الحديث الحسن لغيره
سبق أن ذكرنا أن الحديث الحسن لغيره من أقسام الحديث المقبول، والحديث الحسن لغيره في أصله حديث ضعيف، غير أنه توبع فجاء من طريق آخر أو بإسناد آخر، فجبر ما فيه من ضعف، وارتقى من الضعيف إلى الحسن لغيره، وسمي حسنًا لغيره؛ لأن حسنه لم ينشأ من ذاته، وإنما أتاه من أمر خارجي وهو المتابع أو العاضد.
أولًا: الحديث الضعيف الذي ينجبر ضعفه ويرتقي إلى الحسن لغيره:
ليس كل حديث ضعيف ينجبر ضعفه ويتقوى بمجيئه من طريق آخر، فيرتقي إلى الحسن لغيره، بل من الضعيف أنواع لا ينجبر ضعفها، ولا ترتقي إلى الحسن لغيره بحال من الأحوال.
1. الحديث الضعيف الذي ينجبر ضعفه بمجيئه من طريق آخر:
النوع الأول: هو ما كان من رواية سيء الحفظ الذي خطؤه أكثر من صوابه.
النوع الثاني: ما كان من رواية المختلط الذي لم يتميز حديثه القديم، الذي حدَّث به قبل الاختلاط، مِن حديثه الذي حدث به بعد الاختلاط.
النوع الثالث: ما كان من رواية المستور، وهو الحديث الذي في إسناده راو روى عنه اثنان، ولم يُوَثَّق ولم يجرح. والمستور هو ومجهول الحال سواء، كما ستعرف ذلك إن شاء الله.
النوع الرابع: ما كان من رواية مجهول العين، وهو الحديث الذي في إسناده راو روى عنه راو واحد ولم يوثق ولم يجرح.
النوع الخامس: ما كان من راوية المدلس، وهو الحديث الذي في إسناده راو يروي عمن سمع منه ما لم يسمع منه، موهمًا سماعه منه.
النوع السادس: الذي يتقوى بمجيئه من وجه آخر: الحديث المرسل، وهو الحديث الذي رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فكل هذه الأنواع السابقة إذا جاءت من طريق آخر مثلها، أو أعلى منها، أو من عدة طرق أقل منها في المرتبة: ارتقت من الضعيف إلى الحسن لغيره.
قال الحافظ ابن حجر: “ومتى توبع السيء الحفظ بمعتبر، كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه، وكذا المختلِط الذي لم يتميز والمستور والإسناد المرسل، وكذا المدلس إذا لم يُعرف المحذوف منه صار حديثهم حسنًا لا لذاته، بل وصفه بذلك باعتبار المجموع من المتابع والمتابع.
لأن مع كل واحد منهم احتمال كون روايته صوابًا أو غير صواب على حد سواء، فإذا جاءت من المعتبِرين رواية موافِقة لأحدهم، رجح أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين، ودل ذلك على أن الحديث محفوظ، فارتقى من درجة التوقف إلى درجة القبول، ومع ارتقائه إلى درجة القبول فهو منحط عن رتبة الحسن لذاته، وربما توقف بعضهم عن إطلاق اسم الحسن عليه”.
قال الحافظ السيوطي: “إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها أنه حسن، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر، وعرفنا بذلك أنه قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه، وصار الحديث حسنًا بذلك”.
مثال ذلك: ما رواه الترمذي وحسنه من طريق شعبة، عن عاصم بن عبيد الله قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه: ((أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم. قال: فأجازه)) الحديث أخرجه الترمذي، كتاب النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء. قال أبو عيسى: “حديث عامر بن ربيعة حديث حسن صحيح. والحديث أخرجه أيضًا ابن ماجه: كتاب النكاح، باب: الصداق. قال الترمذي عقب هذا الحديث: وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وسهل بن سعد وأبي سعيد وأنس وجابر”. فعاصم ضعيف لسوء حفظه، وقد حسن له الترمذي هذا الحديث لمجيئه من غير وجه، وكذا إذا كان ضعفها لإرسال أو تدليس أو جهالة رجال -كما زاده شيخ الإسلام ابن حجر- زال بمجيئه من وجه آخر، وكان دون الحسن لذاته.
مثال ما كان ضعفه بسبب التدليس ثم توبع: ما رواه الترمذي وحسنه من طريق هشيم عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة، وليمس أحدهم من طيب أهله، فإن لم يجد فالماء له طِيب)) فهُشيم موصوف بالتدليس، لكن لما تابعه عند الترمذي أبو يحيى التيمي، وكان للمتن شواهد من حديث أبي سعيد الخدري وغيره حسنه الترمذي.
وهذا الحديث السابق أخرجه الترمذي في كتاب الجمعة، باب: ما جاء في السواك والطيب يوم الجمعة. قال أبو عيسى الترمذي: حديث البراء حديث حسن.
فكل هذه الأنواع السابقة إذا وردت من طريق آخر أعلى منها أو مثلها أو عدة طرق أقل منها، انجبر ما فيها من ضعف، وارتقت من الضعيف إلى الحسن لغيره.
2. الحديث الضعيف الذي لا ينجبر ضعفه ولا يتقوى بمجيئه من طريق آخر:
النوع الأول: الحديث الموضوع: وهو الحديث الذي في إسناده راو ثبت عليه الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تابعه كذاب آخر على رواية ذلك الحديث.
النوع الثاني: الحديث المتروك: وهو الحديث الذي في إسناده راو ثبت عليه الكذب في حديث الناس، ولم يثبت عليه الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تابعه على رواية ذلك الحديث كذاب آخر مثله.
النوع الثالث: الحديث الشاذ: وهو الحديث الذي خالف راويه الثقة أو الصدوق رواية من هو أولى منه، سواء أكان ذلك بالحفظ أو بالعدد، ولم يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع المعروفة.
النوع الرابع: ما كان شديد الضعف لسبب آخر غير هذه الأسباب التي ذكرت.
فهذه الأنواع من الضعيف لا تنجبر ولا تتقوى أبدًا بمجيئها من طريق آخر، إذا كان هذا الطريق الآخر مثله في شدة الضعف، وسيتضح ذلك -إن شاء الله تعالى- في باب الحديث الضعيف.
قال ابن الصلاح: “لعل الباحث يقول: إنا نجد أحاديث محكومًا بضعفها، مع كونها رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة. مثل: حديث ((الأذنان من الرأس)) ونحوه، فهلَّا جعلتم ذلك ونحوه من نوع الحسن؛ لأن بعض ذلك عضد بعضًا، كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفًا”.
وجواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئًا من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطه له، وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر.
ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهمًا بالكذب، أو كون الحديث شاذًا، وهذه جملة تفاصيلها تدرَك بالمباشرة والبحث، فإنه من النفائس العزيزة، والله أعلم.
قال الحافظ السخاوي: “إذا كان ضعف الحديث لكذب في راويه أو شذوذ في روايته، بأن خالف من هو أحفظ أو أكثر، أو قَوِي الضعف بغيرهما مما يقتضي الرد، فلم يُجِز الضعيف بواحد من هذه الأسباب ولو كثرت طرقه، كحديث: “من حفظ على أمتي أربعين حديثًا…”.
فقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه، مع كثرة طرقه، ولكن بكثرة طرقه القاصرة عن درجة الاعتبار، بحيث لا يجبر بعضها ببعض، فيرتقي من مرتبة المردود المنكر الذي لا يجوز العمل به بحال، إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في الفضائل.
قال الحافظ السيوطي: وأما الضعيف لفسق الراوي أو كذبه فلا يؤثر فيه موافقة غيره له، إذا كان الآخر مثله لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر. نعم، يرتقي بمجموع طرقه عن كونه منكرًا أو لا أصل له، صرح به شيخ الإسلام -أي: الحافظ ابن حجر- قال: بل ربما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجة المستور والسيء الحفظ، بحيث إذا وُجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل، ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن”.