الحكم على اللقيط بالحرية والإسلام
اللقيط: هو الطفل المنبوذ الذي وجد ملقًى على الأرض، وقد تكلمنا في ملتقطه وشروط ملتقطه …إلخ، وهذا اللقيط في نظر عامة أهل العلم -كما قال ابن المنذر- يعتبر حرًّا؛ أي: نحن لا نعرف إن كان حرًّا أو عبدًا مملوكًا؛ أي: ابن عبد مملوك لسيد؛ لأن العبد وما ملكت يداه والولد تابع لأبيه في الدين، ولأمه في النسب، أو أمه رقيقة، والأصل أن أمه رقيقة، فهذا يكون تابعًا لسيدها فهو عبد، كما أمه تابعة للسيد، ولكنه يتبع أباه في الدين.
فهذا اللقيط كيف نعرف إن كان ابنًا لأمة مملوكة لسيد أو أنه حر؟ لكن قطع هذا عامة أهل العلم وقالوا: إن اللقيط حر؛ وذلك لأن الأصل في الآدميين الحرية، فالله تعالى خلق آدم وذريته أحرارًا، وإنما الرق لأمر عارض، وما دام لم يعلم ذلك العارض فإن اللقيط له حكم الأصل, أي: الرق يكون لأمر عارض؛ فيكون في الحروب والأسر، ويكون بالبيع, هذه أمور عارضة، لكن ما دمنا لا نعرف أمرًا عارضًا لهذا فعلى الأصل وهو الحرية, فيكون للقيط حكم هذا الأصل وهو أن يكون حرًّا، وهذا القول مرويّ عن كثير من الصحابة: ابن عمر وعلي، وبه قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه والشعبي والحكم، ومجموعة من السلف والتابعين، وهو رأي الشافعي وأصحاب الرأي ومن تبعهم؛ في أن الأصل في اللقيط أنه حر، فلا يكون رقيقًا.
ننتقل إلى الأمر الثاني، وهو إسلام اللقيط أو كفره؛ ومثلما قلنا في حريته ورقه، نقول: لما كان الأصل في الإنسان أنه حر, بناء على قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المغير، وما دام لم يوجد المغير، وهو العارض في هذا الطفل بالنسبة للحرية، فما الحكم هنا بالنسبة للقول بإسلامه أو كفره؟
القول بالإسلام أو الكفر, هذا فيه كلام لأهل العلم، حيث قالوا: إذا كانت الدار دار إسلام؛ أي: المكان مكان مسلمين، يعيش فيه قوم من المسلمين، هل يكون اللقيط حرًّا ومسلمًا تبعًا لهذه الدار التي التقط فيها؟
هذا محل خلاف لأهل العلم في الأصل، أو اختلف الفقهاء في الأصل الذي يحكم به على اللقيط من حيث الإسلام أو عدمه، فهل يكون الأصل في ذلك هو الدار التي وجد فيها من حيث كونها دار إسلام أو غير دار إسلام؟ أي: القوم الذين يسكنون في هذه الدار إذا كانوا مسلمين، نسميها دار إسلام، أو إذا كان هؤلاء مثلًا كلهم أهل كتاب نسميها غير دار الإسلام، فهل المنظور فيه بالنسبة للقيط من حيث الإسلام أو عدمه إلى الأصل؟ وهل هو الدار التي وجد فيها من حيث كونها دار إسلام أو غير دار إسلام؟ أي: حال دين الواجد من كونه مسلمًا أو كتابيًّا؟
اختلف الفقهاء؛ هل الأصل هو ذلك أم الأصل هو ذاك؟
فعند الحنفية أقوال ثلاثة: أولها: قالوا: العبرة للمكان. والثاني: العبرة للواجد. والثالث: يختلف؛ فقد نجعل العبرة للمكان, أو للواجد على حسب الظرف الذي وجد فيه هذا اللقيط.
بناء على القول الأول عند الحنفية، وهو أن العبرة للمكان، مثاله: إذا وجد اللقيط مسلم؛ أي: هذا اللقيط وجده شخص مسلم، ووجده في بلد إسلامي أو في قرية من قرى المسلمين، فإنه في هذه الحالة يحكم بإسلامه، فهذا نظر فيه إلى المكان، هذا قول للحنفية من ثلاثة، فيحكم بإسلامه إذا وجد في بلد إسلامي أو في قرية من قرى المسلمين، والقرية كلها معروفة للمسلمين، حتى ولو كانت فيها بعض أهل كتاب.
لكن العبرة هنا أن البلد إسلامي أو القرية قرية مسلمين؛ فلو مات يغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، وإذا وجده مسلم أو وجده ذمي في بيعة أو في كنيسة أو في قرية ليس فيها مسلم واحد؛ لأننا سنقول بعد ذلك: إنه لو وُجد في قرية وفيها مسلم واحد، فسوف يترتب على هذا حكم، فإذا وجده مسلم أو ذمي في بيعة أو في كنيسة أو في قرية ليس فيها مسلم، يكون هذا اللقيط ذميًّا تحكيمًا للظاهر, ولو وجده ذمي في بلد إسلامي يكون مسلمًا؛ أي: لم ننظر هنا إلى الواجد، وإنما نظرنا إلى الوجود, ففي بلد إسلامي يكون مسلمًا، وعلى هذا نستطيع أن نقول بناء على هذا القول: إن العبرة فيه بالنظر إلى المكان، ومن هنا حكمنا على هذا اللقيط بأنه مسلم.
القول الثاني عند الحنفية: العبرة للواجد، وهذا القول عند الحنفية أورده بعض فقهاء الحنفية عن محمد بن الحسن, حيث قال: ينظر إلى حال الواجد من كونه مسلمًا أو ذميًّا، ولا يلتفت إلى المكان؛ لأن اليد -أي الحيازة- أقوى من المكان؛ أي: إذا وُجد في يد مسلم نحكم له بكونه مسلمًا، وإذا وُجد في يد ذمي نحكم له بكونه غير مسلم؛ لأن اليد أقوى من المكان.
أما بناء على القول الثالث، وهو الذي قال: قد تكون العبرة للمكان أو للواجد، فمثلًا مرة يحكمون بأن تجعل العبرة للمكان أو للواجد، وضربوا أمثلة كثيرة لذلك. قالوا: يكون اللقيط مسلمًا بحسب الواجد أو الشخص الذي وجده من كونه مسلمًا أو ذميًّا, أو بحسب المكان، مع أن هذا القول فيه تردد؛ أي: تارة نحكم لهذا اللقيط بكونه مسلمًا أو غير مسلم، بحسب المكان أو بحسب الواجد، ومع ذلك قال الكاساني من فقهاء الحنفية: إن هذه هي الرواية الصحيحة, أو هذا القول هو الصحيح.
فالتحكيم هنا قد يكون لواحد من أمرين؛ حيث إنهم قالوا: إذا وجده المسلم في بلد إسلامي كان مسلمًا تبعًا للدار، ولو وجده كافر في دار الإسلام كان مسلمًا تبعًا للدار، وإذا وجده مسلم أو ذمي في كنيسة كان ذميًّا؛ لأن الموجود في مكان تحت أيدي أهل الإسلام وتصرفهم، أي: إذا كانت القرية قرية مسلمين أو البلد بلدًا إسلاميًّا حكمنا بإسلامه.
ويأتون إلى أن العبرة بالواجد، حيث قالوا: اللقيط الذي في يد مسلم وتصرفه في يد مسلم، هذا الأمر فيه ظاهر، أما العكس الذي نريد أن نقوله، قالوا: اللقيط الموجود في مكان تحت يد أهل الذمة وتصرفهم, فهم أهل السطوة والغلبة في المكان هذا؛ يكون ذميًّا ظاهرًا، فكان اعتبار المكان أولى.
فهم مرة يقولون باعتبار الواجد تبعًا لظروف الواقعة، ومرة يقولون باعتبار المكان, والقول الثالث هو الأصح عند الحنفية.
أما المالكية فلهم رأي وجيه, حيث قالوا: الحكم للغالب إسلامًا أو دارًا؛ فإذا وجد اللقيط في بلد المسلمين، فإنه يحكم بإسلامه لأنه الأصل والغالب، سواء التقطه مسلم أو كافر؛ لأن الغلبة هنا ما دام البلد بلد إسلام فيحكم بإسلامه لأنه الغالب، وإذا وجد في بلاد أو قرى لغير المسلمين، فإنه يحكم بعدم إسلامه، سواء التقطه مسلم أو ذمي تغليبًا للدار، والحكم للغالب؛ أي: ينظر هنا إلى الغالب.
والشافعية والحنابلة قالوا: المعتبر في المسألة هو الدار -اقتصروا على هذا- التي يوجد بها اللقيط؛ فإن كانت دار إسلام حكمنا بإسلامه تبعًا للدار التي وجد فيها، وإن كانت غير دار الإسلام حكمنا بعدم إسلامه, تبعًا للدار التي وجد فيها.