الحكم على الصور البيانية، والموسيقى
وكذلك تأتي الصور البيانية التي يبتكرها خيال الشاعر في صورة تشبيه أو استعارة، أو أي لون آخر من ألوان المجاز؛ لتساعد مع الألفاظ والجمل والأساليب في نقل هذه التجربة التي يريد الشاعر نقلها إلى الآخرين.
وهناك أيضًا عنصر الموسيقى، والموسيقى في الشعر موسيقى خارجية تتمثل في الوزن والقافية، وموسيقى داخلية تأتي من التناسب الإيقاعي والنغمي بين الألفاظ وبين الجمل، وأحيانًا المحسنات البديعية يكون لها دور في إغناء هذه الموسيقى الداخلية.
فإذا كانت الموسيقى الداخلية والموسيقى الخارجية، والألفاظ والجمل، والأساليب، والصور البيانية، كل ذلك كان الشاعر موفقًا في اختياره وتوظيفه للدلالة على ما في نفسه لاستطاع هذا الشاعر أن يقدم لنا قصيدة جيدة، والمهم أن يكون هناك تناسق بين هذه العناصر جميعًا وأن يكون هناك تناسق بين التعبير والشعور.
وعن هذا التناسق الذي يكفل النجاح للتجربة يقول الأستاذ سيد قطب: وتناسق التعبير مع الشعور، وتطابق الانفعال مع شحنات الألفاظ، واستنفاد العبارة اللفظية للطاقة الشعورية هو ما يوصف بأنه عمل من صنع الإلهام، والنقاد عندما يحكمون على كل عنصر من هذه العناصر، يحكمون عليه بمقاييس خاصة بهذا العنصر أو ذاك، فمثلًا تحدثنا عن الألفاظ والتراكيب، كيف كان ينظر النقد القديم إليها، وكيف ينظر النقد الحديث إليها؟
فيما يتعلق بالخيال: الصورة التي يبتكرها الخيال، فتأتي في شكل تشبيه أو استعارة، كان النقد القديم يعيب على التصوير البياني أو التصوير التخيلي الإغراق والبعد، إذا كان هناك علاقة بعيدة أو مستغربة بين طرفي الصورة فإن النقد القديم يعيب ذلك على الشاعر.
هذا الأمر أيضًا في النقد الحديث تطور وتغير بفعل هذه المذاهب النقدية والأدبية الحديثة. فالرمزيون وغيرهم الذين لا يريدون للتعبير الشعري أن يكون كاشفًا، ويحبون أن يكون التعبير ملفوفًا بشيء من الغموض، لا يستحسنون هذه الصور الواضحة التي كان يستحسنها النقد العربي القديم. وهم في تعظيمهم لقيمة الإيحاء على قيمة الدلالة يحبذون الصور الغامضة.
يرحبون بهذا التصوير الذي تكون العلاقة فيه بعيدة أو غريبة بين طرفي الصورة، بل إننا وجدناهم يدعون الشعراء إلى هذه الطريقة التي تسمى عند الرمزيين “تراسل الحواس”؛ فالشاعر يصف مدركات حاسة بما توصف به مدركات حاسة أخرى. وقد شرحنا ذلك في درس سابق، فيصفون الصمت بأنه ناعم، ويصفون مثلًا الهدوء بأنه مشمس، وهكذا.
فإذًا طريقة النقد الحديث تأثرت في حكمها وفي مقاييسها على الصور البيانية بهذه المذاهب النقدية والأدبية الحديثة. ووجدنا طريقة التعامل مع النص الأدبي تختلف في عصرنا الحديث عن طريقة القدماء، أيضًا الموسيقى، موسيقى الشعر.
نعرف أن المقاييس الأولى والمتوارثة للحكم على موسيقى الشعر تعتمد في المقام الأول وتعتمد اعتمادًا كبيرًا على علم العروض، علم الأوزان والقوافي. وبناء على هذا النهج الذي سار عليه الشعر العربي منذ عصره الأول في العصر الجاهلي حتى عصر البارودي وشوقي، القصيدة تبنى على بحر معين من البحور الشعرية المعروفة عند العرب، ويلتزم الشاعر بنظام القافية، القافية الواحدة، أو القافية المنوعة، هذا النظام وهذه المقاييس، أراد دعاة الشعر الحر ودعاة الحداثة الذين لم يقفوا عند ما وقف عنده دعاة الشعر الحر أرادوا أن يعصفوا بهذا التقليد، وبهذه المقاييس وأن يلغوها من مجال النقد الأدبي في الحكم على القصيدة.
ووجدنا الشعراء يتحللون من هذه المقاييس، ومن تلك القيم الموسيقية العروضية المتوارثة، وبدأ هذا التحرر بالتحرر من سلطان القافية، ومن سلطان البناء التقليدي للقصيدة المعتمد على وحدة البيت، وبعد ذلك تمادى هذا التحرر ليتخلص مما سموه قيد الوزن أيضًا، ووجدنا من يتبنى ما يسمى الآن بقصيدة النثر.
فإذًا هذه العناصر التي تسمى عناصر الشكل في القصيدة، متمثلة في الألفاظ، والأساليب، والموسيقى الشعرية، والتصوير الخيالي أو الصور البيانية، وكذلك المحسنات البديعية. كل هذه العناصر اختلفت مقاييس النظر إليها في النقد الحديث، وحدث تأثر كبير بالمذاهب الأدبية والنقدية التي دخلت على موروثنا النقدي والمقاييس النقدية المتوارثة على هذه العناصر، وقد أفاد الدارسون والنقاد بطبيعة الحال من هذا التجديد وهذا التطور الذي حدث في النقد الحديث.
ولكن يبقى أن ننبه إلى أن إلغاء المقاييس النقدية القديمة، والتحرر منها جملة لا يمكن أن يكون في صالح النقد، ولا في صالح الأدب؛ لأن كل أدب له مقاييسه النابعة من طبيعة أصحابه، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نتخلص تخلصًا تامًّا من مقاييسنا النقدية التي احتكم إليها نقادنا القدماء في حكمهم على الشعر العربي، لا يمكن أن نتخلص منها تخلصًا تامًّا، ونأتي بمقاييس غربية خالصة ونريد أن نطبقها على الأدب العربي القديم أو الحديث، والذين يسلكون هذا المسلك من النقاد أو من الشعراء والأدباء في الحقيقة يرتكبون خطأ فادحًا؛ لأنهم يقطعون حاضر الأدب العربي ونقده بماضيه، ويقطعون هذه الثقافة الأدبية عن جذورها، وعن ينابيعها الأصيلة؛ وينتج عن ذلك أن الذي يقدم من نقد أو من إبداع بينه وبين الأصول العربية هذه القطيعة التامة، هذا الذي يقدمونه وبينه وبين تراثنا قطيعة تامة لا يجد كثيرًا من المتذوقين أو المستسيغين أو المرحبين فضلًا عن الفاهمين، فعندما يقرأ الواحد منا الآن عملًا أدبيًّا لا يحتكم صاحبه إلى الدلالة اللغوية للفظ، ولا يحتكم إلى القواعد النحوية في التركيب، ولا يحتكم إلى طريقة العرب في البيان، بالتأكيد يجد هذا العمل غريبًا عنه، وعن فكره، وعن ثقافته، وعن شعوره أيضًا.
وهذه القصيدة أو هذا العمل الأدبي -أيًّا كان- يفشل في أن يقيم بينه وبين صاحبه، أو أن يقيم بين صاحبه وبين المتلقي جسورًا من التأثير والتأثر أو التفاعل. وإذا كان العمل الأدبي من أهم وظائفه بل وظيفته الأولى أن ينقل تجربة صاحبه إلى الآخرين، فإن هذا العمل يفشل فشلًا ذريعًا في وظيفته الأولى؛ بسبب انقطاعه هذا الانقطاع التام عن القيم التراثية التي تناسب هذا الأدب.
كذلك إذا قرأ الواحد منا عملًا نقديًّا مبنيًّا على هذه القطيعة أيضًا بين الحاضر والماضي، ومجتلبًا لطريقته ومقاييسه من النقد الغربي أيضًا؛ يشعر الإنسان بغربة هذا التحليل النقدي، ولا يستطيع أن يعتمد عليه في فهم العمل الأدبي. يستغرب الإنسان عندما يجد النقد تحول إلى رموز، وإشارات، وحروف، وجداول، ورسوم بيانية، وعندما يقرأ الكلام المكتوب لا يجد فيه جملة واضحة، ولا تعبيرًا دالًّا، ولا تعبيرًا مشرقًا. فكأن النقد والأدب أصيبا بالعقم وبالغموض، وعدم الفهم بسبب هذه القطيعة بين المقاييس القديمة النابعة من تراثنا وطبيعة أدبنا، وهذا العصر الحديث.
ولا بأس -كما قلت- من الإفادة من منجزات الثقافة الغربية والنقد الغربي على أساس من التفاعل والتكامل بين هذه الثقافة وثقافتنا بين هذه المقاييس الحديثة وتراثنا، أما القطيعة التامة فإنها لا تنتج شيئًا ذا بال، بل أقول: إنها تنتج شيئًا خطيرًا لا يكون في صالح النقد، ولا في صالح الأدب.