Top
Image Alt

الحديث المحكم والحديث المختلف

  /  الحديث المحكم والحديث المختلف

الحديث المحكم والحديث المختلف

أولًا: تعريف الحديث المحكم:

هو الحديث المقبول المعمول به، السالم من المعارَضة، وأمثلته كثيرة في السنة المطهرة:

فمن ذلك: عن أبي هريرة   رضي الله عنه   قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «مَن كَذَبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار» الحديث أخرجه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو حديث متواتر.

ومن ذلك أيضًا: عن عمر بن الخطاب   رضي الله عنه   قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث أخرجه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما.

ومعظم أحاديث السنة المطهرة لا مُعارض لها، فهذه الأحاديث من الأحاديث المحكَمة؛ حيث لا يوجد نصٌّ آخر من القرآن الكريم أو السنة المطهرة يعارض هذه النصوص، ولو من حيث الظاهر.

ثانيًا: تعريف الحديث المختلف:

هو الحديث المقبول المعمول به المعارَض بالمقبول؛ بحيث يمكن الجمع بينهما من غير تعسُّف أو تكلُّف.

مثال ذلك: عن أبي هريرة   رضي الله عنه   قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «لا عدوى، ولا طِيَرة، ولا هامة، ولا صفر، وفِرّ من المجذوم كما تفر من الأسد»أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.

وعن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى» ويحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يوردُ ممرضٌ على مصحٍ»، قال: قال أبو سلمة: كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله: “لا عدوى” وأقام على “ألا يورد ممرضٌ على مصحٍ”، الحديث أخرجه الإمام مسلم.

الجمع بين نفي العدوى والأمر بالفرار من المجذوم، وألا يدخل المريض على الصحيح:

كان العرب قبل الإسلام يربطون النتائج بأسبابها، فيعتقدون أنه إن وُجِدت الأسباب وجدت النتائج وتحققت لا محالة بناء على ما ألِفوه واعتادوه؛ ولذلك كانوا ينسبون الأمور إلى أسبابها القريبة التي يشاهدونها، فكانوا يعتقدون أن الجَمَل الأجرب لو دخل في وسط الجمال الأصحاء انتقل الجربُ من المريض إلى الأصحاء انتقالًا ذاتيًّا لا محالة، فكانوا يعتقدون أن الأمراض تُعدي بطبعها، كما كانوا ينسبون نزول المطر إلى الكواكب.

فعمل النبي صلى الله عليه وسلم جاهدًا على تصحيح عقيدتهم، وحاول بشتى الطرق والوسائل أن يربطهم بالله تعالى، وأن يبين لهم أن الفاعل على الحقيقة إنما هو الله تعالى، وأن الأسباب القريبة التي يشاهدونها ويرونها فاعلةٌ بنفسها وينسبون إليها النتائج ليست فاعلة على الحقيقة، وما هي إلا مقهورة لله رب العالمين، إن شاء أبطلها فعل، وأن الله هو الفاعل الأوحد على الحقيقة، وأنه هو الذي يحرك الأسباب.

ولا أدل على أن الأسباب ليست فاعلة بنفسها أنها ليست مضطردة؛ لذلك وجدناه صلى الله عليه وسلم مع أنه أول مَن تكلم عن الحجر الصحي وأمر به ونهى أن يخالط المريض الصحيح، بل أمر بالفرار من المجذوم كما في هذا الحديث.

وما ذلك كله إلا خوفًا من انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، مع هذا نجده صلى الله عليه وسلم ينفي وقوع العدوى أو انتقالها من المريض إلى الصحيح، بل جاء الأمر بالفرار من المجذوم مع نفي العدوى في حديث واحد، كما في هذا الحديث، وهو حديث أبي هريرة   رضي الله عنه   وليس في ذلك تعارض حقيقي؛ لأن العدوى المنفية غير العدوى المثبتة، فالعدوى التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم هي ما كان يعتقدها العرب من أن الأمراض تنتقل بطبعها سواء أراد الله ذلك أم لا، فالعرب كانوا يعتقدون أن ارتباط النتائج بأسبابها إنما هو ارتباطٌ عقليٌّ، لا يمكن أن يتخلف بحال من الأحوال، فإذا وجدت أسباب الشيء وانتفت الموانع فلا بد من وجوده.

قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وجه الجمع بينهما -أي: بين الحديثين السابقين-: أن هذه الأمراض لا تُعدي بطبعها، ولكن الله -تبارك وتعالى- جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببًا لإعدائه، وانتقال المرض إليه، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب، ففي الحديث الأول -أي: في حديث: «لا عدوى»- نفى صلى الله عليه وسلم ما كان يعتقده الجاهل من أن ذلك يعدي بطبعه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن سبب انتقال الجرب من المريض إلى الصحيح: «فمن أعدى الأول؟».

فعن أبي هريرة   رضي الله عنه   قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى؛ فقام أعرابي فقال: أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب؟ فقال النبي  صلى الله عليه وسلم : فمن أعدى الأول؟».

قال ابن الصلاح: أعلم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأعرابي بأن الله سبحانه جعل ذلك –أي: مخالطة البعير الأجرب للأصحاء- سببًا لذلك، وحذر من الضرر الذي يغلب وجوده عند وجوده بفعل الله سبحانه وتعالى والحديث السابق أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.

قال الحافظ ابن حجر في التعقيب على قول ابن الصلاح: والأولى في الجمع بينهما أن يقال: إن نفيه صلى الله عليه وسلم للعدوى، وقوله صلى الله عليه وسلم لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون في الإبل الصحيحة فيخالطها فتجرب؛ حيث رد عليه بقوله: «فمن أعدى الأول؟» يعني: أن الله تعالى ابتدأ ذلك في الثاني كما ابتدأه في الأول، وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع؛ لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً لا بالعدوى المنفية، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته فيعتقد صحة العدوى فيقع في الحرج، فأمر بتجنبه حسمًا للمادة، والله أعلم.

قال الإمام النووي: إذا تعارض حديثان في الظاهر فلا بد من الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما، وإنما يقوم بذلك غالبًا الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه والأصول، المتمكنون في ذلك، الغائصون على المعاني الدقيقة، فمن كان بهذه الصفة لم يشكل عليه شيء من ذلك إلا النادر في بعض الأحيان، ثم المختلف قسمان:

أحدهما: يمكن الجمع بينهما فيتعين ويجب العمل بالحديثين جميعًا، ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجهٍ يكون أعم للفائدة تعيَّن المصير إليه، ولا يُصار إلى النسخ مع إمكان الجمع؛ لأن في النسخ إخراج أحد الحديثين عن كونه مما لا يعمل به، ومثال الجمع: حديث: «لا عدوى» مع حديث: «لا يورد ممرض على مصحٍ».

وجه الجمع: أن الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن جعل الله سبحانه وتعالى مخالطتها أسبابًا للإعداء، فنفى في الحديث الأول ما يعتقده الجاهلية من العدوى بطبعها، وأرشد في الحديث الثاني إلى مجانبة ما يحصل عنده الضرر عادة بقضاء الله وقدره وفعله.

الثاني: أن يتضاد -أي: الحديثين- بحيث لا يمكن الجمع بوجه، فإن علمنا أن أحدهما ناسخٌ قدمناه، وإلا عملنا بالراجح منهما كالترجيح بكثرة الرواة وصفاتهم وسائر وجوه الترجيح، وهي نحو خمسين وجهًا جمعها الحافظ أبو بكر الحازمي في أول كتابه (الناسخ والمنسوخ).

المصنفات في علم مختلف الحديث:

 أفرد جماعة من الأئمة علم مختلف الحديث بالتأليف، وهذا العلم لم يتكلم فيه إلا الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه والأصول؛ من هؤلاء الأئمة الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي  رحمه الله  المتوفى في سنة أربعٍ ومائتين من الهجرة، وهو أول مَن تكلم في هذا العلم، ولكنه لم يقصد استيعابه، وإن كان ما كتبه في هذا الموضوع مَدخل عظيم لهذا النوع، يتنبه به العارف على طريقته، وما كتبه في هذا الموضوع إنما هو جزءٌ ضمن كتابه (الأم) تحت عنوان: “اختلاف الحديث”، كتاب (اختلاف الحديث) للإمام الشافعي طُبع في آخر كتاب (الأم) وهو يقع في إحدى وأربعين ومائة صفحة كما طبع كتابًا مستقلًّا.

الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، المتوفى في سنة ستٍّ وسبعين ومائتين من الهجرة، صنف كتابه المعروف بـ(تأويل مختلف الحديث)، وأتى فيه بأشياء حسنة وقصر باعه في أشياء قصَّر فيها.

أيضًا ألَّف في هذا العلم الإمام الجليل أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، المتوفى في سنة عشرة وثلاثمائة.

أيضًا الإمام الجليل أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، صنف كتابه المعروف بـ(مشكل الآثار) وهو من أجل كتب الطحاوي وهو كتاب قابل للاختصار، يحتاج إلى ترتيب وتهذيب.

وكان ابن خزيمة من أحسن الناس كلامًا في مختلف الحديث، حتى قال: لا أعرف حديثين متضادين، فمن كان عنده فليأتيني به لأؤلف بينهما.

error: النص محمي !!