Top
Image Alt

الحديث الصحيح تعريفه في اللغة والاصطلاح وشروطه

  /  الحديث الصحيح تعريفه في اللغة والاصطلاح وشروطه

الحديث الصحيح تعريفه في اللغة والاصطلاح وشروطه

. أقسام الحديث باعتبار الصِّحّة والضّعف:

الحديث ينقسم إلى: “صحيح”، و”حَسَن” و”ضعيف”.

القسم الأول: “الصحيح”:

“الصحيح” في اللغة هو: ضدّ المكسور والسّقيم. وهو حقيقة في الأجسام، بخلافه في الحديث والعبادة والمعاملة وسائر المعاني، فمَجاز من باب الاستعارة بالتّبعيّة.

وفي الاصطلاح: عرّفه الحافظ ابن الصلاح بأنه: الحديث المُسْنَد الذي يتّصل إسناده بنقْل العدْل الضّابط عن العَدْل الضّابط، إلى منتهاه، ولا يكون شاذًّا ولا مُعلَّلًا.

واختصره الإمام النووي فقال: “هو: ما اتّصل سنَدُه بالعدول الضابطين، من غير شذوذ ولا علّة”.

وقول ابن الصلاح: “الذي يتّصل إسناده”، احترز به عمّا لم يَتَّصلْ، وهو: “المنقطع”، و”المُعضَل”، و”المُعلَّق”، و”المُدلَّس”، و”المُرسَل” على رأي من لا يقبله.

وقوله: “بنقل العدل”، احترز به عمّا في سنَده من لم تُعرف عدالتُه، إمّا أن يكون عُرف بالضّعف أو جُهل عيْنًا أو حالًا. والعدالة هي: ملَكة تَحْمل على ملازمة التقوى والمروءة. والتقوى اجتناب الأعمال السيئة مِن شِرْك أو فسْق أو بدْعة.

وقول ابن الصلاح: “الضابط”، احترز به في تعريفه للحديث “الصحيح” عمّا في سنَده راوٍ مُغفّل غير يقظ، ولا متقن، كثير الخطإ، وإن عُرف بالصِّدق والعدالة، لئلاّ يروي عن كتابه الذي تطرّق إليه الخلل وهو لا يشعُر، أو مِن حفْظه المختلّ فيُخطِئ.

وأمّا الضّبْط، فالضّبْط ضبْطان: ضبط صدْر، وضبط كتاب. فضبط الصّدر هو: أن يُثبت ما سمِعه، بحيث يتمكّن من استحضاره متى شاء. وضبط الكتاب هو: صيانته لديْه عن تطرّق الخلل إليه منذ سمع فيه وصحّحه، إلى أن يُؤدِّي منه، وإن منع بعضهم الرواية من الكتاب.

وقد قيّد الحافظ ابن حجر الضّبط بالضّبط التام، أي: بأن يكون ضبط الراوي للحديث الصحيح ضبطًا تامًّا، إشارة إلى الدرجة العليا في ذلك.

وقول ابن الصلاح: “ولا يكون شاذًّا ولا مُعلّلًا”، احترز به عن الحديث “الشاذ” و”المعلّل” بعلّة قادحة، وما في راوِيهِ نوعُ جَرْح.

“الشاذ” لغة واصطلاحًا:

“الشّاذّ” في اللغة: الفَرْد.

“الشَّاذُّ” اصطلاحًا: ما يخالف فيه الراوي مَن هو أرجَح منه أو أكثر عددًا.

قال الحافظ السخاوي: “ومن المسائل المختلَف فيها: ما إذا أثبت الراوي عن شيخه شيئًا، فنفاه مَن هو أحفظ وأكثر عددًا أو أكثر ملازمة منه؛ فإنّ الفقيه والأصولي يقولان: “المُثبِت مقدَّم على النّافي، فيُقبَل”.

والمُحدِّثون يُسمّونه: “شاذًّا”، لأنهم فسّروا الشذوذ المشترَط نفْيه هنا بمخالفة الراوي في روايته مَن هو أرجَح منه، عند تعسّر الجمْع بين الروايتيْن.

ووافقهم الشافعي على هذا التفسير، بل صرّح بأنّ العدد الكثير أوْلى بالحفظ من الواحد؛ لأن تطرّق السهو إليه أقرب مِن تطرّقه إلى العدد الكثير؛ وحينئذ فَرَدُّ قولِ الجماعة بقول الواحد بعيد.

على أنه قد مال البعضُ إلى النّزاع في ترك تسمية “الشاذّ” “صحيحًا”، وقال: غاية ما فيه: رجحان رواية على أخرى، والمرجوحيّة لا تنافي الصِّحّة، وأكثر ما فيه: أن يكون هنا صحيح وأصحّ، فيُعمل بالراجح ولا يُعمل بالمرجوح، لأجل معارضته له، لا لكونه لم يَصحّ طريقه، ولا يلزم من ذلك الحُكمُ عليه بالضعف، وإنما غايته: أن يُتوقّف عن العمل به. ويتأيّد هذا بمن يقول: “صحيح شاذّ”، وهذا كما في الناسخ والمنسوخ سواء.

ومَن تأمّل “الصحيحيْن”، وجَد فيهما أمثلة من ذلك. وهو أيضًا شبيهٌ بالاختلاف في العامّ قبل وجود المخصِّص، وفي الأمْر قبل وجود الصّارف له عن الوجوب.

ومن أمثلة ذلك: ما هو موجود في “الصحيحيْن” أنهما أخرجا قصّة جمل جابر من طُرق، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثّمن، وفي اشتراط ركوبه. وقد رجّح البخاري الطُّرق التي فيها الاشتراط على غيرها، مع تخريج الأمريْن، ورجّح أيضًا كونَ الثمن أوقية، مع تخريجه ما يُخالف ذلك.

ومن أمثلة ذلك أيضًا: أنّ مسلمًا أخرج فيه حديثَ مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في الاضطجاع قبل ركعتَيِ الفجر. وقد خالفه عامّة أصحاب الزهري، كمعمر، ويونس، وعمرو بن الحارث، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وشعيب، وغيرهم… خالفوه عن الزهري، فذكروا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح.

ورجّح جمْع من الحُفّاظ روايتهم على رواية مالك، ومع ذلك فلم يتأخّر أصحاب الصحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم، وأمثلة ذلك كثيرة.

قال الحافظ ابن حَجر: “فإن قيل: يلزم أن يُسمَّى الحديث: “صحيحًا”، ولا يُعمل به.

قلت: لا مانع من ذلك، ليس كلّ صحيح يُعمل به، بدليل المنسوخ.

وعلى تقدير التسليم أنّ المخالف المرجوح لا يُسمَّى “صحيحًا”، ففي جعْل انتفائه شرطًا في الحُكم للحديث بالصِّحّة نظر؛ بل إذا وُجدت الشروط المذكورة أوّلًا حُكم للحديث بالصِّحّة، ما لم يظهر بعد ذلك أنّ فيه شذوذًا، لأن الأصل عدم الشذوذ، وكون ذلك أصلًا مأخوذ من عدالة الراوي وضبْطه، فإذا ثبت عدالتُه وضبطُه كان الأصلُ أنه حفِظ ما روى، حتى يتبيّن خلافه.

وبالجملة، فالشّذوذ سبب للتّرك، إمّا صحّة أو عملًا، خلاف العلّة القادحة، كالإرسال الخفيّ، فتؤذي بوجودها الصّحّة الظاهرة، ويمتنع معها الحُكم والعمل معًا.

“المعلَّل” لغة واصطلاحًا:

“المعلَّل” لغة: ما فيه علّة.

“المعلَّل” اصطلاحًا: ما فيه علّة خفية قادحة.

وعبارة ابن الصلاح: “من غير شذوذ ولا علّة”.

قال شيخ الإسلام ابن حجر: لكن مَن غَيّر عبارة ابن الصلاح فقال: “مِن غير شذوذ ولا علّة”، احتاج أن يصف العلّة بكونها قادحة، وبكونها أيضًا خفيّّّة.

وقد ذكَر العراقيّ في “منظومته” الوصف الأول وأهمل الثاني، ولا بدّ منه.

وأهمل المصنّف وبدر الدين بن جماعة الاثنيْن، فبقي الاعتراض من وجهيْن.

فلم يُصِبْ من قال: لا حاجة إلى ذلك؛ لأنّ لفظ “العلّة” لا يُطلق إلا على ما كان قادحًا، فلفظ “العلة” أعمّ من ذلك.

وأما العلل التي يُعلّل بها كثير من المُحدِّثين، ولا تكون قادحة فكثيرة:

منها: أن يَروي العدل الضابط عن تابعيّ مثلًا عن صحابيّ حديثًا، فيرويه عدل ضابط غيرُه، مساوٍ له في عدالته وضبطه، وغير ذلك من الصفات العليّة عن ذلك التابعي بعينه عن صحابي آخر فإن مثل ذلك يُسمَّى علّة عندهم، لوجود الاختلاف على ذلك التابعي في شيخه، ولكنها غير قادحة كما قال الحافظ ابن حجر، لجواز أن يكون التابعي سمِعه من الصحابيّيْن معًا.

وأمّا تعريف الخطابي للحديث “الصحيح”، فقد عرّفه بأنه: “ما اتّصل سنده، وعدلت نقَلَتُه”.

قال الحافظ العراقي: “فلم يشترط ضبط الراوي، ولا السلامة من الشذوذ والعلّة؛ ولا شكّ أنّ ضبْطه لا بد منه، لأن مَن كثُر خطؤه في الحديث وفحش، استحق التّرك.

قال السيوطي: والذي يظهر لي: أنّ ذلك داخل في عبارته، وأنّ بين قولنا: “العدْل”، و”عدّلوه” فرْقًا، لأنّ المُغفّل المستحقّ للتّرك لا يصحّ أن يقال في حقّه: “عدّله أصحاب الحديث”، وإن كان عدْلًا في دِينه. فتأمّلْه!”.

قال: “ثم رأيتُ شيخ الإسلام ذكَر في (نُكته) معنى ذلك، فقال: “إنّ اشتراط العدالة يستدعي صدْق الراوي، وعدمَ غفلته، وعدَم تساهله عند التحمل والأداء”.

وقيل: إنّ اشتراط نفْي الشذوذ يُغني عن اشتراط الضبط، لأن “الشاذ” إذا كان هو الفرد المخالف، وكان شرط الصحيح أن ينتفي، كان مَن كثرت منه المخالفةُ وهو غير الضابط أوْلى.

وأجيب بأنه في مقام التّبيِين، فأراد التنصيص ولم يكتف بالإشارة.

قال الحافظ العراقي: “وأمّا السلامة من الشذوذ والعلّة، فقال ابن دقيق العيد في (الاقتراح): “إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حدّ “الصحيح” أو في تعريف “الصحيح”. قال: وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء؛ فإنّ كثيرًا من العِلل التي يُعلّل بها المحدِّثون لا تجري على أصول الفقهاء”.

قال الحافظ العراقي: “والجواب: أنّ من يصنّف في علم الحديث إنما يذكر الحد عند أهله، لا عند غيرهم من أهل علْم آخَر. وكون الفقهاء والأصوليِّين لا يشترطون في “الصحيح” هذيْن الشرطيْن لا يفسد الحدّ عند مَن يشترطهما”.

ولذا قال ابن الصلاح بعد الحدّ: “فهذا هو الحديث الذي يُحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث”.

وقد يختلفون في صحّة بعض الأحاديث، لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه، أو لاختلافهم في اشتراط بعضها كما في “المرسَل”.

قيل أيضًا: بقي عليه أن يقول: ولا إنكار.

وردّ بأنّ “المنكَر” عند النووي وابن الصلاح، هو و”الشّاذّ” سيّان فذكْره معه تكرير. وعند غيرهما هو أسوأ حالًا من “الشاذ”؛ فاشتراط نفْي الشذوذ يقتضي اشتراط نفْيه بطريق الأوْلى.

وقيل أيضًا: لم يُفصح ابن الصلاح بمراده من الشذوذ هنا. وقد ذكر في نوعه ثلاثة أقوال:

القول الأول: مخالفة الثقة لأرجح منه.

القول الثاني: تفرّد الثقة مُطلقًا.

القول الثالث: تفرّد الراوي مطلقًا.

وردّ الأخيريْن، فالظاهر أنه أراد هنا الأوّل.

قال شيخ الإسلام ابن حجر: وهو مشكل؛ لأن الإسناد إذا كان متصلًا ورواته كلّهم عدولًا ضابطِين، فقد انتفت عنه العِلَل الظاهرة. ثم إذا انتفى كونه معلولًا، فما المانع من الحُكم بصحّته؛ فمجرد مخالفة أحد رواته من هو أوثق منه أو أكثر عددًا لا يستلزم الضعف، بل يكون من باب صحيح أو أصحّ.

قال: ولم يُرو مع ذلك عن أحد مِن أئمّة الحديث اشتراطُ نفْي الشذوذ المعبّر عنه بالمخالفة، وإنما الموجود مِن تصرّفاتهم تقديمُ بعض ذلك على بعض في الصحة.

وحاصل حدِّ “الصحيح”، أو تعريف “الصحيح”: أنه المتّصل سنَده بنقْل العدل الضابط عن مثْله، حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى منتهاه من صحابي أو مَن دون الصحابي، ولا يكون “شاذًّا” ولا “مردودًا”, ولا مُعلّلًا بعلّة قادحة، وقد يكون “مشهورًا” أو “غريبًا”.

قال الحافظ ابن الصلاح: “فهذا هو الحديث الذي يُحكم له بالصحة، بلا خلاف بين أهل الحديث”.

وإنما قيّد الحافظ ابن الصلاح نفْي الخلاف بأهل الحديث، لأنّ بعض متأخِّري المعتزلة يشترط العدد في الرواية كالشهادة، وقد يختلفون في صحّة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه، أو لاختلافهم في اشتراط بعضها كما في “المرسَل”.

وكلّ ما اختُلف فيه، إمّا لانتفاء بعض الشروط يقينًا أو شكًّا، أو لِعدم اشتراطه عند مُخرجه؛ ولذلك خرّج البخاري عن عكرمة، وعن عمرو بن مرزوق وغيرهما دون مسلم.

وخرّج مسلم عن حماد بن سلمة، وأبي الزبير محمد بن مسلم، دون البخاري. وسبب اختلافهما في وجود الشروط المعتبرة فيه، ومدار الحديث “الصحيح” بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليِّين على صفة عدالة الراوي في الأفعال، مع التيقظ، العدالة المشترَطة في قبول الشهادة على ما قُرّر في الفقه؛ فمن لم يقبل “المرسَل” منهم زاد في ذلك أن يكون مُسنَدًا.

الشروط مختلَف فيها للحديث الصحيح:

الشرط الأول: ما ذكره الحاكم في “علوم الحديث”: أن يكون راويه مشهورًا بالطلب، وليس مرادُه الشهرةَ المُخرجة عن الجهالة، بل قَدْر زائد على ذلك.

قال عبد الله بن عون: “لا يُؤخذ العلْم إلاّ على مَن شُهد له بالطلب”. وعن مالك نحوه.

وفي مقدّمة مسلم، عن أبي الزناد أنه قال: “أدركت بالمدينة مائةً كلّهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله”.

قال شيخ الإسلام ابن حجر: “والظاهر مِن تصرّف صاحبَي “الصحيح”: اعتبار ذلك، إلاّ إذا كثرت مخارج الحديث، فيستغنيان عن اعتبار ذلك، كما يُستغنَى بكثرة الطُّرق عن اعتبار الضبْط التام”.

وقال أيضًا: “يمكن أن يقال: اشتراط الضبط يُغني عن ذلك، إذ المقصود بالشهرة بالطلب: أن يكون له مزيد اعتناء بالرواية، لتركن النفس إلى كونه ضبَط ما روى”.

الشرط الثاني: ما ذكره السمعاني في “القواطع”: أنّ “الصحيح” لا يُعرف برواية الثقات فقط، وإنما يُعرف بالفهم والمعرفة، وكثرة السماع والمذاكرة.

هذا يؤخذ من اشتراط: انتفاء كونه معلولًا؛ لأنّ الاطلاع على ذلك إنما يحصل بما ذُكر من الفهم، والمذاكرة وغيرهما…

الشرط الثالث: أنّ بعضهم اشترط علْمه بمعاني الحديث حيث يروي بالمعنى، وهو شرط لا بدّ منه، لكنّه داخل في الضبط.

الشرط الرابع: أنّ أبا حنيفة اشترط فقْه الراوي. قال شيخ الإسلام: “والظاهر أنّ ذلك إنما يُشترط عند المخالفة، أو عند التفرد بما تعمّ به البلوى”.

الشرط الخامس: اشتراط البخاري: ثبوت السماع لكلّ راوٍ من شيخه، ولم يكتف بإمكان اللقاء والمعاصرة فقط. وقيل: إنّ ذلك لم يذهب أحَد إلى أنه شرْط الصحيح، بل للأصحِّيّة. ومنها: أنّ بعضهم اشترط العدد في الرواية كالشهادة.

قال الحافظ العراقي: “حكاه الحازمي في شروط الأئمة عن بعض متأخِّري المعتزلة، وحُكي أيضًا عن بعض أصحاب الحديث”.

قال الحافظ ابن حجر: “وقد فهم بعضُهم ذلك من خلال كلام الحاكم في (علوم الحديث) وفي (المدخل) في شرط الإماميْن البخاري ومسلم، وبذلك جزم ابن الأثير في مقدّمة (جامع الأصول) وغيره. وأعجب من ذلك: ما ذكره الميانجي في كتاب “ما لا يسَع المحدِّث جهلُه”: شرط البخاري ومسلم في “صحيحيْهما”: أن لا يُدخلا فيه إلاّ ما صحّ عندهما، وذلك ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنان فصاعدًا، وما نقله عن كلّ واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر، وأن يكون عن كل واحد من التابعين أكثر من أربعة”.

قال الحافظ ابن حجر: “وهو كلام مَن لم يمارس “الصحيحيْن” أدنى ممارسة. فلو قال قائل: ليس في الكتابيْن حديث واحد بهذه الصفة، لَمَا أبعد”.

وقال ابن العربي في (شرح الموطأ): كان مذهب الشيخيْن: أنّ الحديث لا يثبت حتى يرويه اثنان. قال: وهو مذهب باطل، بل رواية الواحد عن الواحد صحيحة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم”.

قال: “وفي (شرح البخاري)، عند حديث الأعمال، انفرد به عمر. وقد جاء من طريق أبي سعيد، رواه البزار بإسناد ضعيف. قال: وحديث عمر، وإن كان طريقه واحدًا، وإنما بنى البخاري كتابه على حديث يرويه أكثر من واحد؛ فهذا الحديث ليس من ذلك الفن؛ لأن عمر قاله على المنبر بمحضر من الأعيان من الصحابة, فصار كالمجمَع عليه، فكأن عمر ذكّرهم، لا أخبرهم”.

قال ابن رشيد: “وقد ذكر ابن حبّان في أول (صحيحه): أنّ ما ادّعاه ابن العربي وغيره من أن شرط الشيخيْن ذلك، مستحيل الوجود. قال: والعجب منه: كيف يدّعي عليهما ذلك، ثم يزعم أنه مذهب باطل. فليت شعري مَن أعلمه أنهما اشترطا ذلك، إن كان منقولًا فلْيُبيِّنْ طريقه ليُنظر فيها، وإن كان عرَفه بالاستقراء فقد وهم في ذلك. فلقد كان يكفيه في ذلك أوّل حديث في البخاري.

وما اعتذر به عنه فيه تقصير؛ لأن عمر لم ينفرد به وحْده، بل انفرد به علقمة عنه، وانفرد به محمد بن إبراهيم عن علقمة، وانفرد به يحيى بن سعيد عن محمد، وعن يحيى تعدّد رواته.

وأيضًا فكون عمر قاله على المنبر، لا يستلزم أن يكون ذكّر السامعين بما هو عندهم، بل هو محتمل للأمريْن. وإنما لم ينكروه، لأنه عندهم ثقة، فلو حدّثهم بما لم يسمعوه قط لم ينكروا عليه.

وقد قال باشتراط رجليْن عن رجليْن في شرط القبول: إبراهيم بن إسماعيل بن عليّة، وهو من الفقهاء المحدِّثين، إلاّ أنه مهجور القول عند الأئمة، لِمَيْله إلى الاعتزال. وقد كان الشافعي -رحمه الله تعالى- يردّ عليه ويحذِّر منه.

وقال أبو علي الجبّائي -من المعتزلة-: لا يُقبل الخبر إذا رواه العدل الواحد إلاّ إذا انضمّ إليه خبر عدل آخَر أو عضده، موافقة ظاهر الكتاب، أو ظاهر خبر آخر، أو أن يكون منتشرًا بين الصحابة، أو عمِل به بعضهم. حكاه أبو الحسن البصري في “المعتمد”.

وأطلق الأستاذ أبو نصر التميمي، عن أبي علي: أنه لا يقبل إلاّ إذا رواه أربعة.

مِنْ حجج المعتزلة في ردّ خبر الواحد:

– قصّة ذي اليديْن، وكون النبي صلى الله عليه وسلم توقّف في خبره حتى تابعه عليه غيرُه.

– قصّة أبي بكر، حين توقّف في خبر المغيرة في ميراث الجّدة، حتى تابعه محمد بن مسلمة.

– قصّة عمر، حين توقّف عن خبر أبي موسى في الاستئذان، حتى تابعه أبو سعيد.

وأجيب عن ذلك كلِّه:

فأمّا قصّة ذي اليديْن، فإنما حصل التوقف في خبره؛ لأنه أخبره عن فعْله صلى الله عليه وسلم وأمْر الصلاة لا يرجع المصلي فيه إلى خبر غيره، بل ولو بلغوا حد التواتر، فلعلّه إنما تذكّر عند إخبار غيره. وقد بعث صلى الله عليه وسلم رُسُله واحدًا واحدًا إلى الملوك، ووفد عليه الآحاد من القبائل، فأرسله إلى قبائلهم. وكانت الحجّة قائمة بإخبارهم عنه، مع عدم اشتراط التّعدّد.

وأمّا قصة أبي بكر, فإنّما توقّف إرادةَ الزيادة في التوثّق، وقد قبل خبر عائشة وحْدها في قَدْر كفَن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأمّا قصة عمر، فإنّ أبا موسى أخبره بذلك الحديث عقِب إنكاره عليه رجوعَه، فأراد التّثبّت في ذلك.

وقد قبِل خبَر ابن عوف وحده في أخذ الجزية من المجوس، وفي الرّجوع عن البلد الذي فيه الطاعون، وخبرَ الضحاك بن سفيان في توريث امرأة أشيم.

قال الحافظ السيوطي: “وقد استدل البيهقي في (المدخل) على ثبوت الخبر بالواحد بحديث: ((نضّر الله عبدًا سمِع مقالتي فوعاها فأدّاها))، وفي لفظ: ((سمِع منّا حديثًا فبلّغَه غيْرَه))، وبحديث “الصحيحيْن”: ((بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آتٍ فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل الله عليه الليلةَ قرآنًا، وقد أَمَر أن تستقبلوا الكعبة. فاستقبَلوها، وكانت وجوهُهم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة))”.

قال الإمام الشافعي: “فقد تركوا قِبلةً كانوا عليها بخبرِ واحِدٍ، ولم يُنكِر عليهم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأيضًا بحديث “الصحيحيْن” عن أنس: ((إنِّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلانًا وفلانًا، إذ دخل رجلٌ فقال: هل بلَغكم الخبر؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: أَهْرِقْ هذه القلال، يا أنس! قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها، بعد خبَر الرجُل)).

وأيضًا بحديث إرسالِه عليًّا إلى الموقف بأوّل سورة “براءة”.

وبحديث يزيد بن شيبان: ((كنّا بعرفة، فأتانا ابن مربع الأنصاري؛ فقال: “إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، يأمُركم أن تقفوا على مشاعركم هذه”)). وأيضًا بحديث “الصحيحيْن” عن سلمة بن الأكوع , أنه قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء رجلًا من أسلم ينادي في  الناس: “إن اليوم يوم عاشوراء، فمن كان أكَل فلا يَأكلْ شيئًا”)) الحديث، وغير ذلك…

وقد ادّعى ابن حبان نقيض هذه الدعوى، فقال: “إنّ رواية اثنيْن عن اثنيْن إلى أن ينتهي الإسناد لا توجد أصلًا”.

ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي: أنّ بعضهم اشترط في قبول الخبر: أن يرويه ثلاثة إلى منتهاه. واشترط بعضهم أربعة عن أربعة، وبعضُهم خمسةً عن خمسة، وبعضُهم سبْعةً عن سبعة.

ومعنى قول العلماء: هذا حديث “صحيح”، أي: فيما ظهر لنا، عملًا بظاهر الإسناد؛ وذلك بأن اتّصل سندُه، مع سائر الأوصاف المذكورة. وليس مِن شرْطه: أن يكون مقطوعًا به في نفس الأمر، إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد، وليس من الأخبار التي أجمعت الأمّة على تلقِّيها بالقبول.

وقولهم أيضًا: هذا حديث غير صحيح، ليس قطعًا بأنه كذِب في نفس الأمر؛ إذ قد يكون صدقًا لجواز صدْق الكاذب، وإصابة من هو كثير الخطإ. وإنّما المراد به: أنه لم يصحّ إسناده على الشرط المذكور.

وللحديث “الصحيح” مراتب. فمراتبه باعتبار قوّة الإسناد تتنوّع إلى: “متّفق عليه”، وءمختلَف فيه”. كما يتنوع إلى “مشهور”، و”غريب”، وبيْن ذلك. وتتفاوت رتبة “الصحيح” بسبب تفاوت الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوّة؛ فإنها لمّا كانت مفيدة لغلبة الظّنّ الذي عليه مدار الصحة، اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض، بحسب الأمور المقوّية.

وإذا كان كذلك، فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الأوصاف التي توجب الترجيح، كان أصحّ ممّا دُونه.

وتنقسم رُتب “الصحيح” باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العادِّ الحاصر؛ ولهذا يرى ابن الصلاح الإمساك عن الحُكم لإسناد أو حديث بأنه الأصحّ على الإطلاق، فقال: “إن جماعة من أئمّة الحديث خاضوا غمرة ذلك، فاضطربت أقوالهم. والمختار: أنه لا يُجزم في إسناد بأنه أصحّ الأسانيد مطلقًا، لأن تفاوت مراتب الصّحّة مُرتّب على تمكّن الإسناد من شروط الصحة، ويعزّ وجود أعلى درجات القبول في كلّ واحد واحد من رجال الإسناد الكائنِين في ترجمة واحدة”.

ولهذا اضطرب من خاض في ذلك إذ لم يكن عندهم استقراء تام. وإنما رجّح كل منهم بحسب ما قوي عنده، خصوصًا إسناد بلده لكثرة اعتنائه به، كما روى الخطيب في (الجامع) من طريق أحمد بن سعيد الدارمي: “سمعت محمود بن غيلان يقول: قيل لوكيع بن الجراح: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وأفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة. وسفيان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة. أيهم أحب إليك؟ قال: لا نعدل بأهل بلدنا أحدًا”.

قال أحمد بن سعيد: “فأمّا أنا، فأقول: هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أحبّ إليّ. هكذا رأيت أصحابنا يقدّمون”.

فالحُكم حينئذ على إسناد معيَّن بأنه أصحّ على الإطلاق، مع عدم اتّفاقهم: ترجيح بغير مُرجِّح.

قال شيخ الإسلام ابن حجر: “مع أنه يمكن للناظر المُتقن ترجيحُ بعضِها على بعض من حيث حفظ الإمام الذي رجّح وإتقانه. وإن لم يتهيّأ ذلك على الإطلاق، فلا يخلو النظر فيه من فائدة، لأن مجموع ما نُقل عن الأئمة من ذلك، يفيد ترجيح التراجم التي حكموا لها بالأصحِّيّة على ما لم يقع له حكم من أحد منهم”. 

error: النص محمي !!