الخصومة الحقيقية بين القدماء والمحدثين
الخصومة الحقيقة بين القدماء والمحدثين إذًا قامت حول مذهب أبي تمام، فماذا كان مذهب أبي تمام؟
مذهب أبي تمام رصده ابن المعتز في كتاب بعنوان (البديع)، فالبديع إذًا هو مذهب أبي تمام، لكن: هل البديع كان اختراعًا من اختراعات أبي تمام؟ الجواب: لا، فالبديع موجود في لغة العرب، في شعر الجاهليين، في شعر الإسلاميين، والقرآن الكريم الذي هو الأسلوب المعجز في لغة العرب جاء أيضًا متضمنًا هذا البديع، لكن أسرف أبو تمام من هذا البديع وأكثر حتى خرج على طريقة العرب، وأصبحت طريقته معروفة بهذا، ومن هنا نشأ الخلاف حول هذه الظاهرة، وأصبح عندنا خصومة بين القدماء والمحدثين محورها شعر أبي تمام.
قال عبد الله بن المعتز -رحمه الله- في كتابه: “قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلموكلام الصحابة والأعراب وغيرهم، وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع؛ ليُعلم أن بشارًا، ومسلمًا، وأبا نواس، ومن تقيّلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم فعُرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم، فأعرب عنه ودلَّ عليه، ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه، وتفرغ فيه وأكثر منه، فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض، وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف.
وإنما كان يقول الشاعر من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة، وربما قُرئت من شعر أحدهم قصائد من غير أن يوجد فيها بيت بديع، وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى نادرًا، ويزداد خطورة بين الكلام المرسل.
وقد كان بعض العلماء يشبه الطائي في البديع بصالح بن عبد القدوس في الأمثال، ويقول: لو أن صالحًا نثر أمثاله في شعره.
وجعل بينها فصولًا من كلامه؛ لسبق أهل زمانه، وغلب على مد ميدانه”.
في هذا النص إذًا يُقرر عبد الله بن المعتز أن البديع لم يخترعه أبو تمام اختراعًا، بل سبقه إليه القرآن والحديث وشعر المتقدمين.
وأن أبا تمام شُغف بالبديع حتى غلب عليه وتفرع فيه، والمراد بالبديع هنا: الإكثار من الاستعارة، والإكثار من الجناس وما يُسمى بعد ذلك الطباق والمقابلة.
فأبو تمام أكثر من هذه الألوان في شعره وكان يتعمدها تعمدًا.
بالإضافة إلى أنه كان يتصيد المعاني ويجري وراءها، ويتعمد التعمق فيها والإغراب، فأصبح لأبي تمام مذهب مخالف لمذهب الشعراء القدماء.
وتنبه النقاد لهذه الملامح، وتطرَّق الكلام إلى ما كان معتمدًا في قصائد الشعر القديم من الأوصاف، وعُرف ذلك بعمود الشعر، وأصبح أبو تمام بمذهبه الجديد خارجًا على عمود الشعر، واشتدَّت الخصومة بين أنصار أبي تمام وخصومه حتى ظهرت المؤلفات التي تعيب أبا تمام، والتي تنتصر لأبي تمام، ثم وجدنا من يتصدَّى للموازنة بين شعر أبي تمام وشعر البحتري، ويجعل هذه الموازنة موضوعًا لكتابه، ويأخذ هذا الكتاب عنوانه منها، وهو كتاب الموازنة بين الطائيين للناقد العربي القديم الآمدي.
إذًا: نشأت الخصومة بين القدماء والمحدثين حول مذهب أبي تمام، وكان من مظاهر هذه الخصومة وسببها أن أبا تمام خرج إلى المحال باستخدامه البديع وإفراطه فيه، وتعقبه للمعاني وتعمقه فيها، وقد جاء ذلك على حساب الصياغة السهلة التي عُرفت بها طريقة القدماء، والتي عُرف بها البحتري؛ فحميت المناقشة حول مذهبه في مجالس الأدب وبين النقاد، وتعدَّى الأمر ذلك إلى التأليف، وأصبحت عندنا كتب مهتمة بهذه الخصومة؛ منها: كتاب (البديع) لعبد الله بن المعتز، وكتاب (الورقة) لابن الجراح، وكتاب (أخبار أبي تمام) لأبي بكر الصولي، وكتاب (الانتصار من ظلمة أبي تمام)، وكتاب عن معاني شعر أبي تمام، وبعض هذه الكتب وصل إلينا في العصر الحديث، وبعضها لم يصل، وبعضها ضاع، لكن عرفناه من خلال المصادر الأخرى التي ذكرته، ثم هذا الكتاب المهم الذي وضعه الآمدي في (الموازنة) بين أبي تمام والبحتري.
ونجد خلافًا شبيهًا بهذا الخلاف يثور بعد ذلك عند ظهور أبي الطيب المتنبي، لكن الخلاف بين الخصومة التي نشأت حول أبي الطيب المتنبي، والخصومة التي نشأت حول مذهب أبي تمام أن المتنبي كان طرازًا مختلفًا، لا يشبه أبا تمام تمامًا ولا يشبه البحتري تمامًا؛ جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس بشعره، ووجده أنصار القديم أنه يُمكن أن يرضي ذوقهم ويجدوا عنده ما يريدونه، كما وجد أنصار المحدث عنده ما يطلبونه، وكثر حُسَّاد المتنبي، وكانت الخصومة حوله فيها كثير من الدوافع الشخصية التي ترجع إلى الهوى، وإلى الحسد؛ ولذلك نجد القادة يقررون أن الخصومة حول المتنبي نشأت منذ اتصاله بسيف الدولة، وذيوع صيته وإخماله ذكر الشعراء الآخرين.
ويرى المستشرق “بلاشير” عن الحركة التي قامت حول المتنبي في بلاد الحمدانيين، أنه أخذت تتكون حول المتنبي شيئًا فشيئًا حلقة من المعجبين به، ووجد الشاعر في تكوينها رضًا لكبريائه، وربما اطمأن إليها ليتخذ منها درعًا ضد خصومه.
إذًا: كان هناك معجبون بشعر المتنبي، والحلقة التي أشار إليها بلاشير كانت تضم شعراء وعلماء لغة، وظلَّ المتنبي موضع إعجاب وثناء من كثير من الشعراء، والأدباء.
ومن علماء اللغة الذين كانوا معجبين بشعر المتنبي ابن جني، ومن الشعراء الذين كانوا معجبين بعد ذلك بالمتنبي، وهو عالم وشاعر وناقد أبو العلاء المعري، لكن هذا الإعجاب من بعض معاصري المتنبي أشعل نار الحسد والغيرة في صدور كثير من معاصريه، بالإضافة إلى أن المتنبي كان عنده اعتداد بالنفس وإعجاب وثقة، ربما كان ذلك أيضًا سببًا في إثارة بعض خصومه عليه.
وانتهت هذه الأحقاد عليه بإثارة الشبهات حوله وحول شعره، وتجريح هذا الشعر والغضّ من قيمته، واتهامه بأنه سرق معاني شعره من غيره، وأكثر الذين عابوه كانوا من الأدباء والشعراء الذين أخملهم المتنبي بإبداعه، وشهرته، وقربه من أصحاب النفوذ وأصحاب الثروة الذين امتدحهم في شعره.
وبعض الوجهاء الذين كانوا يطمعون في أن يمدحهم المتنبي، ولم يمدحهم ثارت عليه نفوسهم، فحرَّضوا من يؤلف في الطعن عليه، والغضِّ من قيمة شعره واتهامه بالسرقة.
والحقيقة أن الخصومة حول المتنبي أنتجت عددًا كبيرًا من المؤلفات والكتب، منها مثلًا: (الإبانة عن سرقات المتنبي لفظًا ومعنًى) للعميدي، و(الصبح المنبي عن حيثية المتنبي) للشيخ يوسف البديعي، و(المتنبي ما له وما عليه)، و(الرسالة الحاتمية)، و(الوساطة بين المتنبي وخصومه) لعبد العزيز الجرجاني.
وظلت الخصومة حول المتنبي قائمة بعد ذلك، ولكن ثائرة هذه الخصومة هدأت بعد أن ذهب عصر المتنبي، وأصبح النقد الذي يدور حول شعر المتنبي أميل إلى الإنصاف، وما يزال المتنبي إلى يومنا هذا موضعًا للدراسات العديدة التي تتناول شعره من جوانبه المختلفة.
فهذه المفارقة بين ذوق سائد وذوق جديد التي مثّلها الخلاف بين أبي تمام والبحتري أولًا، ثم الحيرة والاختلاف حول شعر المتنبي بعد ذلك، كل ذلك أدَّى إلى إثراء الحركة النقدية في العصر العباسي، وأمدّنا هذا الجدل بالكثير من المؤلفات التي أثرت المكتبة العربية في النقد الأدبي، وما تزال إلى يومنا هذا مددًا يستمدُّ منه الدارسون والباحثون مناقشتهم، وكتبهم، وأبحاثهم حول القضايا المختلفة التي أثارتها هذه الخصومات كعمود الشعر، واللفظ والمعنى، والطبع والصنعة، والسرقات، وأنساب المعاني، والبديع، والاستعارة، والقرب والبعد فيها، والمحسنات البديعية، وما القدر الذي يُستحسن منها، وما القدر الذي يُعاب.
كل هذه القضايا نقدية وأدبية في الحقيقة، أُثري البحث حولها من قِبَل هذه الخصومات، التي كانت بين الأذواق المختلفة في العصر العباسي.
ونحن في عرضنا لهذه الخصومات وهذه الاختلافات بين الأذواق المختلفة، لا نُحبِّذ التعصب لمذهب ضد مذهب، ولا نوافق على أن يتحوَّل النقد إلى تجريح شخصي؛ لأنه يمكن أن نجد بعض هذا التجريح الشخصي في المؤلفات التي تناولت هذه الخصومات، أو التي نشأت عنها، فمثلًا: التعرض إلى نسب الشاعر، أو التعرض إلى عقيدة الشاعر بهدف النيل منه، هذا خارج عن نقد الشعر ذاته، ومن حسن الحظ أننا نجد نقادًا منصفين يستطيعون أن يقوّموا الفن الشعري لذاته، وأن يحكموا على الشاعر بمعزل عن هذا التجريح الشخصي، ومن أفضل هؤلاء النقاد وأكثرهم عدلًا وإنصافًا القاضي الجرجاني صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، والآمدي صاحب كتاب (الموازنة بين الطائيين).