الحديث النبوي الشريف
نبدأ الكلام بالوقوف مع الحديث النبوي الشريف؛ لأن الحديث النبوي الشريف كان ذا أثرٍ كبيرٍ في الأدب العربي في صدر الإسلام وفيما بعده من عصور، وقد كان الصحابة رضي الله عنه م يروون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وكان هو نفسه صلى الله عليه وسلم يحثهم على ذلك، وترجع أهمية الحديث الشريف إلى أنه يبين القرآنَ الكريمَ، يفصِّلُ مجمله، ويشرح أحكامه، ويقيد مطلقه، وقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أفصحَ العرب قاطبةً، وكما أخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم قال: ((أوتيت جوامعَ الكلم)).
يقول الجاحظ عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم: لم يتكلم إلا بكلامٍ قد حُفَّ بالعصمةِ، وشُيِّدَ بالتأييد، ويُسِّرَ بالتوفيق، ويضرب الجاحظ لبيانه صلى الله عليه وسلم بعض الأمثلة من حديثه الذي قلَّ عدد حروفه وكثرت معانيه؛ فمن ذلك قوله للأنصار: ((أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع))، وقوله: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سواهم))، وقوله: ((لا تزال أمتي صالحًا أمْرُهَا ما لم تَرَ الأمانة مغنمًا والصدقة مغرمًا)).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المستشار مؤتمن))، وقوله: ((إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلفون، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجالسَ يوم القيامة، الثرثارون المتفيهقون))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجن يمينك على شمالك))، وقوله: ((ما أملق تاجرٌ صدوق))، وقوله: ((رحم الله عبدًا قال خيرًا فغنم، أو سكت فسلم)).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرضَى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تُنَاصِحِوا من ولَّاُه اللهُ أمركم، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يقول ابن آدم: مالي مالي، وإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيتَ، أو لبست فأبليت، أو وهبت فأمضيت))، وقوله: ((إن قومًا ركبوا سفينةً في البحر فاقتسموا، فصار لكل رجلٍ موضعٌ، فَنَقَرَ رجلٌ موضعَهُ بِفَأْسٍ فقالوا: ما تصنع؟ هو مكاني أصنع به ما شئت، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا)).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة))، وقوله: ((مَنْ ذَبَّ عن لحمِ أخيه بظاهرِ الغيبِ؛ كان حقًّا على الله أن يُحَرِّمَ لحْمَهُ على النَّار))، وقوله: ((أوصاني ربي بتسعٍ: أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، وبالعدل في الرضا والغضب، وبالقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرًا، ونطقي ذكرًا، ونظري عبرًا)).
فهذه طائفة من حديثه صلى الله عليه وسلم وهي من جوامع الكلم.
كما يذكر الجاحظ طائفةً من أقواله الشريفة صلى الله عليه وسلم التي دارت بين الناس دوران الأمثال، والتي تعد ذخيرةً أدبيةً رائعةً يستفيد منها الأدباء عبر العصور، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا خيلَ اللّه اركبيَ))، وقوله: ((ماتَ حتْفَ أنفه))، وقوله: ((لا تنتطِح فيه عَنْزَان))، وقوله: ((الآنَ حَمِيَ الوَطيس)) والوطيس: هو التنور التي تُوقد فيه النار، والعبارة تضرب مثلًا في اشتداد الحرب، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((هُدْنةٌ على دَخَنٍ، وجماعةٌ على أقذاءٍ)) والدخن هو الحقد، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُلسع المؤمن من جُحْر مرَّتين)).
ومن كلامه صلى الله عليه وسلم الذي يعد مثلًا: ((إن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى)) والمنبت: هو مَن أسرع بناقته حتى هلكت؛ فلم يقض ما يبغي من حاجة أو من سفر. والظاهر المراد به الدابة التي يركبها؛ فالذي يتعجل ليسبق قد لا يسبق ولا يبقي على دابته.
ومن كلامه الشريف صلى الله عليه وسلم الذي جرى مجرى المثل: ((الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة)).
وبعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلغاتِ بعضِ قبائلِ العربِ غيرِ قريش؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم يخاطب بعض وفود العرب بلغاتهم ولهجاتهم، فبقيت من ذلك آثارٌ في بيانِهِ الشريف، من ذلك حديثه المشهور الذي يقول فيه: “ليس من أمبر أمصيام في أمسفر” أي: ليس من البر الصيام في السفر. ولقد استمد المتأدبون عبر العصور من هذا البيان النبوي الرائع في خُطبهم ورسائلهم وكتبهم، ما أضاف إليها رونقًا وطلاوةً، وأعلى من طبقتها في البلاغة صلى الله عليه وسلم.