Top
Image Alt

الحديث المعنعن

  /  الحديث المعنعن

الحديث المعنعن

تعريف الحديث المعنعن:

هو الحديث الذي في إسناده راوٍ أو أكثر يروي عمن فوقه بـ”عن” من غير بيان للتحديث أو الإخبار أو السماع.

من المعلوم أن ألفاظ التحمل منها ما هو نص في السماع؛ كسمعت، وحدثني؛ فإذا قال الراوي: سمعت فلانًا يقول كذا؛ فلا بد أن يكون قد سمعه بالفعل وإلا كان كاذبًا ساقطًا إذا تعمد ذلك؛ بل ويدخل حديثه في باب الحديث الموضوع.

ومن ألفاظ التحمل: ما ليس نصًّا في السماع؛ فيحتمل السماع وغير السماع؛ وذلك كـ”عن” و”قال” و”إن فلانًا قال”؛ فإذا روى الراوي الحديث بصيغة من هذه الصيغ فقال: عن فلان، أو إن فلانًا قال، أو قال فلان؛ فيحتمل أن يكون الراوي سمع الحديث من ذلك الشيخ الذي أضافه إليه، ويحتمل ألا يكون سمع الحديث منه مباشرة؛ بل بينه وبين من أضاف الحديث إليه واسطة.

لذلك وقع خلاف بين العلماء في الحديث الذي يكون في إسناده راوٍ يروي عمن فوقه بلفظ محتمل؛ كعن؛ هل يكون إسناده متصلًا؛ أم أنه يدخل في باب الحديث المنقطع الضعيف؟:

وسنذكر مذاهب أهل العلم في ذلك:

أولًا: مذهب الجمهور، ذهب جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء والأصوليين إلى أن الإسناد المعنعن متصل بشرطين:

الشرط الأول: أن يكون اللقاء بين المعنعِن -بكسر العين الثانية- والمعنعَن عنه -بفتح العين الثانية- ممكنًا.

الشرط الثاني: ألا يكون الراوي المعنعِن -بكسر العين الثانية- مدلسًا؛ فإن كان الراوي المعنعِن مدلسًا لا يكون الإسناد متصلًا إلا إذا صرح الراوي المعنعِن بالسماع.

وهذا هو المذهب الراجح الذي عليه عمل الأئمة في مصنفاتهم؛ حتى الذين صنفوا في الصحيح المجرد؛ كالإمام مسلم، ونقل الحاكم النيسابوري إجماع أهل النقل على ذلك.

قال الحاكم: الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس وهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل على تورع رواتها عن أنواع التدليس، ثم قال الحاكم عقب حديث في إسناده رواة يروي بعضهم عن بعض بالعنعنة: هذا حديث رواته بصريون ثم مدنيون ومكيون، وليس من مذاهبهم التدليس؛ فسواء عندنا ذكروا أسماعهم أو لم يذكروه؛ وإنما جعلته مثالًا لألوف مثلهم.

قال الخطيب البغدادي: وأهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث: حدثنا فلان عن فلان، صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه وسمع منه، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس، ولا يعلم أنه يستجيز إذا حدثه أحد شيوخه عن بعض من أدركه حديثًا نازلًا؛ فسمى بينهما في الإسناد من حدثه به: أن يسقط ذلك ويروي الحديث عاليًا -أي: بعد أن يسقط الواسطة- فيقول: حدثنا فلان عن فلان -أعني الذي لم يسمعه منه؛ لأن الظاهر من الحديث السالم رواته مما وصفنا الاتصال، وإن كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده.

قال الحافظ ابن حجر: ومراد الخطيب بهذا الاحتراز: ألا يكون المعنعِن مدلِّسًا ولا مسويًا؛ لكن في نقل الإجماع بعد هذا كله نظر.

وقد ذكر الحارث المحاسبي -وهو من أئمة الحديث، والكلام في كتاب له سماه (فهم السنن)- ما ملخصه: إن أهل العلم اختلفوا فيما يثبت به الحديث على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنه لا بد أن يقول كل عدل في الإسناد: حدثني، أو سمعت، إلى أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لم يقولوا كلهم ذلك أو لم يقل بعضهم؛ فلا يثبت؛ لأنهم عُرف من عادتهم الرواية بالعنعنة فيما لم يسمعوه.

القول الثاني: التفرقة بين المدلس وغيره: فمن عرف لقاؤه وعدم تدليسه قبل؛ وإلا فلا.

الثالث: من عرف لقاؤه وكان يدلس؛ لكن كان لا يدلس إلا عن ثقة قبل؛ وإلا فلا.

قال الحافظ ابن حجر: ففي حكاية القول الأول خدش في دعوى الإجماع السابق، إلا أن يقال: إن الإجماع راجع إلى ما استقر عليه الأمر بعد انقراض الخلاف السابق؛ فيخرج على المسألة الأصولية في قبول الوفاق بعد الخلاف.

قال ابن الصلاح: الإسناد المعنعن هو الذي يقال فيه: فلان عن فلان، عده بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع؛ حتى يتبين اتصاله بغيره، والصحيح، والذي عليه العمل: أنه من قبيل الإسناد المتصل، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم. وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم، وقبلوه، وكاد أبو عمرو بن عبد البر الحافظ يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك.

وادعى أبو عمر الداني المقرئ الحافظ إجماع أهل النقل على ذلك، وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبت ملاقاة بعضهم بعضًا، مع براءتهم من وصمة التدليس؛ فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك.

قال الحافظ العراقي عقب قول ابن الصلاح: وكاد أبو عمرو بن عبد البر يدعي… إلى الآخر، ولا حاجة إلى قوله: “كاد”؛ فقد ادعاه في مقدمة (التمهيد).

قال ابن عبد البر: اعلم -وفقك الله- أني تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم ومن لم يشترطه؛ فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطًا ثلاثة، وهي:

الشرط الأول: عدالة المحدثين في أحوالهم.

الشرط الثاني: لقاء بعضهم بعضًا مجالسة ومشاهدة.

الشرط الثالث: أن يكونوا برآء من التدليس.

قال ابن عبد البر: وقد أعلمتك أن المتأخرين من أئمة الحديث والمشترطين في تصنيفهم الصحيح قد أجمعوا على ما ذكرت لك، وهو قول مالك وعامة أهل العلم -والحمد لله- إلا أن يكون الرجل معروفًا بالتدليس؛ فلا يقبل حديثه حتى يقول: حدثنا فلان، أو سمعت فلانًا؛ فهذا ما لا أعلم فيه أيضًا خلافًا.

قال: فـ”عن” محمولة عند أهل العلم بالحديث على الاتصال؛ حتى يتبين الانقطاع فيها، ونقل هذا عن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء.

قال الحافظ ابن حجر: إنما عبر ابن الصلاح هنا بقوله: “كاد يدعي”؛ لأن ابن عبد البر إنما جزم بإجماعهم على قبوله، ولا يلزم منه إجماعهم على أنه من قبيل المتصل.

قال الإمام النووي: فصل في الإسناد المعنعن: وهو فلان عن فلان، قال بعض العلماء: هو مرسل، والصحيح الذي عليه العمل -وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول-: أنه متصل بشرط أن يكون المعنعِن غير مدلس، وبشرط إمكان لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضًا.

ومن الذين ذهبوا هذا المذهب: الإمام مسلم بن الحجاج صاحب (الصحيح)، واشتد إنكاره على من خالف هذا المذهب في مقدمة صحيحه، وادعى الإجماع عليه، وذكر أن الذين خالفوا هذا المذهب فقالوا: لا بد من ثبوت اللقاء وتحقق السماع بين الراوي وشيخه ولو مرة واحدة حتى يكون الإسناد متصلًا، خالفوا الصواب لأمرين:

الأمر الأول: هذا قول محدث؛ ليس للقائلين به سلف فيه.

السبب الثاني: عدم الاطِّراد في بقية الأحاديث التي لم يصرح الراوي فيها بالسماع؛ فلا يفيد الاتصال إلا في ذلك الحديث الذي صرح فيه الراوي بالسماع على هذا المذهب؛ أما بقية الأحاديث الأخرى التي رواها بالعنعنة ولم يصرح فيها الراوي بالسماع فتكون منقطعة.

ولكن يُرَد على الإمام مسلم في إبطال مذهب الذين خالفوه بأن ما ذهبوا إليه قول محدث ليس لهم فيه سلف؛ بأن كل محدث لا يرد ولا يصح أن يرد القول لأن صاحبه لم يسبق إليه؛ بل إنما يرد القول بإبطال دليل أو معارضته بما هو أقوى منه، ثم إن الذي أنكره الإمام مسلم وبالغ في الرد عليه قد صار إليه الإمام علي بن المديني وتلميذه الإمام البخاري وغيرهما، وهم من أئمة هذا الشأن؛ فكيف يدعي الإمام مسلم الاتفاق في موضع الاختلاف. والله أعلم.

ملحوظة:

يلاحظ، وإن كان شرط الإمام البخاري ومن مذهب مذهبه أشد في الاتصال؛ إلا أن الراوي، وإن كان قد صرح بالسماع في روايته عن ذلك الشيخ؛ فإن ذلك لا يفيد الاتصال على هذا المذهب إلا في هذا الحديث بعينه الذي صرح فيه الراوي بالسماع؛ أما بقية الأحاديث التي رواها عن ذلك الشيخ الذي قد سمعه ولم يصرح فيها بالسماع؛ فإن احتمال السماع وعدمه قائم؛ لذلك احتج الإمام مسلم عليهم بأن الذي شرطوه لا يفيد الاتصال على مذهبهم إلا في ذلك الحديث بعينه الذي صرح فيه الراوي بالسماع من شيخه؛ أما بقية الأحاديث التي لم يصرح فيها بالسماع من ذلك الشيخ؛ فإن ذلك لا يفيد الاتصال؛ ولكن، وإن سلمنا للإمام مسلم بأن ذلك لا يفيد الاتصال جزمًا بناءً على شرطهم إلا في الحديث الذي صرح فيه الراوي بالسماع؛ إلا أنه إذا ثبت أن الراوي سمع ممن روى عنه ولو مرة واحدة؛ فإن ذلك يقوي غلبة الظن بالنسبة لبقية الأحاديث التي لم يصرح الراوي فيها بالسماع؛ لأنه قد سمع من حدث عنه.

المذهب الثاني: ذهب الإمام علي بن المديني والإمام البخاري وأبو بكر الصيرفي الشافعي، وصححه النووي وعزاه إلى المحققين، إلى الإسناد لا يكون متصلًا إلا إذا تحقق اللقاء وثبت السماع لكل راوٍ من شيخه، ولو مرة واحدة؛ ولم يكتفِ هؤلاء في اتصال الإسناد بالمعاصرة بين الراوي ومن روى عنه مع إمكان اللقاء وانتفاء التدليس؛ لذلك ربما أورد الإمام البخاري في صحيحه حديثًا لا تعلق له بالباب الذي خرجه فيه؛ وما ذلك إلا ليبين أن الراوي قد سمع ممن روى عنه؛ لكونه روى عنه في ذلك الباب شيئًا معنعنًا قبل ذلك، وقد يتعجب من لا خبرة له بمنهج البخاري من إخراج البخاري لهذا الحديث في هذا الباب؛ لأنه لا علاقة بين متن الحديث وهذا الباب؛ وإنما أخرج البخاري هذا الحديث في ذلك الباب لفائدة تؤخذ من الإسناد فحسب.

قال الحافظ ابن حجر: وأما ما يتعلق بالاتصال -أي: باتصال الإسناد- فإن مذهب الإمام مسلم على ما صرح به في مقدمة “صحيحه” وبالغ في الرد على من خالفه: أن الإسناد المعنعَن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعِن ومن عنعَن عنه، وإن لم يثبت اجتماعهما؛ إلا إذا كان الراوي المعنعن مدلسًا؛ والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة.

وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه، وأكثَرَ منه؛ حتى أنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راوٍ من شيخه؛ لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئًا معنعنًا -وسترى ذلك واضحًا في أماكنه، إن شاء الله تعالى- وهذا مما ترجح به كتاب الإمام البخاري؛ لأننا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال؛ فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال. والله أعلم.

قال الإمام النووي: ومما ترجح به كتاب البخاري: أن مسلمًا -رحمه الله تعالى- كان مذهبه؛ بل نقل بالإجماع في أول صحيحه: أن الإسناد المعنعَن له حكم الموصول بـ”سمعت” بمجرد كون المعنعَن والمعنعَن عنه كانا في عصر واحد، وإن لم يثبت اجتماعهما؛ والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما، وهذا المذهب يرجح كتاب البخاري وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله في صحيحه بهذا المذهب؛ لكونه يجمع طرقًا كثيرة يتعذر معها وجود هذا الحكم الذي جوزه. والله أعلم.

المذهب الثالث: لم يكتفِ القابسي بما شرطه علي ابن المديني والبخاري؛ بل شرط مع ذلك أن يكون الراوي قد أدرك من روى عنه إدراكًا بيِّنًا، وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي فاشترط طول الصحبة بينهما، وزاد أبو عمر الداني المقرئ فاشترط معرفته بالرواية عنه.

المذهب الرابع: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يحتج بالإسناد المعنعَن مطلقًا لاحتمال الانقطاع؛ وهذا المذهب مردود بإجماع السلف، ودليلهم حصول غلبة الظن؛ لأنه إذا كان اللقاء ممكنًا بين الراوي وشيخه وانتفى التدليس؛ حصل غلبة الظن بأن الإسناد متصل والباب مبني على غلبة الظن.

قلت: الراجح ما ذهب إليه الجمهور، وهو الذي عليه العمل في كتب السنة: أن الراوي إذا روى عمن فوقه بـ”عن”؛ فالإسناد يكون متصلًا، بشرط أن يكون اللقاء بين الراوي ومن روى عنه ممكنًا؛ وألا يكون الراوي مدلسًا، وما شرطه الإمام البخاري وغيره إنما هو شرط للأصحِّية وليس شرطًا للصحيح؛ فشرط البخاري أشد في الاتصال، وهذا مما تميز به (صحيح الإمام البخاري) على (صحيح الإمام مسلم)، والله أعلم.

ملحوظة:

قال الحافظ السخاوي: قد ترد “عن” ولا يقصد بها الرواية؛ بل يكون المراد سياق قصة؛ سواء أدركها أم أو لم يدركها، ويكون هناك شيء محذوف تقديره: عن قصة فلان، وله أمثلة كثيرة: من أبينها: ما رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه: ثنا أبي، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا أبو إسحاق -وهو السبيعي-: عن أبي الأحوص -يعني: عوف بن مالك-: “أنه خرج عليه خوارج فقتلوه”. قال شيخنا الحافظ ابن حجر: فهذا لم يرد أبو إسحاق بقوله: “عن أبي الأحوص” أنه أخبره به، وإن كان قد لقيه وسمع منه؛ لأنه يستحيل أن يكون حدثه بعد قتله؛ وإنما المراد على حذف مضاف تقديره: عن قصة أبي الأحوص، وقد روى ذلك النسائي في (الكنى) من طريق يحيى بن آدم عن إبي بكر بن عياش، قال: سمعت أبا إسحاق يقول: “خرج أبو الأحوص إلى الخوارج؛ فقاتلهم فقتلوه”.

error: النص محمي !!