Top
Image Alt

الحكم الشرعي للقضاء بالقرائن والوسائل الحديثة

  /  الحكم الشرعي للقضاء بالقرائن والوسائل الحديثة

الحكم الشرعي للقضاء بالقرائن والوسائل الحديثة

علمنا مما مضى أنّ الوسائل الحديثة كالبصمة الوراثية والتحليل تلحق بالقرائن، وبما أن القرائن مشروعة، وأن الفقهاء قد أخذوا بها في الجملة بين مُكثر كالمالكية والحنابلة، ومُقِلٍّ كالحنفية والشافعية، وبما أنّ الوسائل الحديثة دقيقة وتَصِلُ إلى حد اليقين والقطع؛ فهي -إذًا- من القرائن القوية المُتفق على العمل بها.

لهذا كله ننتهي إلى أن حكم قضاء القاضي بالقرائن والوسائل الحديثة جائز ولا حرج فيه؛ بشرط ألا تتقدم على العمل بالأدلة الأصلية من إقرارٍ أو بينةٍ، أو يمين وشاهد، أو نكول، وأنها تأتي في المنزلة الرابعة حين تُفتقد الأدلة الأخرى السابقة.

كما تحتاج الوسائل الحديثة للعمل بها إلى شروط يجب توافرها، وضوابط يجب الالتزام بها، وهذا الحكم هو الذي انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة عشرة في مكة المكرمة، في الفترة من 21-26 شوال 1422هـ، الموافق من 5-10 يناير 2002م.

قال مجلس المجمع الفقهي الإسلامي: إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة، وبعد النظر في التعريف الذي سبقَ للمجمع اعتماده في دورته الخامسة “تعريف البصمة”، ونصه: “البصمة الوراثية هي البينة الجنينية التي تَدُلّ على هوية كل إنسان بعينه؛ وأفادت البحوث والدراسات العلمية أنها -أي: البصمة- من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة؛ لتسهيل مهنة الطب الشرعي، ويُمكن أخذها من أي خلية بشرية من الدم، أو اللعاب، أو المني، أو البول، أو غير ذلك.

وبعد الاطلاع على ما اشتمل عليه تقرير اللجنة، التي كَلّفها المجمع في الدورة الخامسة عشرة بإعداده، من خلال إجراء دراسة ميدانية مُستفيضة للبصمة الوراثية، والاطلاع على البحوث التي قُدمت في الموضوع من: الفقهاء، والأطباء، والخبراء، والاستماع إلى المناقشات التي دارت حوله -تبين من ذلك كله أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين، أو نفيهم عنهما، وفي إسناد العينة من الدم أو المني أو اللعاب التي توجد من مسرح الحادث إلى صاحبها.

أي: البصمة ناجحة في ذلك كل النجاح، فهي أقوى بكثير من القِيَافة العادية، التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجُسماني بين الأصل والفرع، كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في عبد بن زمعة، وأمرَ السيدة سودة أن تحتجب منه، وكان ذلك أيضًا بين زيد بن حارثة وابنه أسامة؛ لإثبات النسب بالقيافة، وبيان الشبه.

فالخطأ في البصمة الوراثية أقلُّ كثيرًا من الخطأ في القيافة، فإذا كانت القيافة قد تم الأخذ بها وثبت النسب بها؛ فإنّ البصمة الوراثية تكون أولى من ذلك، وإنما يأتي الخطأ -إذا جاء أو وقع- في الجهد البشري، أو عوامل التلوث، أو نحو ذلك؛ لذلك تم اشتراط شروط معينة، وضوابط محددة للعمل بالبصمة الوراثية.

وبناء على ما سبق، قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي ما يأتي:

أولًا: لا مانع شرعًا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص؛ لخبر: ((ادرءوا الحدود بالشبهات)) وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد من مقاصد الشريعة. إذًا: العمل بها جائز.

ثانيًا: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب، لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية؛ ولذلك لا بُدّ أنْ تُقَدّم النصوص والقواعد الشرعية كالإقرار والبينة، واليمن مع الشاهد -لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.

ثالثًا: لا يَجُوز شرعًا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب؛ لأنّ الشرع يتشوف إلى إثبات النسب وليس نفيه، ولا يجوز تقديم البصمة على اللعان الشرعي.

رابعًا: لا يَجُوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حسم ذلك بقوله: ((الولد للفراش)) فالأنساب الثابتة شرعًا لا يجوز استخدام البصمة الوراثية للتأكد من صحتها، ويَجِبُ على الجهات المختصة منع ذلك، وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونًا لأنسابهم.

خامسًا: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب، في الحالات الآتية:

أ- حالات التنازع على مجهول النسب، بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء.

ب- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات، ومراكز رعاية الأطفال -فلو اختلط الأطفال ببعض، نميزهم عن طريق تحليل البصمة الوراثية- وكذلك الاشتباه في أطفال الأنابيب.

ج- حالات ضياع الأطفال -أطفال الشوارع- واختلاطهم؛ بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهليهم.

سادسًا: لا يجوز بيع “الجينوم” البشري لجنس أو لشعب، أو لفرد أو لأي غرض، كما لا تجوز هبته لأي جهة.

سابعًا: يوصي المجمع بما يأتي:

أ- أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية، إلا بطلب من القضاء.

ب- تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة، يشترك فيها المختصون الشرعيون، والأطباء والإداريون تكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة.

ج- أن توضع آلية دقيقة لمنع الاحتيال والغش ومنع التلوث، وكل ما يتعلق بالجهد البشري؛ في حقل مختبرات البصمة الوراثية. ومن هذا نعلم أن القرائن -ومنها الوسائل الحديثة كالبصمة الوراثية- قد يتعين الحُكم والعمل بها؛ فتكون واجبة حين لا يكون هناك دليل غيرها، وقد لا يجوز العمل بها عند وجود غيرها من الأدلة، وإذا تعين العمل بها أو جازَ وجب الأخذ بكل الشروط والضوابط، التي تُساعد على دقتها وسلامة نتائجها.

error: النص محمي !!