Top
Image Alt

الحديث المتواتر ، معناه اللغوي والاصطلاحي، والقول في إفادته العلم القطعي أو الظني، شروط رواته، وعددهم

  /  الحديث المتواتر ، معناه اللغوي والاصطلاحي، والقول في إفادته العلم القطعي أو الظني، شروط رواته، وعددهم

الحديث المتواتر ، معناه اللغوي والاصطلاحي، والقول في إفادته العلم القطعي أو الظني، شروط رواته، وعددهم

. الحديث المتواتر: معناه اللّغوي والاصطلاحي:

قبل الشروع في معرفة “المتواتر” بيانًا وإيضاحًا، نأتي بمقدّمة في بيان معناه لغةً واصطلاحًا، فنقول -وبالله التوفيق-:

أ. “التواتر” في اللغة:

كما ورد في (المحصول)، هو: مجيء الواحد إثر الواحد، بفترة بينهما. ومثْله أيضًا للقرافي في (التنقيح). ومنه: قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُون} [المؤمنون: 44]، أي: متتابعين رسولًا بعد رسول، بينهما فترة.

وحكي عن ابن بري: أنه مجيء الشيء بعد الشيء، بعضُه في إثر بعض، وترًا وترًا، أو فردًا فردًا، يعني: من غير فترة بينهما.

وحكى القوليْن في القاموس، فقال: “والتواتر: التتابع، أي: مع فترات”.

واقتصر في (الصحاح) على الثاني في كلامه، فقال: والمواترة: المتابعة، ولا تكون المواترة بين الأشياء إلَّا إذا وقعت بينهما فترة، وإلاّ فهي: مُداركة ومواصلة.

وفي شرح (القاموس)، نقلًا عن اللحياني، قال: “المتواتر”: الشيء يكون هنيهة، ثم يجيء الآخَر فإذا تتابعت فليست متواترة، إنما هي مُتداركة ومتتابعة.

وقال ابن الأعرابي: “تَرَى يَتْرَى، إذا تراخى في العمل، فعمل شيئا بعد شيء”.

وقال الأصمعي: “واترت الخبر: أتبعت، وبين الخبريْن هنيهة”.

ب. “المتواتر” في الاصطلاح:

قال ابن الصلاح في (مقدّمته في علوم الحديث): “هو عبارة عن الخبر الذي ينْقُله مَن يَحصُل العلْم بصِدْقه ضرورة”.

قال: “ولا بدّ في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته، من أوّله إلى منتهاه. ومَن سُئل عن إبراز مثال لذلك فيما يُروى من الحديث، أعياه تطلّبُه”.

وقال الإمام النووي في (التقريب): “الحديث المتواتر، هو: ما نَقَله مَن يحصُل العلْم بصِدْقِهم ضرورةً عن مِثْلهم، من أوّل الإسناد إلى آخِره”، قال: “وهو قليل لا يكاد يوجد في روايتهم”.

وقال الجرجاني في (مختصره): والخبر المتواتر: ما بلَغتْ رواتُه في الكثرة مبلغًا أحالت العادة تواطؤَهم على الكذب. ويدوم هذا فيكون أوّلُه كآخِره ووسطُه كطرفيْه، كالقرآن الكريم، والصلوات الخمس”.

2. القول في إفادته العلم القطعي أو الظني، شروط رواته، وعددهم:

قد عرّف التّاج “المتواتر” في (جمْع الجوامع) وقال: “هو خبر جمْع يَمْتَنِع”. وزاد شارحه وغيره: “يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب عن محسوس”.

شرح هذا التعريف:

قوله: “خبر جمْع يَمتنِع”.

الخبر: هو ما قابل الإنشاء، وهو ما يحتمل الصِّدق الذي هو المطابقة للواقع، أو يحتمل الكذب الذي هو عَدم المطابقة، بالنّظر لذاته.

والإنشاء ما لا يحتملهما.

وقوله: “هو خبر جمْع”، المراد بـ”جمْع” خرج به خبرُ الواحد والاثنيْن؛ فإنه لا يكون متواترًا ولا يُسمى بذلك.

وقوله: “يَمتنع” خرج به خبرُ الجماعة الذين لا يمتنع عليهم التواطؤ أو التّوافق، كقوم فُسّاق أو كُفّار، أمكن بحسب العادة تواطؤهم أو اتّفاقهم على خبر، فلا يسمّى متواترًا. فإن لم يُمكن تواطؤهم على الكذب وهم فُسّاق أو كُفار سُمِّي متواترًا؛ ولكن هذا بالنظر إلى اصطلاح الأصوليِّين؛ لأنّ كلامهم في الخبر المتواتر من الناس.

وأمّا المحدِّثون، فالظاهر: أنه لا بدّ عندهم من الإسلام في رواته؛ لأن كلامَهم في التّواتر من الحديث النبوي، على أنه لم يوجد حديث نبويّ تواتر بكُفّار فقط أو فُسّاق، حتى يكون للمحدِّثين نظَرٌ إليه؛ كذا قال بعضهم.

ويخدش فيه: أنّ المحدِّثين صرّحوا أيضًا بعدم اشتراط الإسلام والعدالة في رواته، كما صرّح بذلك الأصوليّون، فليراجَعْ كلامُهم.

وقولهم: “لا يُقبَل”، ويُحتجّ به من الحديث إلَّا ما رواه العدل الضابط، بأن يكون مسلمًا بالغًا… إلى آخِر هذه الأوصاف، وإلى آخِر ما قالوا في خبر الآحاد في “المتواتر”.

وقوله: “عادة” خرج به التجويز العقلي دون نظر إلى العادة، أي: مجرّدًا عنها؛ فإنه لا يمتنع ولا يرتفع ولو بلغ الجمْعُ ما عسى أن يبلغ.

وقوله: “تواطؤهم على الكذب”، أي: لا عمدًا، ولا غلطًا، ولا نسيانًا.

وقوله: “عن محسوس”، أي: أمْر يُدرَك بالحسّ، أي: بإحدى الحواسّ الخمْس الظّاهرة كسمْع أو بصَر. وخرج به: ما كان عن أمْر معقول، أي: يُدرَك بالعقل، فإنه يجوز الغلَط فيه؛ بل قد يُتيقّن الغلط، كخبر الفلاسفة بقِدم العالَم أو بانتفاء الحشْر للأجساد، فلا يُسمَّى “متواترًا”، ولو بلغوا في الكثرة ما عسى أن يبلغوا؛ بل لا يُسمّى بذلك ولو تُيُقّن صوابه، كأخبار أهل مصْرٍ من الأمصار بحدوث العالَم، أو بوجود الصّانع.

وقد استفيد من هذا: أنه لا بدّ من إفادته العلْم. والمتبادَر من كلامهم، وصرّح به غير واحد: اشتراطُ إفادته له من نفْسه أو بقرائن لازمة له، إمّا من أحواله المتعلّقة به، كأن يكون لفظًا واحدًا وتركيبًا واحدًا، أو المتعلِّقة بالمُخبَر عنه، كأن يكون موسومًا بالصّدق، أو متعلِّقًا بالمُخبَر به، كأن يكون من عادته أن يقع، أي: أمرًا مُستقرَب الوقوع، احترازًا عمّا إذا أفاده بقرائن منفصلة عنه، زائدة على ما لا ينفكّ الخبر عنه، كالتّفجّع وشقّ الجيْب في الخبر بموت الولد مثلًا أو الوالد، فلا يُسمّى “مُتواترًا”.

وبه يُعلَم: أنّ ما يأتي عن ابن الصلاح وغيرِه من: أنّ ما اتّفق عليه الشيخان أو أخرجه أحدُهما بالإسناد المتّصل كالمتواتر معناه، فهو في إفادة العلْم لا في التسمية؛ فإنه لا يُسمّى “متواترًا” اصطلاحًا، لأن إفادتَه للعلْم ليست بنفسه، بل بقرائن خارجية، كتلقِّي الأمّة لكتابيْهما بالقبول، وما أشبه ذلك…

وأمّا عن رأي التاج وتعريفِه للحديث “المتواتر” وخبرِ الآحاد، هل يفيد العلم؟ فقول التاج عقِب التعريف السابق: “وحصول العلْم آية اجتماع شرائطه”.

معناه: حصول العلْم منه بنفسه، أو بقرائن لازمة فقط، أو مع القرائن المنفصلة، وأمّا منها وحْدها فلا يكفي، لأنّ خبر الآحاد قد يفيد  العلْم بواسطة ما ينضمّ إليه من القرائن -كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.

ثم في عبارته -على ما قيل- قلْب، والأصل: واجتماع شرائطه -أي: الأمور المحقِّقة له، وهي: أجزاء ماهيته مع كونه جمْع… إلخ-: آية -أي: علامة- حصول العلْم منه.

والظاهر: أنّ هذا إنّما يتمشّى على القول بأنّ العلْم الحاصل منه نظريّ؛ لأنه يشترط في حصول العلْم منه: تقدّم العلْم بالشرائط -أي: ملاحظتها والالتفات إليها قبل- ولا يتمشّى على مقابله الرّاجح من أنه ضروري، لأن ذلك لا يُشترط؛ بل الشرط عليه: وجود الشرائط في نفس الأمْر كانت ملحوظة للسامع متلفّتًا إليها أو غير ملحوظة ولا متلفّت إليها. وحصول العلْم آيةُ اجتماعها. والتاج ذهب على هذا المذهب الثاني، فلا قلْب في عبارته، والنصوص الموافقة له كثيرة.

قال ابن أمير الحاج في (شرح التحرير) ما نصه: “الضابط للخبر “المتواتر”: حصول العلْم؛ فمتى أفاد الخبر بمجرّد العلْم، تحقّقنا أنه “متواتر”، وأن جميعَ شرائطه موجودة. وإن لم يُفده ظهر عَدم تواتُره بفقْد شرْط من شروطه. ثم إن كانوا طبقة واحدة، فواضح أنه يحصل التواتر بخبرهم، لوجود قيوده المذكورة، وإلاّ بأن كانوا طبقاتٍ ولم يُخبِر عن محسوس إلَّا الطبقة الأولى، اشترط كونهم جمعًا يمتنع تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات، من أوّل السّند إلى منتهاه، كما أشار إليه السبكي. وقد سبق عن ابن الصلاح والنووي أيضًا.

وخرج به: ما إذا لم يوجد الجمْع في جميعها، ووُجد في بعضها فقط؛ فإنه لا يُسمّى “متواترًا”، لأن الحُكم في مثْله للأقلّ، بل يكون غريبًا أو عزيزًا، حتى يوجد الجمْع في كلّ طبقة، ابتداءً، ووسطًا، وانتهاءً.

وخرج أيضًا في هذا التعريف: ما إذا وُجد الجمْع ولم يوجد العلْم في جميع الطبقات، أو في بعضها، ولو في واحدة منها؛ فإنه أيضًا لا يُسمّى “متواترا”، بل مشهورًا، أو مستفيضًا.

قال الشهاب بن حجر المكي في (فتاويه): “ولا يكفي احتمال التواتر ولا ظنّه -كما هو معلوم- لأن المشكوك والمظنون لا يُنتج القطع. ثم هذا الذي ذكروه من إفادته العلْم هو الحق، ومذهب الجمهور ومعناه في الماضيات والحاضرات.

وأنكره جماعة من العقلاء وقالوا: إنه لا يفيد إلَّا الظن فيهما معًا.

ومنهم مَن أنكره في الماضيات، واعترف به في الحاضرات. وإنكارهم المذكور مكابرة؛ فإنا نجِد من أنفسنا العلْم بالبلاد النائية، كمكّة والمدينة وبغداد، وبالأمم الخالية كقوم موسى وعيسى، وليس هو إلَّا بالإخبار”.

قال السّعد في (شرح النّسفيّة): فإن قيل: خبر كلّ واحد لا يفيد إلَّا الظّنّ، وضمُّ الظّنّ إلى الظّنّ لا يوجب اليقين، وأيضًا جواز كذِب كلِّ واحد يوجب كذِبَ المجموع؛ لأنه نفس الآحاد.

قلنا: ربما يكون مع الاجتماع ما لا يكون مع الانفراد، كقوّة الحَبْل المؤلّف من الشّعرات.

والعلْم الحاصل به ضروريّ على الأصح، وهو مذهب الجمهور من المحدِّثين والأصوليِّين، لحصوله لِمن لا يتأتّى منه النّظر كالبُلْه والصِّبْيان.

ومعنى كونه ضروريًّا: أنه يضطرّ الإنسان إليه عند اجتماع الشرائط، بحيث لا يُمكنه دفْعُه، لا نظري، خلافًا للكعبي وأبي الحسن البصري من المعتزلة، وإمام الحرمين والغزالي من أهل السنة.

فإن قيل: الضروريّات لا يقع فيها التّفاوت ولا الاختلاف. ونحن نجِد العلْم بكون الواحد نصف الاثنيْن أقوى من العلْم بوجود إسكندر مثلًا. و”المتواتر” قد أنكر إفادة العلْم به طوائف -كما تقدّم.

قلنا: هذا ممنوع؛ بل قد تتفاوت أنواعُ الضروري بواسطة التفاوت في الإلْف، والممارسة، والإخطار بالبال، وتصوّرات أطراف الأحكام. وقد يختلف فيه مكابرة وعنادًا، كالسّفسطائية في جميع الضروريات.

والخلاف فيما قالوه لفظيّ لا حقيقيّ، لأنّ إمام الحرميْن -كما أفصح به الغزاليّ التابع له- فسّر كوْن العلْم الحاصل به نظريًّا آخِذًا من كلام الكعبي بتوقّفه على مقدِّمات حاصلة عند السامع، أي: على التفات نفسه إليها، وملاحظته لها، وتقدّم علْمه بها؛ وهي كونه خبرَ جمْع، وكونهم بحيث يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب، وكونهم أيضًا أخبروا عن شيء محسوس لا يَشتبِه. وهذا لا ينافي كونه ضروريًّا، والمنافي لذلك: تفسيره بالاحتياج إلى النّظر عقِبه. هكذا قالوا، وفيه نظر.

والحق: أنه حقيقيّ؛ لأن القائل بأنه نظريّ يشترط في حصوله تقدّمَ العلْم بالمقدِّمات، والقائل بأنه ضروريّ لا يشترط ذلك، بل الشرط عنده وجودها في نفس الأمر أعمّ من أن تكون حاصلة في النفس أو مغفولًا عنها؛ ولذا يستدلّون بحصول العلْم على حصولها.

وتوقّف الآمدي من الشافعية، والمرتضَى الرافضي، عن القول بواحد من الضروريّ والنظريّ، لِتعارض دليلهما عندهما، مِن حصوله لمن لا يتأتّى منه النظر، وتوقّفه على تلك المقدّمات المحقّقة له. وتوقّفهما معًا يدلّ على أنهما فهِما أنّ الخلاف حقيقيّ -كما ذكرنا- والتوقف هو الذي صحّحه صاحب المصادر أيضًا.

ثم التواطؤ المذكور إن وقع بين ذلك الجمْع في اللّفظ والمعنى، زاد بعضُهم -تبعًا لاستظهار ابن القاسم العبادي: أو في المعنى فقط مع اختلاف اللفظ؛ لأنه، وإن اختلف في حُكم المتّحد لاتّحاد معناه؛ سُمِّي: “التواتر اللفظي”. وإن اختلفوا فيهما-أي: في اللفظ والمعنى معًا- مع الاتّفاق على معنىً كلّيّ -ولو تضمّنيًّا أو التزاميًّا- سُمِّيَ: التواتر المعنوي، كوقائع حاتم في عطاياه، وعليّ في حروبه، وعمر في عدْله وجلادته، وأبي ذرّ في زهده؛ فإنها اتّفقتْ على معنىً كُلِّيٍّ، وهو: القَدْر المشترَك بين آحاد تلك الوقائع، وهو: جود هذا، وشجاعة هذا، وعدْل هذا، وزهد هذا… إلخ؛ فيكون ذلك القَدْر المشترَك بينها -بِقطع النظر عن متعلَّقِه- “متواترًا معنويًّا، وإن كانت كلّ واقعة بانفرادها غيرَ متواترة، إلَّا شيئًا قليلًا من بعض تلك الوقائع، فإنه وُجد متواترَ اللفظ أيضًا.

وتردّد بعض المتأخِّرين في الاختلاف في الألفاظ أو بعضها مع تقارب المعنى، كحديث حَنين الجذع، فإنه رُوي فيه: ((صاح))، و((خار))، و((جعَل يَئِنّ))، و((حنّ))، و((بكى))، هل يَضر فيكون التواتر معنويًّا، ولا يضرّ فيكون لفظيًّا؟.

والظاهر: أنه لا يضرّ أيضًا، وإلاّ لَما صحّ عدّ الكثير من الأحاديث التي هذا سبيلها من “التواتر اللفظي”، وقد عدّها منه جماعة من الأئمة.

وقول التاج الذي سبق ذكْرُه شاملٌ لِقسمَيِ اللّفظيِّ والمعنويّ.

والأصح: أنه لا يُشترط في رواته إسلام، ولا عدالة، ولا بلوغ، ولا عدم احتواء بلدة واحدة عليهم؛ فيجوز أن يكونوا كُفّارًا، أو فُسّاقًا، أو صبيانًا، أو تحويهم بلدة واحدة.

وكذا لا يشترط فيهم عددٌ محصور، ولا صفة مُعيّنة، بل البلوغ إلى حدّ وحالة تُحيل العادة معهما تواطؤَهم على الكذب في جميع الطبقات، ولو كان العدد في بعضها قليلًا وفي بعضها كثيرًا.

والصفات العليّة في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه، كما قرّره الحافظ ابن حَجر في (نكته على علوم الحديث)، وفي (شرح النّخبة) أيضًا.

وعلى اشتراط العدد، اختُلف في أقلِّ العدد المشروط، بَعْد اتّفاقهم على عدم الاكتفاء بالواحد والاثنيْن، فقيل: أربعة، قياسًا على شهود الزِّنا.

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: “أقطع بأن أقول: الأربعة لا يفيدون، وأتوقّف في الخمسة”. وجرى عليه في “جمع الجوامع” فقال: “ولا تكفي الأربعة، وفاقًا للقاضي والشافعية. وما زاد عليها صالح من غير ضبط -يعني: بِعدد مُعيّن-. وتوقّف القاضي في الخمسة”. انتهى.

وهو يفيد: أنّه لو اتّفق الأئمة الأربعة، بل الخلفاء الأربعة، على رواية حديث لا يُفيد خبرُهم العلْم؛ وليس كذلك، فالصواب: القولُ بأنها قد تكفي.

وقيل أيضًا: خمسة، قياسًا على اللِّعان.

وقيل: سبعة، لاشتمالها على أنصباء الشهادة الثلاثة، وهي الأربعة، والاثنان، والواحد.

وقيل: عشرة، لقوله سبحانه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}  [البقرة: 196]، ولأنها أوّل جموع الكثرة.

قال السيوطي في (شرح التقريب): “وهو المختار، وكتابه في المتواترات مبنيّ عليه؛ لأنه جمَع فيه ما رواه عشرة من الصحابة فصاعدا”.

في كتاب (الإغارة المصبِّحة على مانع الإشارة بالمسبِّحة) للعلامة السيد محمد رسول الحسيني، ما نصّه: وقد قال الحافظ السيوطي في (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة): إنّ كل حديث رواه عشرة من الصحابة، فهو متواتر عندنا معشر أهل الحديث.

وقيل في العدد الذي يبلغ به حدّ التواتر: عدد نقباء بني إسرائيل.

وقيل: عشرون لِقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} [الأنفال: 65].

وقيل: أربعون لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خَيْر السرايا أربعون)).

وقيل: خمسون، قياسًا على القسامة.

وقيل: سبعون، لاختيار موسى سبْعين رجلًا لميقاته، حتى يسمعوا كلام الله تعالى، ويخبروا مَن وراءهم.

وقيل: ثلاثمائة وبضعة عشر: عدّة أصحاب طالوت، وأهل بدر.

وقيل: ألف وأربعمائة أو خمسمائة: عدّة أهل بيْعة الرضوان.

وقال بعضهم: وهذه المذاهب كلّها باطلة لا تستحق أن يُلتفَت إليها، وشبُهاتهم واهية لا حاجة إلى التصريح بدفْعها.

وقال الجرجاني: وهذه كلّها وأمثالها أقوال فاسدة، والتحقيق الذي ذهب إليه جمْع من المحدِّثين هو: أنه لا يُشترط للتواتر عددٌ، إنّما العِبرة بحصول العلْم القطعيّ. فإن رواه جمْع غفير ولم يحصل العلْم به لا يكون متواترًا، وإن رواه جمْع قليل وحصل العلْم الضروري يكون متواترًا ألبتّة.

والصحيح: أن العلْم الحاصل منه، إن كان عن كثرة العدد وجَب حصولُه لجميع السامعين، وإن كان عن القرائن اللازمة له لم يجب ذلك؛ بل قد يحصل لزيْد دون عمرو، ولقوم دون آخرين، لأن القرائن قد تقوم عند البعض دون البعض.

وقيل: يجب حصوله للكلّ مطلقًا، وقيل: لا يجب مطلقًا، وفيهما نظر.

وقد يحصل التواتر عند قوم ولا يحصل عند آخرين، لبلوغ طُرقه المفيدة له إلى من حصل عنده دون الآخرين. كما أنه قد يصحّ الخبر عند قوم ولا يصح عند آخرين، لوصوله إلى الأوّلين من طريق صحيحة أو طُرق، وعدم وصوله إلى الآخَرين منها، بل من طريق أخرى فيها ضعيف أو كذّاب.

وقد ذكر ابن الصلاح والنووي ومَن تبِعهما: أن مثال “المتواتر” على التفسير السابق يعزّ وجودُه.

وزعم ابن حبان والحارث: أنّه معدوم بالكلّية، لا يوجد له مثال.

قال ابن الصلاح: “إلاّ أنّ يُدّعى ذلك في حديث: ((مَن كَذب عليَّ))؛ فإنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثرُ مِن ستِّين نفْسًا من الصحابة، منهم العشَرة، وليس في الدنيا حديث أجمع على روايته العشرة غيرَه”.

وتعقّب عليه الحافظ العراقي بحديث مسْح الخفَّيْن، فقد رواه أكثر مِن ستِّين صحابيًّا، ومنهم العشَرة، وبحديث رفْع اليديْن في الصلاة، فقد رواه نحوُ خمسين منهم، ومنهم العشَرة أيضًا.

قال الإمام السخاوي: “وكذا الوضوء مِن مسِّ الذّكَر، قيل: إنّ رواته زادت على ستِّين، وكذا الوضوء أيضًا ممّا مسّت النار وعدَمه”.

قال الحافظ ابن حجر: “إنّ ما ادّعاه ابن الصلاح مِن العزّة ممنوع، وكذا أيضًا ما ادّعاه غيرُه من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلّة الاطّلاع على كثرة الطّرُق، وأحوال الرِّجال، وصفاتِهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على الكذِب، أو يحصل منهم اتفاقا”ً. قال: “ومِن أحْسنِ ما يُقرَّر به كوْن “المتواتر” موجودًا وجودَ كثرة في الأحاديث: أنّ الكتب المشهورة المتداوَلة بأيدي أهل العلْم شرقًا وغربًا، المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مُصنِّفيها، إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعدّدت طُرُقه تعددًا تُحيل العادة تواطؤَهم على الكذب إلى آخِر تلك الشروط، أفاد العلْم اليقينيّ بصحة نسبته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير.

وقد نقَله جماعة، منهم السيوطي في (إتمام الدراية بشرح النقاية)، وقال عقِبه: قلت: “صدَق شيخ الإسلام وبَرّ، وما قاله هو الصّواب الذي لا يَمتري فيه من له ممارسة بالحديث واطّلاع على طُرقه. فقد وصَف جماعة من المتقدِّمين والمتأخِّرين أحاديثَ كثيرة بالتواتر، منها حديث: ((أُنزِل هذا القرآنُ على سبْعة أحرف))، وحديث الحوض، وانشقاق القمر، وأحاديث الهرج والفتن في آخِر الزّمان”. قال السيوطي: “وقد جمعتُ جُزءًا في حديث رفْع اليديْن في الدعاء، فوقع لي مِن طُرق تبلغ المائة. وعزمت على جمْع كتاب في الأحاديث المتواترة -يَسّر الله ذلك بِمَنِّه”.

error: النص محمي !!