الخطبتان اللتان خطبهما النبي صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها
كيف وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة؟ وكيف صلى الجمعة؟
يقول العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى أول جمعة له في بني سالم بن عوف، وكانت أول خطبة خطبها صلى الله عليه وسلم كانت أيضًا فيهم، وجزم بذلك البيهقي؛ حيث قال نقلًا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف:
كان أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنه قام فيهم، فحمد الله, وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
((أما بعد: أيها الناس، فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولن له ربه -وليس له ترجمان، ولا حاجب يحجبه دونه-: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالًا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينًا وشمالًا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم))
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال:
((إن الحمدَ لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله -تبارك وتعالى- قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحبه الله، أحبوا الله من قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنكم قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي. قد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كان ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابُّوا بروحِ اللهِ بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)).
وروى ابن جرير عن سعيد بن عبد الرحمن الجحمي، أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة: ((الحمد لله، أحمده وأستعينه، واستغفره, وأستهديه, وأومن به ولا أكفره, وأعادي من يكفره، وأشهد وأن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط، وضل ضلالًا بعيدًا.
أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة, وأن يأمره بتقوى الله عز وجل، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك ذكرًا، وإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه -عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله تعالى من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله، يكن له ذكرًا في عاجل أمره, وذخرًا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلا ما قدم، وما كان مما سوى ذلك: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد} [آل عمران: 30] هو الذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف في ذلك، فإنه يقول عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [قّ: 29] فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ} [الطلاق:5] ومن يتق الله فقد فاز فوزًا عظيمًا، وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضى الرب، وترفع الدرجة، فخذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم كتابه, ونهج لكم سبيله؛ ليعلم الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ} [الحج:78], {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ} [الأنفال: 42]. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فأكثروا ذكر الله -تعالى- واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفيه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)).
قال في (الروض الأنف) للسهيلي قوله صلى الله عليه وسلم: ((أحبوا الله من كل قلوبكم)), يريد أن تستغرق محبة الله تعالى جميع أجزاء القلب، فيكون ذكره وعمله خارجًا من قبله خالصًا لله سبحانه وتعالى, وعلى الإنسان أن يقدم محبته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على محبته لأعز الناس عليه في الدني: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ} [التوبة: 24] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تملوا ذكر الله وذكره، فإنه من كل ما يخلق يختار ويصطفي)).
قال السهيلي في (الروض الأنف): إن الحديث من كل ما يخلق الله يختار، فالأعمال كلها من خلق الله، وقد اختار منها ما شاء، قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [القصص: 68]. “وقد سماه الله خيرته من الأعمال”: هذه كلمة للنبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة، أي: الذكر وتلاوة القرآن لقوله سبحانه وتعالى{وَيَخْتَارُ}، فقد اختاره من الأعمال.
وقوله: “المصطفى من عباده” أي: سمى المصطفى من عباده، بقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} [الحج: 75], وقد اختلف العلماء في تسمية ذلك اليوم مع أنه كان في الجاهلية، أي: يوم الجمعة كان باتفاق العلماء يسمى “يوم العروبة” في الجاهلية، قال أبو جعفر النحاس في كتابه (صناعة الكتابة):لا يعرفه أهل اللغة إلا بالألف واللام إلا شاذًّا -أي: العروبة- ومعناه اليوم المبين المعظم, من أعرب إذا بين, قيل: سمى بذلك اليوم؛ لأن الخلائق جمعت فيه. ذكره أبو حذيفة البخاري في المبتدأ عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، وقيل: لأن خلق آدم قد جمع فيه.
وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن خزيمة، وابن أبي حاتم عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات, قال في الثالثة: هو اليوم الذي جمع فيه أبوكم آدم)), وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه رواه أبو حاتم بإسناد قوي، قال الحافظ: وهذا أصح.
قالو: إذًا يوم الجمعة هو يوم العروبة، والظاهر: أنهم غيروا الأيام السبع بعد أن كانت: أوله، وأوهن، وجبار، ودبار، ومؤنس، وعروبة، وشيار.