الخبر المتواتر: تعريفه، وإفادته، وأقسامه
تقسيم الخبر باعتبار تعدد طرقه وعدم تعددها إلى متواتر وآحاد:
سبق أن عرَّفنا الخبر والحديث، وقلنا: إن الخبر مرادف للحديث، وعرَّف الجمهور الخبر بأنه: ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من: قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خِلقية أو خُلقية، حقيقة أو حكمًا، وكذلك ما أضيف إلى الصحابة والتابعين من قول أو فعل،…” وسبق شرح ذلك في موضعه.
والخبر بهذا المعنى ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الخبر المتواتر.
القسم الثاني: الخبر الآحاد.
وذلك يرجع إلى تعدد الطرق أو عدم تعددها، فإذا كانت طرق الخبر كثيرة غير منحصرة في عدد معين؛ كان الخبر متواترًا، وإن كانت طرق الخبر مُنحصرة في عدد معين؛ كان الخبر آحادًا.
التواتر لغة: التتابع، يقال: تواترت الإبل وكل شيء إذا جاء بعضه في إثر بعض، ولم تجئ مصطفة، وأوتر بين أخباره وكتبه: تابع، وبين كل كتابين فترة قليلة.
فالتواتر عبارة عن تتابع أشياء؛ واحد بعد واحد، بينهما مهلة، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} [المؤمنون: 44] أي: أرسلنا رسلنا واحدًا بعد واحد بينهما فترة زمنية.
التواتر اصطلاحًا: هو تتابع الخبر عن جماعة مفيد للعلم بمُخبِره.
المتواتر لغة: هو المتتابع.
المتواتر اصطلاحًا: هو الذي رواه جمعٌ عن جمع، يحيل العقل أن يتفقوا على الكذب، أو أن يقع منهم مصادفة عن مثلهم، من أول الإسناد إلى آخره، وأن يستندوا إلى أمر محسوس، من سماع أو رؤية.
قال ابن الصلاح في تعريف المتواتر: هو عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولا بد في إسناده من استمرار هذا الشرط في روايته من أوله إلى منتهاه.
قال الإمام النووي: المتواتر ما نقله عدد لا يمكن مواطأتُهم على الكذب عن مثلهم، ويستوي طرفاه والوسط، ويخبرون عن حسيٍّ لا مظنون، ويحصل العلم بقولهم.
شرح التعريف:
اشتمل هذا التعريف على أربعة قيود:
القيد الأول: أن يكون عدد الرواة في كل طبقة من طبقات الإسناد عدد كثير، وهذا العدد الكثير لا يشترط فيه عدد معين على الصحيح، بل يُشترط في هذا العدد أن تُحيل العادة أن يتفقوا على الكذب، أو أن يصدر منهم اتفاقًا من غير قصد، ومن العلماء من حدَّد العدد الذي يتحقق به التواتر، غير أنهم اختلفوا في تحديد الحد الأدنى؛ فقال بعضهم: أربعة، قياسًا على شهود الزنا، ومنهم من قال: خمسة؛ لأن شهود الزنا بحاجة إلى من يُزكيهم، فلو كان خبرهم مفيدًا للعلم ما احتاجوا إلى تزكية، ومنهم من قال: سبعة، ومنهم من قال: عشرة؛ لأنه أول جموع الكثرة، ومنهم من قال: اثنا عشر، بعدد النقباء من بني إسرائيل.
والصحيح أن العدد الذي يتحقق به التواتر غير منحصر في عدد معين، ولا أدل على ذلك من أن الذين قالوا بانحصاره في عدد معين اختلفوا في تحديد الحد الأدنى الذي يتحقق به التواتر.
القيد الثاني: أن يحكم العقل باستحالة اتفاقهم على الكذب أو وقوعه منهم مصادفة، أي: أن العقل يحكم باستحالة صدور الكذب عنهم عمدًا أو سهوًا.
القيد الثالث: أن يكون الخبر الذي نقله هذا العدد مما يُدرك بأحد الحواس كالسمع والبصر، فيقول الرواة: سمعنا كذا أو رأينا كذا، أما ما يثبت بالعقل الصرف كحدوث العالم وغير ذلك من القضايا العقلية فلا يدخل في باب المتواتر.
القيد الرابع: أن يتحقق ذلك في كل طبقة من طبقات الإسناد، فلو تحققت الشروط الثلاثة في طبقات الإسناد كلها إلا طبقة واحدة فلا يكون متواترًا؛ لأن الحكم على الإسناد يكون بأقل الرواة، كما أنه لا يشترط أن يكون عدد الرواة متساوين في كل طبقة من طبقات الإسناد، بل يشترط ألا يقل العدد في كل طبقة عن عدد التواتر فقط.
شروط الخبر المتواتر:
الشرط الأول: أن يكون رواته عددًا كبيرًا.
الشرط الثاني: أن يحكم العقل باستحالة اتفاق رواته على الكذب عادة أو حصوله منهم اتفاقًا.
الشرط الثالث: أن يكون عدد الرواة في كل طبقة من طبقات الإسناد يتحقق بهم التواتر، فإذا اختل العدد ولو في طبقة واحدة فلا يكون متواترًا.
الشرط الرابع: أن يكون الخبر الذي نقلوه مما يُدرك بالحس من سماع أو رؤية، لا مما يدرك بالعقل المحض وذلك بأن يكون آخر ما يصير إليه السند وينتهي عنده أمرٌ حسي، كأن تقول: آخر طبقة في الإسناد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا، أو رأيناه يعمل كذا.
ما الذي يفيده الخبر المتواتر؟
إذا استوفى الخبر المتواتر جميع شروطه فإنه يفيد العلم اليقيني الضروري لسامعه؛ بحيث يضطر إليه ولا يمكنه أن يدفعه أو يرده بحال من الأحوال، وينبغي أن نعلم أن العلم نوعان:
النوع الأول: العلم الضروري، وهو الذي لا يتوقف على نظر واستدلال، بل يُضطر الإنسان إليه؛ بحيث لا يمكنه دفعه ويحصل لكل سامع.
النوع الثاني: العلم النظري، هو ما توقف على نظر واستدلال؛ لأن العلم النظري ينشأ عن ترتيب أمور معلومة أو مظنونة، يتوصل بها إلى علوم أو ظنون، ولا يحصل لكل سامع بل يحصل لمن فيه أهلية النظر والاستدلال.
المراد باليقين: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، اتفق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين على أن العلم الحاصلَ عن الخبر المتواتر ضروري، وإنما كان الخبر المتواتر مفيدًا للعلم اليقيني الضروري؛ لأن العلم بالتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعوام، وهم ليسو أهلًا للنظر والاستدلال.
حكم العمل بالخبر المتواتر:
لما كان الخبر المتواتر مفيدًا للعلم اليقيني الضروري وجبَ العمل به، وكان صالحًا للاحتجاج به في إثبات العقائد والأحكام الشرعية العملية، سواء ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات وكذلك الأخلاق والآداب.
حكم من ينكر الخبر المتواتر:
لما كنا على يقينٍ من أن الخبر المتواتر صادرٌ عن قائله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم علينا قبوله من غير تردد، وأما من أنكره أو ينكره مع علمه بأنه متواتر، وعلمه بحكم من ينكر الخبر المتواتر فإنه يكون بذلك رادًّا لما علم قطعًا أنه قول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيكون بذلك كافرًا.
ويجب أن نعلم أن المراد من رد الخبر هو جُحوده وإنكاره، أما من تأول الخبر فإنه لا يدخل في باب مُنكِر الخبر وجاحده بحال من الأحوال؛ لأنه يلزم من تأويل الخبر قبوله أولًا، كما يجب أن نعلم أن العذر بالجهل هو مذهب أهل السنة والجماعة.
وجود الحديث المتواتر في السنة:
اختلف العلماء في وجود الحديث المتواتر في السنة، وهذه آراؤهم:
قال ابن حبان والحازمي: إن السنة لا يُوجد بها حديث متواتر، بل ذلك معدومٌ في السنة. نقول لعل ابن حبان والحازمي قصدا بالمتواتر المنعدم المتواتر كالقرآن الكريم، فإن كان هذا قصدهما فهو صواب لا خلاف فيه.
قال ابن الصلاح: إن المتواتر في الحديث يعزُّ وجوده إلا أن يُدعى ذلك في حديث: «مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار».
قال الحافظ ابن حجر: إن المتواتر في الأحاديث موجود بكثرة، ثم رد على ابن حبان والحازمي وغيرهما، فقال رحمه الله : ذكر ابن الصلاح أن مثال المتواتر على التفسير المتقدم يعز وجوده إلا أن يُدّعى ذلك في حديث: «مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» وما ادعاه من العزة ممنوعٌ، وكذا ما ادعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضيةِ لإبعاد العادة أن يتواطئوا على الكذب.
ومن أحسن ما يُقرر كون المتواتر موجودًا وجود كثرة في الأحاديث: أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنِّفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددًا تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير.
أقسام المتواتر:
ينقسم الخبر المتواتر إلى قسمين:
القسم الأول: “المتواتر اللفظي”:
هو ما تواتر لفظه بأن ينقل إلينا بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولكن مثال ذلك حديث «مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، فهذا الحديث أخرجه البخاري في مواطن كثيرة، وأخرجه الإمام مسلم، وأخرجه غيرهما في كتب السنة، ولكن ليس هذا كتواتر القرآن الكريم، بأن يُنقل بلفظه الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تغيير في اللفظ ولا تقديم ولا تأخير، ولا أدل على ذلك من أن حديث «مَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» الذي مثَّل به العلماء للحديث المتواتر وادعى بعضهم أنه لم يتواتر سواه لم يروَ على لفظ واحد، بل هناك اختلاف بين الروايات في لفظه، وإن كان هذا الاختلاف يسيرًا غير أنه ليس كالقرآن الكريم الذي حفظه الله وصانه وتعبدنا بتلاوته، فهو بحروفه وكلماته، بل وبضبط حروفه كما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
القسم الثاني: “المتواتر المعنوي”:
هو ما تواتر معناه دون لفظه، وذلك بأن ينقل جماعةٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائعَ مختلفة، تشترك في أمر يتواتر ذلك القدر المشترك، كما إذا نقل رجلٌ عن حاتم مثلًا: أنه أعطى جملًا، وآخر: أنه أعطى فرسًا، وآخر: أنه أعطى دينارًا، وهلم جرّا، فيتواتر القدر المشترك بين أخبارهم وهو الإعطاء؛ لأن وجوده مشترَك في جميع هذه القضايا.
مثال ما تواتر معناه دون لفظه من الحديث:
أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فلقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء؛ لكن هذه الأحاديث في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها -وهو الرفع عند الدعاء- تواتر باعتبار المجموع.
المؤلَّفات في الأحاديث المتواترة:
خص جماعة من الأئمة الحديث المتواتر بالجمع والتصنيف، وقد اعتمد هؤلاء الأئمة في تصنيفهم لهذه الكتب على كتب السنة المطهرة، فقاموا بجمع الأحاديث التي توفرت فيها شروط الحديث المتواتر من كتب السنة وأفردوها في مصنفات خاصة، يسهل على الباحث الرجوع إليها والوقوف على طرق الحديث. من هذه المصنفات:
الكتاب الأول: (الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة) للإمام السيوطي رحمه الله تعالى، رتبه السيوطي على الأبواب وجمع فيه ما رواه من الصحابة عشرة فصاعدًا مستوعبًا فيه كل حديث بأسانيده وطرقه وألفاظه، فجاء كتابًا حافلًا لم يُسبق إليه كما قال هو، وقد ذكر السيوطي هذا في خطبة كتابه (الأزهار المتناثرة).
الكتاب الثاني: (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) ألّفه الحافظ جلال الدين السيوطي في الأحاديث المتواترة، وقال السيوطي: إنه لم يُسبق إلى مثله، رتبه على الأبواب وأورد فيه كلَّ حديث بأسانيد من خرّجه وطرقه.
الكتاب الثالث: (قطف الأزهار) للإمام السيوطي، لخص الإمام السيوطي كتابه (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) في جزء لطيف، اقتصر فيه على عزو كل طريق لمن أخرجها من الأئمة في كتبهم.
ومن الأحاديث التي أوردها الإمام السيوطي في كتابه هذا، وقد ذكرها السيوطي في كتابه (تدريب الراوي):
– حديث “الحوض”، من رواية نيف وخمسين صحابيًّا.
– حديث “المسح على الخفين”، من رواية سبعين صحابيًّا.
– حديث “رفع اليدين في الصلاة”، من رواية نحو خمسين صحابيًّا.
استدراك الكتاني على السيوطي:
قال الحافظ الكتاني: ذكر السيوطي أن عدد الأحاديث التي ذكرها في كتابه مائة حديث، لكني عددتها فوجدتها تزيد على ذلك باثني عشر.
قال الكتاني: وقد قال العلامة محمد الصادق السندي في (شرح النخبة): فقد تساهل السيوطي في الحكم بالتواتر، فحكم على عدة من الأحاديث بذلك وأوردها في كتاب سماه (الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة).
قال الكتاني: وهو كذلك، فإنه ذكر عدة أحاديث ربما يقطع الحديثي بعدم تواترها، ويظهر أيضًا من كلامه أنه قصد جمع المتواتر اللفظي، ثم إنه كثيرًا ما يُورد أحاديث صرّح هو أو غيره في بعض الكتب بأن تواترها معنوي.
الكتاب الرابع: (نظم المتناثر من الحديث المتواتر) للعلامة أبي عبد الله محمد بن جعفر الكتاني، وقد ألف الكتاني كتابه هذا قبل أن يقف على كتاب الحافظ السيوطي كما قال.