بواعظٍ مُلْهٍ، وبزاجر مغرٍ، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حار، ومَن لك بشيء يجمع الأول والآخرَ، والناقص والوافر، والخفي والظاهرَ، والشاهد والغائبَ، والرفيع والوضيعَ، والغثَّ والسمين، والشكل وخلافَه، والجنس والضد”.
ثم يقول:
“ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمَن مِن الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة، ولا أعلم جارًا أبر، ولا خليطًا أنصفَ، ولا رفيقًا أطوعَ، ولا معلمًا أخضع، ولا صاحبًا أظهر كفايةً، ولا أقل جناية وإملالًا، ولا أكثر أعجوبة وتصرفًا، ولا أقل تصلفًا وتكلفًا، ولا أبعدَ من مِراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جِدال، ولا أكف عن قتال: من كتاب، ولا أعلم قرينًا أحسنَ موافاةً، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أقل مؤونة، ولا شجرة أطول عمرًا، ولا أجمع أمرًا وأطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنًى، ولا أسرع إدراكًا، ولا أوجد في كل إبان: من كتاب.
ولا أعلم نِتاجًا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان وجوده، يجمع بين التدابير العجيبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، ومن الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتنازحة، والأمثال السائرة، والأمم البائدة، ما يجمع لك الكتاب.
والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يملُّك، والمستميح الذي لا يؤذيك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، والكتاب هو الذي إن نظرت إليه أطال إمتاعَك، وشحذ طِباعك، وبسط لسانك، وجَوَّد بيانك، وفخَّم ألفاظك، وعمَّر صدرك، وحباك تعظيمَ العوام، ومنحك صداقة الملوك، يطيعك بالليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلّم الذي إن افتقرتَ لم يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لَمٍ يقطع عنك الفائدة، إن عُزلت لم يدعْ طاعتك، وإن هبت عليك ريح أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنتَ متعلقًا به ومتصلًا منه بأدنى حبل- لم تضطرك معه وَحْشة الوحدة إلى قرين السوء، وإنَّ أمثلَ ما يقطع به الفُراغُ نهارَهم، وأصحابُ الكفاياتِ ساعاتِ ليلهم نَظَرٌ في كتاب، لا يزال لهم فيه أبدًا ازدياد في تجربة، وعقل، ومروءة، وصون عرض، وإصلاح دين ومال، ورب صنيعة، وابتداء إنعام.
ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك، ونظرك إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر وملابسة صغار الناس، ومن حضور ألفاظهم الساقطة ومعانيهم الفاسدة، لَكَان في ذلك على صاحبه أسبغ النعمة، وأعظم المِنة”.
ولا أظنَّ أن هناك ما يُغري للقراءة، ويدعو إلى الحرص على الكتاب، من هذا الكلام البديع الذي قاله الجاحظ في شأن الكتاب، وذكر فوائده ومحاسنه.