Top
Image Alt

الخلاف الواقع في التفسير من جهة النقل

  /  الخلاف الواقع في التفسير من جهة النقل

الخلاف الواقع في التفسير من جهة النقل

أنواع الاختلاف في التفسير: النوع الأول: الخلاف الواقع في التفسير من جهةِ النقلِ: هذه قواعد لا بدَّ من مراعاتِهَا عند التفسير، يقول ابن تيمية: الاختلاف في التفسير على نوعين؛ منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك؛ إذ العلم إما نقل مصدق، وإما استدلال محقق، والمنقول: إما عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وإما عن غير المعصوم، والمقصود بأن جنس المنقول؛ سواء كان عن المعصومِ أو غير المعصومِ، وهذا هو النوعُ الأولُ؛ فمنه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. وهذا القسم الثاني من المنقول: هو ما لا طريق لنا إلى الجزم بالصدق منه، فالبحث عنه مما لا فائدة فيه، والكلام فيه من فضول الكلام، وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفِتِهِ؛ فإن الله سبحانه وتعالى نَصَبَ على الحق فيه دليلًا، فمثال ما لا يفيد ولا دليلَ على الصحيح منهم: اختلافهم في أحوال أصحاب الكهف، هذا كلامٌ لا يفيد، ولا دليلَ عَلَى الصحيح منه، وفي البعض الذي ضَرَبَ بِهِ مُوسَى من البقرة، في قصةِ البقرةِ، وفي مقدار سفينة نوح، وما كان خشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخَضِر، ونحو ذلك هذه الأمور طريق العلم بها النقل؛ فما كان من هذا منقولًا نقلًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما صح الحديث في اسم صاحب موسى أنه الخضر، هذا معلوم. وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب؛ كالمنقول عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، ومحمد بن إسحاق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب، فهذا لا يجوز تصديقه، ولا تكذيبه إلا بحجة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه)) . هذا من ناحية، وكذلك ما نُقِلَ عن بعض التابعين رضي الله عنهم وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب؛ فَمَتَى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلًا صحيحًا، فالنفس إليه أسكن ممن نقل عن التابعين أو بعضهم؛ لأن احتمال أن يكون سَمِعَهُ من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب كان أقل من نقل التابعين عن أهل الكتاب، مع جزم الصحابي بما يقوله؛ كيف يقال: إنه أخذه عن أهل الكتاب، وقد نهوا عن تصديقه؟! والمقصود: أَنَّ الِاخْتَلَافَ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ، وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقوال فيه هو كالمعرفة بما يروى من الحديث الذي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَمْثَال ذلك، وأما القسم الأول: الذي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحُ مِنْهُ، فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، ولله الحمد، فكثيرًا ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمور منقولة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- والنقل الصحيح يدفع ذلك، بل هذا موجود فيما مُسْتَنَدُهُ النقل وفيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل. فالمقصود أن المنقولات التي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الدِّينِ قَدْ ذَكَرَ الله، ونصب لها الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم، وبهذا قال الإمام أحمد، ثلاثة أمور ليس لها إسناد؛ التفسير، والملاحم، والمغازي، ويروى أيضًا أن ليس لها أصل -أي: إسناد- لأن الغالب عليها المراسيل، مثل ما يذكره عروة بن الزبير والشعبي والزهري وموسى بن عقبة وابن إسحاق ومن بعدهم: ك”يحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي ونحوهم في المغازي؛ فإن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل العراق؛ فأهل المدينة أعلم بها؛ لأنها كانت عندهم. وأهل الشام كانوا أهلَ غزوٍ وجهادٍ فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم، وَلِهَذَا عَظَّمَ الناسُ كتابَ أبي إسحاق الْفَزَارِيّ الذي صنفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار. وأما التفسير: فإن أعلم الناس به أَهْلُ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاس –كــ”مجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى بن عباس وغيرهم من أصحاب ابن عباس: كــ”طاوس وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه الذي أقام مدرسته هناك، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم وعلماء أهل المدينة في التفسير أيضًا، هناك جيل -كما أنه في مكة مدرسة الإمام ابن عباس رضي الله عنه وتلاميذه، وفي الكوفة مدرسة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هناك في المدينة أيضًا أمثال: زيد بن أسلم وعبد الرحمن بن زيد الذي أخذ عنه الإمام مالك -أخذ عن زيد بن أسلم- التفسير، وأخذه عنه ابنه عبد الرحمن، وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب، وكان في المدينة مدرسة أبي بن كعب رضي الله عنهم. والمراسيل إذا تَعَدّّدَتْ طرقها، وخلت عن المواطَأَة قصدًا أو الاتفاق بغيرِ قصدٍ كانت صحيحة قطعًا؛ فإن النقل؛ إما أن يكون صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ، فَمَتَى سَلِمَ من الكذب العمد، والخطأ كان صدقًا بلا ريب، فإذا كان الحديث جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرِينَ لَمْ يَتَوَاطَئُوا عَلَى اخْتِلَاقِهِ، وَعَلِمَ أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقًا بلا قصد، علم أنه صحيح، مثل: شخص يحدث عن واقعة جرت، ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخص آخر قد عُلِمَ أَنَّهُ لم يواطئِ الْأَوَّلَ، فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ من تفاصيل الأقوال والأفعال، فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ تلك الواقعة حق في الجملة؛ فإنه لو كان كل منهما كذب بها عمدًا أو خطأ، لَمْ يَتَّفِقْ في العادة أن يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا بتلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه؛ فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتًا، وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبه ويكذب الآخر مثلها، أما إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية وروي فلَمْ تَجْرِ العادة بأن غيره ينشأ مثلها لفظًا ومعنًى مع الطول المفرط، بل يعلم بالعادة أنه أخذها منهم. وَكَذَلِكَ إذا حَدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ فُنُونٌ، وَحَدِيثُ آخَرَ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيْهِ، أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ، أَوْ يَكُونَ الحديث صدقًا، بهذه الطرق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات، وإن لم يكن أحدهما كافيًا؛ إما لإرساله، وإما لضعف ناقله، ولكن مثل هذا لا تنضبط، أو لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم. بعد هذا نستطيع أن نقول: التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة من عُرِفَ -فإن من عرف منهم مثل: أبي صالح السمان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم- علم قطعًا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث، فضلًا عمن هو فَوْقَهُمْ كَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَالْقَاسِم بْن محمد أو سعيد بن المسيب أو عبيدة السلماني أو علقمة أو الأسود أو نحوه، وإنما يخاف على الواحد من الغلط؛ فإن الغلط والنسيان كثيرًا ما يعرض للإنسان، ومن الحفاظ مَنْ عرف الناس بعده عن ذلك جدًّا، كما عرفوا حال الشعبي والزهري وعروة وقتادة والثوري وأمثالهم؛ لَا سِيَّمَا الزهري في زمانه، والثوري في زمانه؛ فإنه قد يقول القائل: إن ابن شهاب الزهري لا يعرف له غلط مع كثرة حديثه وسعة حفظه. والمقصود: أن الحديث الطويل إذا روي مثلًا من وجهين مختلفين، من غير مواطأة امْتنع عليه أن يكون غلطًا، كما امتنع أن يكون كذبًا؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا؛ فَإِذا روى هذا قصة طويلة متنوعة، ورواها الآخر مِثْلَ مَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مَوَاطَأَةٍ امْتنع الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا امْتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة. ويمكن أن نقول: إن الأمة لا تجتمع على خطأ. وَبِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ على أَنَّ خَبَرَ الواحد إذا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ؛ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد، إِلَّا فِرْقة قليلة من المتأخرين، اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام، أنكروا ذلك. ولكن كثيرًا من أهل الكلام يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية -كأبي إسحاق وأبي ثور- وأما ابن باقلاني فهو الذي أنكر ذلك، وتبعه أبو المعالي وأبو حامد، وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن الخطيب والآمدي، ونحو هؤلاء.

error: النص محمي !!