الجواب المفصل على هاتين الشبهتين
المفصل يتناول كل شبهة على حدة ويدحض أدلتها وينسف حجتها..
ومفصل من جهتين:
الأولى: أنه مفصل، أي: مميز بعضه عن بعض.
والثانية: مفصل في تناول الأدلة والتفريعات.
أولًا: الجواب المفصل على الشبهة الأولى:
ولنعد الآن إلى جواب الشيخ المفصل، حيث قال –رحمه الله-:
وأما الجواب المفصل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه -ثم ذكر تقريرهم للشبهة الماضية، ثم قال: فجاوبه بما تقدم، وهو أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بما ذكرت، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضحه، فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصنامًا؟. فجاوبه بما تقدم فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]، ويدعون عيسى بن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [المائدة:75-76]، واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُون} [سبأ:40-41]، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب} [المائدة:116]. فقل له: أعرفت أن الله كَفَّرَ من قصد الأصنام وكَفَّرَ أيضًا من قصد الصالحين وقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم. فالجواب: أن هذا قول الكفار سواء بسواء، واقرأ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس:18]. واعلم أن هذه الشبه الثلاث، هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها لنا في كتابه وفهمتها فهمًا جيدًا فما بعدها أيسر. فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.
فقل له: أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة لله، وهو حقه عليك. فإذا قال: نعم. فقل له: بين لي هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده، وهو حقه عليك فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها، فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [الأعراف:55]، فإذا أعلمته بهذا، فقل له: هل علمت هذا عبادة لله؟ فلابد أن يقول: نعم. والدعاء مخ العبادة. فقل له: إذا أقررت أنها عبادة ودعوت الله ليلًا ونهارًا خوفًا وطمعًا. ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًّا، أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟. فلابد أن يقول: نعم. فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} [الكوثر:2]، وأطعت الله ونحرت له هل هذا عبادة؟ فلابد أن يقول: نعم. فقل له: إذا نحرت لمخلوق: نبي، أو جني، أو غيرهما. هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلابد أن يقر ويقول: نعم. وقل له أيضًا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلابد أن يقول: نعم؟. فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء، ونحو ذلك. وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر، ولكن دَعَوْهُمْ والتجئوا إليهم للجاه والشفاعة. وهذا ظاهر جدًّا”. انتهى كلامه.
ثانيًا: الجواب المفصل على الشبهة الثانية:
الجواب المفصل على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول:
إذا قال المشرك: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك. يقال له: إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا وتقر أن الله لا يغفره. فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره. فإنه لا يدري. فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟. فإن قال: الشرك عبادة الأصنام، ونحن لا نعبد الأصنام. فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن، وإن قال: هو من قصد خشبة أو حجر أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، وينفعنا الله ببركته أو يضرنا ببركته. فقل له: صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها. فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، فهو المطلوب، ويقال له أيضًا: قولك: الشرك عبادة الأصنام، هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا. وأن الاعتماد على الصالحين ودعائهم لا يدخل في ذلك؟. فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة، أو عيسى أو الصالحين، فلابد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب.
الوجه الثاني:
ذكر الشيخ تقي الدين المقريزي –رحمه الله-:
أن شرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية. فالشرك في الإلهية والعبادة: هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عباد الأصنام وعباد الملائكة، وعباد الجن، وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. ويشفعون لنا عنده وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته: والكتب الإلهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده وتقبح أهله وتنص على أنهم أعداء الله تعالى، وجميع الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- متفقون على ذلك من أولهم إلى خاتمهم، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم السالفة إلا بسبب هذا الشرك، ومن أجله: وأصله الشرك في محبة الله. قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة:165]، فأخبر سبحانه وتعالى أنه من أحب مع الله شيئًا غيره كما يحبه فقد اتخذ ندًا من دونه، وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون} [الأنعام: 1] والمعنى على أصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة. ومعلوم أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله تعالى في كونه ربهم وخالقهم فإنهم كانوا -كما أخبر الله عنهم- مقرين بأن الله تعالى و حده هو ربهم وخالقهم وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة والعبادة فمن أحب غير الله تعالى وخافه ورجاه، وذل له كما يحب الله ويخافه ويرجوه، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، فكيف بمن كان غير الله آثر عنده وأحب إليه وأخوف عنده وهو في مرضاته أشد سعيًا منه في مرضاة الله، فإذا كان المسوي بين الله وبين غيره في ذلك مشركًا فما الظن بهذا. فعياذًا بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام كانسلاخ الحبة من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحد، فهذا أحد أنواع الشرك، والأدلة الدالة على أنه تعالى يُحب أن يكون وحده هو المألوه يبطل هذا الشرك ويدحض حجج أهله، وهي أكثر من أن يحبط بها إلا الله بل كل ما خلق الله تعالى فهو آية شاهدة بتوحيده، وكذلك كل ما أمر به فخلقه وأمره وما فطر عليه عباده وركبه فيهم من القوى شاهد بأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأن كل معبود سواه باطل وأنه هو الحق المبين. ولقد أحسن القائل:
فواعجبًا كيف يعصى الإله | * | أم كيف يجحده الجاحدُ |
ولله في كل تحريكة | * | وتسكينة أبدًا شاهدُ |
وفي كل شيء له آية | * | تدل على أنه واحدُ |
الوجه الثالث:
ما ذكره الأمير الصنعاني –رحمه الله- حيث قال: “قد عرفت في هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت، أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به والتوسل إلى الرب تعالى… فإنه قد أشرك مع الله تعالى غيره، واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقده المشركون في الأوثان فضلًا عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي، أو يطلب من ذلك الميت ما لا يطلب إلا من الله تعالى من الحاجات: من عافية مريضه أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب من المطالب، فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كان ويكون عليه عباد الأصنام. والنذر بالمال على الميت ونحوه والنحر على القبر والتوسل به مطلب الحاجات منه هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثنًا وصنمًا، وفعله القبوريون لما يسمونه وليًّا وقبرًا ومشهدًا والأسماء لا أثر لها، ولا تغير المعاني ضرورته لغوية وعقلية وبلاغية وشرعية. فإن من شرب الخمر وسماها ماءً ما شرب إلا خمرًا، وعقابه عقاب شارب الخمر، ولعله يزيد عقابه للتدليس وللكذب في التسمية كما يعرفه من شم رائحة الكتاب والسنة، وكل ذلك مأخوذ عن إبليس حيث سمى الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد، وكذلك تسمية القبر مشهدًا ومن يعتقدون فيه وليًّا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام، ويطوفون بهم طواف الحاج ببيت الله الحرام، ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت، ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية من قولهم: على الله وعليك، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها، وكل قوم لهم رجل يناودنه. فأهل العراق والهند يدعون عبد القادر الجيلاني، وأهل التمائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون: يا زيلعي يا ابن العجيل، وأهل مكة والطائف: يا ابن العباس، وأهل مصر: يا رفاعي ويا بدوي، والسادة البكرية، وأهل الجبال: يا أبا طير، وأهل اليمن: يا ابن علوان، وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير ورفع الضر، وهذا هو بعينه فعل المشركين في الأصنام كما قلنا في الآبيات النجدية:
أعادوا بها معنى سواع ومثله | * | يغوث وود ليس ذلك من ودي |
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها | * | كما يهتف المضطر بالصمد الفرد |
وكم نحروا في سوحها من بحيرة | * | أهلت لغير الله جهلًا على عمد |
وكم من طائف حول القبور مقبلًا | * | ويلتمس الأركان منهن بالأيدي |
فإن قال: إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه. فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت؟.
فقل له: هذا النحر لغير الله، بل أشركت مع الله تعالى غيره.. ثم كذلك دعاؤك لهم.
فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب… فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين؛ كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلت: نعم قد حصل منهم ما حصل من أولئك، وساووهم في ذلك بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم. فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى ولا نجعل له ندا والالتجاء إلى الأولياء ليس شركًا. قلت: نعم {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11]، هذا جهل منهم بمعنى الشرك، فإن تعظيمهم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك، فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعلوه المشركون وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئًا؛ لأن فعلهم أكذب قولهم”. انتهى كلامه رفع مقامه.
الوجه الرابع:
ويقال لأصحاب هذه الشبهة: لقد سوى الله تعالى بين من يعبد الأصنام وبين من يعبد الأنبياء والصالحين والملائكة، فإن من الكفار من كان يدعو الأصنام، ومنهم من كان يدعو الأنبياء، ومنهم من كان يدعو الأولياء، ومنهم من كان يدعو الملائكة، ويدل على ذلك قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. قال الإمام ابن كثير –رحمه الله- في تفسيره: “أخبر تعالى عن عباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، أي: إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة؛ ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمور الدنيا”. انتهى كلامه.
ويدل أيضًا عليه قوله تعالى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، وقد فسر هؤلاء المزعومون بالجن، والملائكة وعيسى والعزير والشمس والقمر، وقد بين سبحانه وتعالى ضلال من يعبد عيسى وأمه فقال: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [المائدة: 75-76].
كما بين سبحانه وتعالى كيف أن عيسى -على نبينا وعليه السلام يبرأ إلى الله من فعلهم يوم القيامة، فقال: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [المائدة:116-117]. ثم بين سبحانه وتعالى ضلال من يعبد الملائكة، وكيف أنهم يبرءون إلى الله من عبادة هؤلاء، فقال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُون} [سبأ:40-41].
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ في رده على شبهات داود بن جرجيس: “ثم هذا القول الذي قاله العراقي رجوع إلى عبادة الملائكة والنجوم والأنفس المفارقة هذا حقيقة دين الصائبة أوقع العراقي فيه ظنه أن العبادة لا تكون عبادة وشركًا إلا إذا اعتقد التأثير من دون الله. وهذا الشرط هو الذي أوقعه فيما وقع فيه من تجويز عبادة الملائكة والنجوم والأنفس المفارقة. وهذه المسألة غلط فيها كثير من الضالين مع أن الله تعالى وضحها في كتابه توضيحًا كافيًا شافيًا. فالشرك جعل شريك لله تعالى فيما يستحقه ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة؛ كالحب والخضوع والتعظيم والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والنسك والطاعة ونحو ذلك من العبادات. فمتى أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك فهو مشرك بربه قد عدل به سواه وجعل له ندًّا في خلقه، ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شركة في الربوبية أو استقلالًا بشيء منها، والعجب كل العجب أن مثل هؤلاء يقرأون كتاب الله ويتعبدون بتلاوته، وربما عرفوا شيئًا من قواعد العربية، وهم في هذا الباب من أضل خلق الله وأبعدهم عن فهم وحيه وتنزيله. ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين وما حكم عليهم به ووصفهم به خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا وانقرضوا لم يعقبوا وارثًا. وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين: هذه نزلت في عباد الأصنام، هذه نزلت في النصارى، هذه في الصائبة، فيظن الغمر أن ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة”. انتهى كلامه.
الوجه الخامس:
أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- كشف هذه الشبهة، وذلك بالباب الذي عقده في كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وهو باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان. حيث أراد بهذه الترجمة الرد على عباد القبور الذين يفعلون الشرك، ويقولون: إنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله -تبارك وتعالى. وقد ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة من الحكم بكفر جميع من يدعو غير الله تعالى مهما كان هذا الغير، سواء كان نبيًّا أو ملكًا من دونهما أو دعا طاغوتًا أو صنمًا. فالحكم على من دعا غير الله واحد، ولم يفرق الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بين من يعبد الأصنام وبين من يعبد الصالحين في الحكم. بل الجميع يحكم عليهم بأنهم مشركون بالله تعالى، يقول الشيخ في قول الله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُون * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الزمر:64-65].
فيه مسائل: فيها أنواع من بُطلان الشرك وتقبيحه:
الأولى: الجواب عن قول المشركين: هذا في الأصنام، وأما الصالحون فلا، وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ} عام فيما سوى الله سواء بسواء كان صالحًا أو غير صالح.
الثانية: أن المسلم إذا أطاع من أشار عليه في الظاهر كفر، ولو كان باطنه يعتقد الإيمان فإنهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم تغيير عقيدته، ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب إلى الإسلام في إظهار الموافقة للمشركين خوفًا منهم، ويظن أنه لا يكفر إذا كان قلبه كارهًا له.
يقول الشيخ: فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم، ونريد بذلك الوجاهة والشفاعة وإلا فنحن نفهم أن الله هو الخالق الرازق المدبر. فقل: كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله، فإنهم يدعون عيسى وعزيرًا والملائكة والأولياء يريدون ذلك كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس:18].
ومن الأدلة النقلية على بطلان هذه الشبهة قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلا} [النساء:51]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60]، وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} [الكهف:21].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)). رواه البخاري ومسلم.
وبهذا القدر نكتفي في الرد على هذه الشبهة الواهية كالتي قبلها، ولا يسعنا ونحن ننتهي من الرد على هذه الشبهة إلا أن ندعو الله أن يجنبنا الشرك والوسائل المفضية إليه، ولا يسعنا إلا أن نتمثل بقول الشاعر:
إذا عدد الناس أربابهم | * | فنحن لنا ربنا الواحدُ |
والله أعلم.