الحديث الموقوف: تعريفه، وحكمه
تعريف الحديث الموقوف لغة: الموقوف اسم مفعول، فعله وقف، يقال: وقفت على ما عند فلان، أي: فهمته وتبينته، ووقف الحديث بمعنى حبسه على قائله، فلا يجوز أن ينسب إلى غيره.
تعريف الحديث الموقوف اصطلاحًا: هو ما أضيف إلى الصحابي قولًا له أو فعلًا، متصلًا كان أو منقطعًا، وخلا من قرينة تدل على رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، خرج بهذا التعريف الحديث المرفوع والمقطوع، كما يدخل فيه الحديث الموقوف بكل أشكاله؛ سواء كان متصلًا أو منقطعًا. وقد يطلق على غير ما أضيف إلى الصحابي اسم الموقوف، ولكن بشرط أن يقيد ذلك بالموقوف عليه، فيقال: هذا حديث وقفه فلان على الزهري، أو على الإمام مالك.
أقسام الحديث الموقوف: ينقسم الحديث الموقوف إلى قسمين:
أ- الحديث الموقوف لفظًا المرفوع حكمًا.
ب- الحديث الموقوف لفظًا وحكمًا.
أولا: تعريف الحديث الموقوف لفظًا المرفوع حكمًا:
هو الحديث المضاف إلى الصحابي الذي احتفت به قرينة تدل على رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدخل تحت هذا القسم ما يأتي:
أولًا: إذا قال التابعي عند ذكر الصحابي: يرفع الحديث، أو رفعه، أو مرفوعًا، أو يبلغ به، أو رواية، أو يرويه، أو يسنده، أو يؤثره. قال الإمام النووي: إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه، أو يبلغ به، أو رواية- فكله مرفوع متصل بلا خلاف.
ثانيًا: إذا قال الصحابي الذي لم يأخذ عن أهل الكتاب قولًا لا مجال للرأي، أو للاجتهاد فيه، ولم يكن ما قاله شرح لفظ غريب في الحديث، أو بيان لغة كأن يخبر عن الأمور الماضية من بدء الخلق، وأخبار الأنبياء مع أممهم، أو عن الأمور الآتية كالفتن والملاحم التي تقع في آخر الزمان قبل قيام الساعة، أو أخبر عن أحوال القيامة وما يقع فيها من تنعيم للصالحين، وتعذيبٍ للعصاة المذنبين، أو غير ذلك- فإن ذلك له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وإنما كان له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن إخبار الصحابي بذلك يقتضي مخبرًا له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي موقفًا للقائل به، ولا موقف للصحابي إلا النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة؛ لذلك شرطنا فيمن ينظر إلى قوله على أنه مرفوع: ألا يكون قد أخذ من أهل الكتاب، وإذا كان القول -كما ذكرنا- فله حكم ما لو قال الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثالثا: إذا فعل الصحابي فعلًا لا مجال للرأي فيه أو للاجتهاد فيه فإن ذلك الفعل ينظر إليه على أنه علمه من الرسول صلى الله عليه وسلم سواء من قوله أو من فعله، فيأخذ حكم المرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
رابعًا: إذا حكم الصحابي على عمل من الأعمال بأنه طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك يأخذ حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك لا يقال من قبل الرأي، أو الاجتهاد، مثال ذلك: عن صلة بن زفر قال: “كنا عند عمار بن ياسر فأتي بشاة مصلية، فقال: كلوا. فتنحى بعض القوم. فقال: إني صائم. فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسمصلى الله عليه وسلم الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، واللفظ للترمذي. وقال الترمذي: حديث عمار حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يشك فيه.
خامسًا: إذا ذكر الصحابي سببًا لنزول آية من القرآن الكريم، أو نحو ذلك، مما لا يقال من قبل الرأي أو الاجتهاد، ولم يكن ما قاله شرح لفظ غريب في الآية، أو بيان لغة- فإن ذلك له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا.
قال الإمام النووي: وأما قول من قال: إن تفسير الصحابي مرفوع، فذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية، أو نحوه، مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مدخل للرأي فيه. أما إذا كان ما جاء عن الصحابي فليس كذلك فهو موقوف.
سادسًا: إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا، فهل هذا يأخذ حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب عن ذلك: ما جاء بهذه الصيغة إما أن يصرح الصحابي بالآمر والناهي، وبصاحب السنة، أو لا يصرح بذلك:
أ. إن صرح الصحابي بالآمر والناهي، وبصاحب السنة كأن يقول الصحابي: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، أو سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم أو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كذا؛ فهذا القسم لا خلاف في أنه مرفوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأن ما جاء بهذه الصيغة لا يحتمل إلا أن يكون صدر من النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس هناك أدنى احتمال بعد أن صرح الصحابي بالآمر والناهي أن يكون الآمر غيره صلى الله عليه وسلم أو أن يكون الناهي غيره صلى الله عليه وسلم .
ب. إذا لم يصرح الصحابي بالأمر والنهي، وإذا لم يضف السنة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كأن يقول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا، وما أشبه ذلك، فهل هذا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أولا: مذهب الجمهور: ذهب جمهور العلماء إلى أن ما جاء بهذه الصيغ السابقة فهو مرفوع، ولا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم أو بعد موته، وهذا هو المذهب الصحيح.
أدلة مذهب الجمهور: استدل الجمهور لما ذهبوا إليه بما يأتي، قالوا:
- مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من له الأمر والنهي، ومن يجب اتباع سنته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- إن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة ولا العادة، والشرع يتلقى من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا يصح أن يريد أمر الكتاب لكون ما في الكتاب مشهورًا يعرفه الناس، ولا الإجماع لأن المتكلم بهذا من أهل الإجماع، ويستحيل أن يأمر نفسه، ولا القياس؛ إذ لا أمر فيه، فتعين كون المراد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الحافظ ابن حجر: فنقل سالم -وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفَّاظ من التابعين- عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما قول بعضهم: إن كان مرفوعًا فلمَ لا يقولون فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فجوابه: أنهم تركوا الجزم بذلك تورعًا واحتياطًا، أو لغير ذلك.
ذهب بعض العلماء إلى أن ما جاء بهذه الصيغ موقوف لا مرفوع. والصواب ما ذهب إليه الجمهور.
سابعا: إذا قال الصحابي: كنا نرى كذا، أو كنا نفعل كذا، أو كنا نقول كذا، أو يقولون، أو يفعلون كذا، أو نحو ذلك، أو كنا لا نرى بأسًا بكذا، أو كانوا لا يرون بأسًا بكذا، ونحو ذلك من الألفاظ المفيدة للتكرار، أو الاستمرار. فهل ما جاء بهذه الصيغ يأخذ حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟
ما جاء بهذه الصيغ إما أن يضيفه الصحابي إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو لا يضيفه إلى زمانه صلى الله عليه وسلم ؛ فإن أضافه الصحابي إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في الحديث تصريح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك الفعل، أو ذلك القول؛ فهذا مرفوع بالإجماع؛ لأن هذا يدخل في الإقرار الحقيقي.
أما إن أضافه الصحابي إلى زمنه صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يأتِ في الحديث تصريح باطلاعه على ذلك الفعل أو القول فمذهب الجمهور من أهل الحديث والأصول أن هذا النوع من الحديث مرفوع، وهذا هو المذهب الصحيح كما قال النووي وغيره. وذهب الإمام أبو بكر الإسماعيلي إلى أن ما ورد بهذه الصيغ يكون موقوفًا لا مرفوعًا. وهذا مخالف لرأي الجمهور السابق.
أما إذا لم يضف الصحابي هذه الصيغ السابقة إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمذهب الجمهور من المحدِّثين وأصحاب الفقه والأصول: أن هذا النوع من الحديث موقوف، وليس بمرفوع، كما قال الإمام النووي.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أي: أمرني الله تعالى؛ لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الله عز وجل، وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتمل أمرني صحابي آخر؛ لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل، والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيسٍ إذا قال ذلك فُهِم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس.
ثانيًا: تعريف الحديث الموقوف لفظًا وحكمًا:
هو ما أضيف إلى الصحابي قولًا له، أو فعلًا، وخلا من قرينة تدل على رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
حكم الحديث الموقوف من حيث الصحة وغيرها:
إن الوصف بالوقف خاص بالمتن دون الإسناد، وعلى ذلك فالحديث الموقوف منه الصحيح، ومنه الحسن، ومنه الضعيف. وذلك إنما يرجع إلى مدى توفر شروط القبول في الحديث الموقوف أو عدم توفره، فإذا توفرت في الحديث الموقوف أعلى شروط القبول فهو الصحيح، وإن توفرت في الحديث الموقوف أدنى شروط القبول فهو الحسن، وإن فقد الحديث الموقوف شرطًا أو أكثر من شروط القبول فهو الضعيف.
حكم العمل بالحديث الموقوف لفظًا وحكمًا:
منع بعض العلماء إدخال الموقوف والمقطوع في أنواع الحديث محتجين بأن أقوال الصحابة والتابعين ومذاهبهم لا مدخل لها في الحديث، وقد رد الحافظ السخاوي على أصحاب هذا الرأي؛ مستدلًا على أن الموقوف والمقطوع يدخلان في أنواع الحديث بما يأتي:
- الحديث الموقوف والمقطوع قد يأخذ حكم الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك إذا احتفت به قرينة تدل على رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
- الحديث الموقوف والمقطوع يتقوى به الحديث المرسل، وربما يتضح به المعنى المحتمل من الحديث المرفوع.
قال الخطيب: يلزم كتابة الموقوفات والمقطوعات، والنظر فيها؛ ليتخير من أقوالهم، ولا يشذ عن مذاهبهم. وقال الخطيب في الموقوفات على الصحابة: جعلها كثير من الفقهاء بمنزلة المرفوعات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في لزوم العمل بها، وتقديمها على القياس، وإلحاقها بالسنن.
وقد بيَّن الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله أن أقوال الصحابة رضي الله عنهم حجة معمول بها، وأن آراءهم أقرب إلى الصواب من آراء غيرهم ممن جاء بعدهم؛ لمشاهدتهم النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيهم عنه صلى الله عليه وسلم مباشرة الشريعة، فهم أعلم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم عاصروا نزول القرآن الكريم، وهم أعلم الناس بأسباب النزول، والظروف التي نزلت فيها وبسببها آيات القرآن الكريم.
ولأن احتمال أن تكون آراؤهم سنة نبوية احتمال قريب؛ لأنهم كثيرًا ما كانوا يذكرون الأحكام التي بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم لهم من غير أن يسندوها إليه صلى الله عليه وسلم ، ولما كان هذا الاحتمال قائمًا مع أن رأيهم له وجه من القياس والنظر كان رأيهم أولى بالاتباع؛ لأنه قريب من المنقول موافق للمعقول، ولو كان لهم رأي أساسه القياس ولنا من بعدهم قياس يخالفه فالاحتياط اتباع رأيهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّلهم وزكَّاهم.