الحكم على الألفاظ
نتحدث-بمشيئة الله وتوفيقه- عن الأسس الفنية لنقد الشعر:
فهناك مقاييس يحتكم إليها النقاد؛ ليستطيعوا أن يحكموا على النص الشعري بأنه جيد، أو أنه غير جيد، وهذه المقاييس النقدية تطبق على العناصر المتنوعة التي تتكون منها القصيدة.
ولقد درج كثير من الدارسين على أن يجعلوا النص الأدبي بصفة عامة يتكون من عنصرين أساسيين، يقولون: هذا العنصر هو الشكل، وهذا العنصر هو المضمون، وتحت الشكل تأتي الألفاظ والجمل، والأساليب المختلفة، والصور البيانية والموسيقى في الشعر، والمحسنات البديعية في الشعر وفي النثر. وفي المضمون يتحدثون عن المعاني، وعن العواطف، وعن التجربة الشعورية.
وهذا تقسيم بالتأكيد إجرائي فقط؛ ليستطيع الدارس أن يحلل كل عنصر، ويدرك أثر هذا العنصر في البناء الفني للعمل الأدبي.
لكن الحقيقة أن هذه العناصر جميعًا إذا جعلنا اللفظ والتركيب أو اللفظ والجملة عنصرًا، والتصوير البياني عنصرًا، والموسيقى عنصرًا، وكذلك العاطفة والمعنى.
هذه العناصر في العمل الأدبي متلازمة ومتلاحمة، فلا يتصور إجمالًا المضمون من غير الشكل الذي يحمله، ولا يُتصور شكل يكون فارغًا من المضمون إلا في الهذيان الذي لا معنى له ولا فائدة منه. فإذًا نحن سنتحدث عن هذه العناصر كما تحدث النقاد؛ ليعرف الدارس أن لكل عنصر من هذه العناصر مقاييس يحكم عليه من خلالها، لكن هذه العناصر -كما قلت- لا يمكن تصور بعضها منفصلًا عن بعض.
تحدث النقد القديم عن الألفاظ وقواعد البلاغة هي التي يلجأ إليها في الحكم على الألفاظ.
من جهة الحكم عليها بالفصاحة:
1- لا بد أن تكون موافقة لأساليب العرب في الدلالة، وفي الاشتقاق.
2- ولا بد أن تكون خالية من العيوب التي ذكرها علماء البلاغة، وهي العيوب التي تخل بفصاحة الكلمة، هذه العيوب منها مثلًا: تنافر الحروف، ومنها: مخالفة القياس، ومنها: عدم الوضوح -الغموض- ومنها: عدم الصحة في الدلالة أو عدم الدقة في الدلالة.
وعندما توضع اللفظة في تركيب، فإنهم يتحدثون عن الشروط التي يجب توفرها لفصاحة الكلام، وذكروا منها: موافقة الكلام لقواعد النحو، وموافقة الكلام لأساليب العرب في التعبير والبيان، وخلو الكلام من تنافر الألفاظ.
وامتلأت كتب البلاغة بالشواهد التي تدل على أن هذا الكلام يخلو من الفصاحة أو يجانب الفصاحة بسبب عيب في التركيب أو بسبب عيب في اللفظ المفرد.
ومن النماذج الشهيرة التي ذكرت للدلالة على أن الكلام بعد عن الفصاحة بسبب تنافر الكلمات:
وقبر حرب بمكان قفر | * | وليس قرب قبر حرب قبر |
والناقد في العصر الحديث لا يستطيع أن يتجاهل هذه المقاييس التي وضعها القدماء للحكم على اللفظ المفرد وعلى الجملة والتركيب، لكن المدارس المختلفة في النقد تختلف في رؤيتها لقيمة اللفظ، وقيمة التعبير، وتختلف في نظرتها أيضًا إلى المقاييس القديمة التي استقرت، والتي أشرت إليها منذ قليل.
فبعض المذاهب النقدية الحديثة لا تحتفل بالتعبير اللفظي، ولا تجعل له القيمة التي كانت للألفاظ والتراكيب في النقد العربي القديم مثلًا.
والرومانسيون في نظرتهم إلى التعبير الشعري يختلفون عن الكلاسيكيين، والرمزيون ومن أتى بعد الرمزيين يختلفون أيضًا في نظرتهم إلى اللفظ والتركيب؛ حتى إننا نجد الغموض الذي يعد عيبًا في الكلام مذهبًا أو طريقة في التعبير تتبناه بعض المذاهب.
أريد أن أقول: إن المقاييس تختلف النظرة إليها من مذهب أدبي إلى مذهب آخر، لكن تظل هناك قيم يجب اعتبارها والرجوع إليها في الحكم على النص الأدبي من جهة كل عنصر من العناصر التي يتكون منها هذا العمل الأدبي.
في النقد الحديث مثلًا: نجد إعلاء من قيمة سهولة اللفظ، وقدرة إيحائه بمعان إضافية، وظلال تغني المعنى وتغني الإحساس بالتجربة الشعورية التي أراد الشاعر نقلها من خلال قصيدته، ونجد أيضًا في النقد الحديث إعلاء من قيمة الإيقاع والجو الموسيقي الذي يحدثه اللفظ أو تحدثه التراكيب.
ومن النقاد الذين كانت لهم جهود طيبة في تجديد مقاييس النقد الأدبي المتعلقة بالألفاظ وتطوير النظرة إلى هذه الألفاظ الأستاذ سيد قطب، وقد سلك هذا المسلك في تعامله مع النصوص الأدبية، وفي تعامله مع القرآن الكريم كذلك، ونحن عندنا نقول مع النصوص الأدبية، ومع القرآن الكريم نؤكد على أن القرآن لا يمكن أن ندرجه تحت عنوان “الأدب”؛ لأن الأدب نشاط إنساني محكوم بظروف معينة، والقرآن الكريم: هو كلام الله الذي أوحاه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المعجز للإنس والجن، والتعامل معه بهذه المقاييس لا ينبغي أن نعتقد أن هذا التعامل يخضع القرآن لهذه المقاييس بوصفه أدبًا، وإنما هذه المقاييس تتعامل مع القرآن الكريم بوصفه الأسلوب المعجز الذي نزل من السماء بلغة العرب، فلأنه بلغة العرب وبأساليب العرب ومع أنه معجز لكننا نستطيع أن نتعامل معه بهذه المقاييس؛ لاستجلاء مظاهر الإعجاز فيه.
يتحدث الأستاذ سيد قطب في كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) عن الألفاظ في الشعر، فيقول: “ففي الشعر خاصة يشغل اللفظ مكانًا ممتازًا يستحق هذه الكلمة المستقلة”، زيادة إلى ما سبق في فصول الكتاب، ثم يقول: “لقد آن أن نرد إلى اللفظ اعتباره”، وهذا التعبير منه: “لقد آن أن نرد إلى اللفظ اعتباره” يدل على ما شاع عند كثير من النقاد من إهمالهم لقيمة اللفظ، أو قيمة التعبير، وأحيانًا بعضهم يهاجم النقد العربي القديم بأنه كان يهتم باللفظ، بل يتهمون الشعر القديم بأنه شعر ألفاظ وعبارات لا تحمل كثيرًا من المعاني أو كثيرًا من التجارب.
كأن الأستاذ سيد قطب أراد أن يرد على هؤلاء فقال: لقد آن أن نرد إلى اللفظ اعتباره، ويبين أن طريقته في النظر إلى اللفظ تختلف عن طريقة النقاد القدماء، فيقول: “لقد آن أن نرد إلى اللفظ اعتباره، لا على طريقة الجاحظ الذي كان يرى أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق، وأن المزية كلها للعبارة؛ حيث يتابعه أبو هلال فيرى: أن ليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم، ولا على طريقة المدرسة التعبيرية التي كان يمثلها في العصر الحديث المنفلوطي وشوقي؛ حيث يكمل وراء التزويق في العبارة كثير من التزوير في الشعور، لا نريد أن نرد إلى اللفظ اعتباره على أساس أنه كل شيء، إنما نريد أن نرد إلى اللفظ اعتباره على طريقة أخرى وعلى أساس آخر”.
تتمثل هذه الطريقة وهذا الأساس في رأي الناقد في أن اللفظ هو الوسيلة الواحدة إلى إدراك القيم الشعورية في العمل الأدبي، وهو الأداة الوحيدة المهيأة للأديب لينقل إلينا خلالها تجاربه الشعورية، وهو لا يؤدي هاتين المهمتين إلا حين يقع التطابق بينه وبين الحالة الشعورية التي يصورها، وعندئذٍ فقط يستنفد على قدر الإمكان تلك الطاقة الشعورية ويوحيها إلى نفوس الآخرين”.
ثم يقول: “والشعر لأنه تعبير عن الحالات الفائقة في الحياة يحتاج أكثر من كل فن آخر من الفنون الأدبية إلى شدة التطابق والتناسق بين التعبير والحالة الشعورية التي يعبر عنها، واللفظ -كما يقول- يعبر عن الحياة الشعورية، بعدة دلالات كامنة فيه، وهي: دلالته اللغوية، ودلالته الإيقاعية، ودلالته التصويرية”.
انظر إلى الفرق بين المعالجة هنا، والمعالجة في النقد القديم، أو عند نقاد آخرين ينظرون إلى اللفظ وإلى التعبير على نحو مختلف. فاللفظ لا يقوم بوظيفته المنوطة به في الشعر، وهذه الوظيفة هي نقل التجربة الشعورية إلا بالدلالة اللغوية، والدلالة الإيقاعية، والدلالة التصويرية.
إذًا لا يكتفى في نظر الناقد من اللفظ أن يكون صحيح الدلالة أو صحيحًا في قياسه، أو صحيحًا في موقعه الإعرابي، وإنما يريد القدرة الدلالية اللغوية، والدلالة الإيقاعية، والدلالة التصويرية، ويذهب إلى أن أي نقص من هذه الدلالة الثلاثة في الشعر يؤثر في مدى تعبيره عن التجربة الشعورية التي يتصدى لتصويرها، وتقصير اللفظ في تصوير التجربة الشعورية بسبب نقص في دلالته اللغوية أو دلالته الإيقاعية أو دلالته التصويرية يحجب جزءًا من قيمة هذه التجربة الشعورية، ويمنع هذا اللفظ من الإيحاء، وبالتالي يكون الحكم النقدي على النص الأدبي كله متأثرًا بهذا الإخفاق في اختيار اللفظ الوافي بالدلالة اللغوية، والدلالة الإيقاعية، والدلالة التصويرية.
واعتبر الناقد سيد قطب -عليه رحمة الله- أن حكم القدماء على المتنبي والمعري بأنهما حكيمان، وأن الشاعر هو البحتري، يرى الناقد أنهم كانوا على صواب في ذلك، وأنهم كانوا ينظرون في هذا الحكم إلى طريقة كل واحد من هؤلاء الشعراء في التعبير عن تجربته، لكنه لا يوافق القدماء على طول الخط كما قال؛ لأنهم كانوا يفهمون من اللفظ -كما يقول- هو غير ما نفهم، ويريدون وظيفته على غير ما نريد.
ويضيف: ولكننا نقول: إن إيقاع البحتري وصوره وظلاله المشعة هي نموذج بارع في الشعر العربي للأداء الشعري الموحي، ولو كان البحتري في طبيعته الشعرية أكبر مما كان -أي: لو كان من طراز المتنبي أو ابن الرومي- لكان مكانه أضخم وأعلى، وهذا ابن الرومي على موهبته الفنية الفريدة في الشعر العربي يعوقه تعبيره النثري المفصل المعلل في أحيان كثيرة عن بلوغ المنزلة الفنية التي تستحقها طبيعة شعوره.
فابن الرومي في نظر سيد قطب صاحب موهبة كبيرة في الشعر، لكنه لا يوفق في اختيار ألفاظ موحية مشعة، الألفاظ عنده يمكن أن تؤدي دلالتها اللغوية، لكنها لا تؤدي الدلالة الإيقاعية والتصويرية.
ويقول: “والمتنبي حين يخلص من برودة التأمل الفكري، ثم يخلص من تعقيد التعبير اللفظي يصل إلى قمة فنية شامخة بالقياس إلى الشعر العربي كله كذلك، وحين تخلص لأبي تمام أبيات تقرب من هذا الطراز يرتفع ويصبح شيئًا آخر. وبالمثل نجد للمعري في أحيان قليلة أبياتًا من الشعر الخالص الطليق التعبير، ويوضح بجلاء نظرته إلى اللفظ فيقول: وليس المقصود هو رونق اللفظ أو جزالته ولا قوة الإيقاع أو حلاوته، إنما المقصود هو التناسق بين طبيعة التجربة الشعورية وطبيعة الإشعاع الإيقاعي والتصويري للفظ؛ بحيث يتسق الجو الشعوري والجو التعبيري على نحو ما مثلنا بأبيات ابن الرومي في “ريح الصبا”، وأبيات المعري في قصيدة “الرثاء” الدالية.
إذًا الاتساق والتناسق بين طبيعة التجربة الشعورية بين إحساس الشاعر وفكره بين مضمونه الذي يريد نقله، هذا التناسق بين ذلك وبين طبيعة التعبير وطبيعة الإشعاع الإيقاعي والتصويري والدلالي للفظ هو مدار النظر في رأي سيد قطب، وأشار إلى أبيات ابن الرومي في “ريح الصبا”، وأبيات المعري في قصيدة “الرثاء” الدالية غير مجد في ملته واعتقاده، وأورد أبيات البحتري في وصف الربيع بوصفها نموذجًا في الألفاظ الدالة بإيقاعها، وبتصويرها، وبدلالتها اللغوية أيضًا، وهي قوله:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا | * | من الحسن حتى كاد أن يتكلما |
وقد نبه النيروز في غسق الدجى | * | أوائل ورد كن بالأمس نوما |
يفتقها برد الندى فكأنه | * | يبث حديثًا كان قبل مكتما |
فمن شجر رد الربيع لباسه | * | عليه كما نشرت وشيًا منمنما |
ورق نسيم الريح حتى حسبته | * | يجيء بأنفاس الأحبة نعما |
وقال تعليقًا على هذه الأبيات: “إن قيمة التعبير هنا أنه بإيقاعه وبالصور والظلال التي تشعها الألفاظ والعبارات ينشر جو الربيع كما هو في نفس الشاعر؛ فالجو كله جو يقظة بادية وتعبير عن مكنون في الضمير، فالربيع كاد أن يتكلما، والنيروز نبه في غسق الدجى أوائل ورد كن بالأمس نوما، وبرد الندى يفتقها وكأنه يبث حديثًا كان قبل مكتما، والربيع يرد على الشجر لباسه، كما نشرت وشيًا منمنمًا، والوشي المنمنم أشبه شيء بالهمس في أذن الورد للتنبيه، ونسيم الريح رق حتى ليحسبه يجيء بأنفاس الأحبة نعما. كل ظل للفظ وكل إيقاع هو ظل اليقظة البادئة، وإيقاع الحركة المتفتحة، وعلى الساحة هنا شخصيات كلها مشرق، وديع، لطيف، أنيس. الربيع يكاد أن يتكلم، وهو ينبه أوائل الورد النوم في غسق الدجى. والشاعر يقول: “كن نوما”، لا كانت نائمة؛ لأن نون النسوة والجمع يوحي بأنهن عرائس وسنى ينبهن الحبيب الزائر في غسق الدجى. ويستمر الجو فنرى برد الندى يفتق الغلائل عن هؤلاء العرائس ويبثهن حديث الهوى الناعم، وكان قبل مكتما، والربيع يرد اللباس على عرائسه وكأنما ينشر أردية منمنمة موشاة، والنسيم يرق حتى لكأنه أنفاس الأحبة والأحبة الناعمين الهانئين، ذلك جو، وتلك ألفاظ.
فلننظر إلى جو آخر، وألفاظ أخرى للبحتري أيضًا في إيوان كسرى، وأتى الناقد بأبيات للبحتري في إيوان كسرى؛ وهي قوله:
يتظنى من الكآبة أن يبـ | * | دو لعيني مصبح أو ممسي |
مزعجًا بالفراق عن أُنس إلف | * | عز أو مرهقًا بتطليق عرسِ |
عكست حظه الليالي وبات ال | * | مشتري فيه وهو كوب نحس |
فهو يبدي تجلدًا وعليه | * | كلكل من كلاكل الدهر مرسي |
يقول: فهو جو كئيب مختنق الأنفاس، وهنا ظلال الألفاظ وإيقاعها تشارك في خلق هذا الجو الكئيب المختنق الأنفاس، لا بمعناها اللغوي فحسب، بل بظلها وجرسها.
إذًا هذه هي طريقة النقد الحديث في النظر إلى الألفاظ ووظيفتها في التعبير الشعري، ومع الألفاظ تأتي الأساليب المتنوعة؛ كأسلوب الاستفهام، وأسلوب النفي، وأسلوب التعجب، وأسلوب النداء، وكلها تستخدم للدلالة على التجربة الشعورية التي يريد الشاعر نقلها أو نقل الإحساس بها، أو الإيحاء بها إلى الآخرين.