Top
Image Alt

الدراسة المنهجية للغة

  /  الدراسة المنهجية للغة

الدراسة المنهجية للغة

قبل الخوض في المناهج التي انتهجها اللغويون في دراسة اللغة، ينبغي التعريف بالمنهج، فالمنهج هو: الطريق العلمي الذي يعالج به الباحث المادة العلمية التي يريد دراستها، وتشترك العلوم بصفة عامة في مناهج مشتركة، ثم ينفرد كل علم بمنهج خاصًّ يتميز به، فاللغة وعلمها قد تستخدم طرقًا عامة يشترك فيها –أعني: علم اللغة- مع غيره من البحوث العلمية، كما يستخدم علم اللغة كذلك طرقًا خاصة به تقتضيها طبيعة الظواهر التي يعرض لدراستها، ولا تتلاءم مع غيرها، وحينما ننظر نظرة تاريخية في إيجاز شديد جدًا لنرى تطور المنهج العلمي، نرى أن المنهج الأرسطي كان يعتمد على القياس النظري حتى جاء المسلمون فصار المنهج معتمدًا على الوصف والاستقراء، ثم أفاد منه الأوربيون من أمثال روجر بيكون، وفرنسيس بيكون، وديكارت، ونشروه في صورة منطق حديثًا متميز عن منهج أرسطو القديم بالموضوعية والبعد عن الفلسفة، وبتعدد طرقه بتعدد العلوم فلكل علم خصوصيته، كما يتميز بنسبته وعدم ثبات قواعده، وقد اتجه هذا المنطق الحديث إلى إبراز الفروق بين الطرق الوصفية، والتاريخية، والمقارنة، والمعيارية، كما يتسم هذا المنهج بالموضوعية المجردة عن الهوى، والعمومية التي تهتم بتحليل جزئيات الموضوع جزئية جزئية، وهما صفتان بدونهما لا يدخل البحث العلمي في ميدان العلم.

أما المنهج الذي سارت عليه الدراسات اللغوية فقد كان وصفيًّا عند الهنود، وفلسفيًّا منطقيًّا عند اليونان، ومن خلفهم من الرومان، أما العرب فقد كان منهجهم في البداية وصفيًّا، وخاصة في جانب الدراسة الصوتية، كما انتهجوا المنهج الوصفي نفسه في جمعهم للغة متسمين بدقة التحري في روايتها، أما منهج علماء العربية في دراسة النحو والصرف، فقد كان وصفيًّا في البداية، ثم تأثر بالفلسفة والمنطق بعد ترجمة منطق أرسطو وآثار اليونان، دون الخوض في تفصيلات لا يتسع المقام لذكرها.

أما الدراسة اللغوية الغربية، فقد ظلت مختلطة بالفلسفة والمنطق إلى أن أعاد السير “ويليام جونز”، اكتشاف اللغة “السنسكرتية” الهندية في أواخر القرن الثامن عشر، فانتهج العلماء منذ ذلك الوقت المنهج المقارن، بجانب المنهجين التاريخي، والوصفي.

وقبل فصل القول في هذه المناهج التي ذاع صيتها، نذكِّر أن الدراسة اللغوية الحديثة منذ نشأتها في القرن التاسع عشر الميلادي إلى اليوم، قد عرفت مناهج عدة، سوف نذكر كثيرًا منها منتهين إلى ذكر أشهرها.

لقد عرفت هذه الدراسة اللغوية ما يسمى بطريقة الملاحظة المباشرة التي لا تعتمد على تجارب ولا أجهزة، وإنما تعتمد على حواس الباحث وقواه العقلية، وكثير من العلوم تشارك الدراسة اللغوية في انتهاج هذه الطريقة، وخاصة علوم الطبيعة.

وهذه الطريقة تعد من أقدم الطرق وأهمها، وتنقسم باعتبار نوع الظاهرة التي يعالجها الباحث إلى: صوتية، ودلالية، فتكون صوتية حين تتعلق بالصوت، وتكون دلالية حينما تتعلق بقضية من قضايا الدلالة.

كما تنقسم طريقة الملاحظة باعتبار نوع اللغات المبحوثة إلى قسمين؛ فهي إما أن تكون ملاحظة للغات الحية، أو تكون ملاحظة للغات الميتة، حين ينظر الباحث في بطون المؤلفات، والوثائق، والآثار، وغيرها لمعرفة ما مات من اللغات، وذلك للإفادة منها في قضايا لغوية، مثل: نشأه اللغة، وتطورها.

كما تنقسم طريقة الملاحظة إلى نوعين آخرين؛ فهي ملاحظة ذاتية، أو ملاحظة خارجية، فتكون ملاحظة ذاتية حينما يلاحظ الباحث ما يصدر عنه من ظواهر لغوية، أو حينما يكلف آخر بأن يلاحظه، وتكون خارجية حينما يلاحظ الباحث ما يصدر عن شخص آخر، وهذه الملاحظة الخارجية التي تقوم على ملاحظة ما يصدر عن الآخرين، إما أن تكون سلبية، أو إيجابية، فتكون سلبية إذا كانت عفوية دونما إعداد، وتكون إيجابية حينما تعد لها الأسئلة.

ويطلب من الشخص الملاحظ أن يجيب عنها، وهذه الطريقة مع ما لها من فوائد جمة، إلَّا إنها تتسم ببعض العيوب، ويؤخذ عليها مآخذ، لعل من أهمها التشتت الذهني، حينما يلاحظ الباحث ما يصدر عنه من ظواهر، فكيف يصدر ويلاحظ في وقت واحد؟! هنا يتشتت الذهن، وقد يكون من عيوبها أيضًا، التسرع في الأحكام، لكنها على أية حال ذات نفع جمٍّ.

ومن الطرق أيضًا، ما يسمى بطريقة الأجهزة، وهي مفيدة في الدراسة الصوتية؛ حيث تتحول ظواهر الصوت إلى علامات مخطوطة تقاس باليد وتحسها العين.

ومن طرق البحث في اللغة أيضًا، طريقة ثالثة تسمى بالطريقة التجريبية؛ حيث تقوم على تغيير الظروف العادية المحيطة بظاهرة لغوية ما، أو تغيير الظروف العادية المحيطة بالشخص الذي تجرى عليه الملاحظة، وذلك للوقوف على ما يتعذر الوقوف عليه في الظروف العادية، وهذه الطريقة ذائعة الصيت في طائفة كبيرة من العلوم الطبيعية، ولها أيضًا نتائج قيمة في الدراسات اللغوية المتصلة بعلم الصوتيات المسمى بـ “الفونتك”، وأيضًا في الظواهر اللغوية المتعلقة بالدلالة المسماة بـ “السيمنتك”؛ حيث وصل العلماء عن طريق هذه الطريقة التجريبية إلى نتائج مهمة، وخاصة في دراسة اللهجات واللغات العامية؛ حيث لم يكتفِ الباحثون في هذه الناحية بملاحظة الأشخاص، وهم يتحدثون في حالاتهم العادية؛ بل لجئوا أيضًا إلى التجارب، وإثارة الظواهر اللغوية، وتوجيهها في النواحي التي تتيح لهم الوقوف على حقيقة أو استنباط قانون، ومن الواضح أن هذه الطريقة لا تستخدم الأجهزة.

وهناك طريقة رابعة، تسمى بقياس الغابر على الحاضر، فإذا ما أراد العلماء أن يقفوا على أسباب مظهر من مظاهر التطور في لغة قديمة، فإنهم يبحثون عن تطور مشابه له في اللغات الحديثة، ويدرسون أسبابه، ثم ينظرون إلى أي مدى يمكن أن تكون أسباب التطور القديم مشبهة لهذه الأسباب، واستخدام هذه الطريقة في التطور اللغوي الدلالي محفوف بالأخطار، وعرضة للزلل؛ لأن العوامل التي تؤدي إلى تطور اللغة في معاني كلماتها، وقواعدها، وأساليبها، قلما تتحد في عصرين، أو في لغتين، فمعظمها يرجع إلى ظواهر اجتماعية، وتاريخية، وسياسية، وجغرافية، وثقافية، بينما تكون هذه الطريقة مفيدة في الدراسة اللغوية المتصلة بالصوت؛ حيث إن التطورات الصوتية يرجع معظمها إلى أمور تتعلق بأعضاء النطق، وطريقة أدائها لوظائفها، وتأثرها بالظواهر الجغرافية، وأساليب انتقالها بطريق الوراثة من الأصول إلى الفروع، وهذه العوامل قلما تختلف آثارها باختلاف العصور والأمور.

وهناك طريقة خامسة، تعرف بطريقة الموازنة بين الظواهر اللغوية في طائفة من اللغات؛ لاستنباطها خواصها المشتركة، والوقوف على وجوه الاتفاق والاختلاف في عواملها ونتائجها، ثم الوصول إلى كشف القوانين العامة الخاضعة لها في معظم مظاهرها، وهذه الطريقة المقارنة، لم تسلم أيضًا من العيوب، وعيوبها تتصل بمستخدميها أكثر من اتصالها بالطريقة نفسها، فمن عيوب مستخدمي هذه الطريقة، أنهم يتسرعون في صوغهم القوانين العامة، وهذا التسرع غالبًا ما يقوم على النقص في الاستقراء.

وهناك طريقة سادسة، تعرف بالطريقة الاستنباطية، وذلك للوقوف على علل الظواهر، ونتائجها، وكشف علاقة السببية بين ظاهرتين أو أكثر، ولهذه الطريقة وسائل أو طرق متفرعة عنها، ولم يستخدم علماء اللغة من طرق الاستنباط إلا ما يسمى بطريقة التلازم في الوقوع، وهي التي يحكم بمقتضاها على ظاهرة بأنها علة لظاهرة أخرى، إذا ثبت بالمشاهدة أنه كلما وقعت الأولى وقعت الثانية، فعند محاولة اللغويين الوقوف عن طريق الاستنباط على العلاقة بين ظاهرتين لغويتين، أو ظاهرة لغوية من جهة، وظاهرة اجتماعية أو نفسية أو فسيولوجية من جهة أخرى، لا ينظرون إلا إلى مبلغ التلازم في وقوعهما، فيستقرئون الحالات التي تبدو فيها تلك الظاهرتين.

فإذا تبين لهم أنهم في كل حالة تبدو فيها إحداهما تظهر الأخرى، حكموا على اللاحقة منهما بأنها نتيجة للسابقة، وهكذا تتعدد مناهج دراسة اللغة، لكن أشهر هذه المناهج -منذ نشأ علم اللغة الحديث، في القرن التاسع عشر، إلى اليوم- أربعة، هي: المقارن، والوصفي، والتاريخي، والتقابلي، ونوضح مفهوم كل منهج من هذه الأربعة:

المنهج الوصفي:

ونبدأ بالمنهج الوصفي، الذي يعتبر أساسًا للمناهج الأخرى؛ حيث تقوم الدراسات المقارنة والتاريخية عليه، فالمنهج الوصفي يستخدم في دراسة لغة معينة في فترة زمنية معينة، وفي مكان معين من جوانبها الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، وقد ميز العالم السويسري “دوسو سير” بين الدراستين الوصفية، والتاريخية، ثم واصل من جاء بعده الاهتمام بالمنهج الوصفي، سواء في مدرسة “براغ”، أو “كوبنهاجن”، أو “فرنسا”، أو “انجلترا”، أو “أمريكا”.

المنهج التاريخي:

ويستخدم في دراسة لغة معينة، من حيث تطورها وتغيراتها خلال التاريخ من النواحي الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، كما يدرس انتشار لغة من اللغات، أو انحسارها، أو انقسامها إلى لهجات متعددة، كما يدرس الظروف التي مهدت إلى كل ذلك، كما يدرس ما ينتاب اللغات من تغيرات تبعدها أو تقربها من الأصل الذي انشعبت منه، كما يدرس وظائف اللغة في المجتمع، وأثر ذلك في حياتها؛ فيحدد –مثلًا- كونها لغة جماعة محدودة، أو لغة رسمية في دولة عظمى، أو لغة حضارة دولية إلى غير ذلك، كما يستخدم هذا المنهج أيضًا في دراسة مستويات الاستخدام اللغوي المختلفة في حياة كل لغة، وأثر ذلك فيها، وأهميتها الحضارية، أو مكانتها بين اللغات، فهذا المنهج حركي، بينما يعد المنهج الوصفي، منهجًا ساكنًا؛ لارتباطه بالمكان والزمان، أما هذا المنهج التاريخي الحركي، فهو يتحرر من قيود الزمان والمكان.

المنهج المقارن:

ويعد أقدم من المنهجين السابقين، أعني الوصفي والتاريخي؛ إذ ظل العلماء ينتهجونه من أوائل القرن التاسع عشر الميلادي بعد إعادة اكتشاف اللغة “السنسكرتية” في أواخر القرن الثامن عشر، وعقدوا مقارنات بينها وبين اللغات اللاتينية، واليونانية، والكلتية، والجرمانية، ومن أشهر من نهج هذا النهج “شليجن”، و”مكس مولر”، و”راسك”، و”بوب”، و”فرنر”، وغيرهم، ويستخدم هذا المنهج في دراسة التقابلات المطردة أو المنتظمة بين لغتين أو أكثر داخل العائلة اللغوية الواحدة؛ لمعرفة أوجه الشبه والاتفاق والاختلاف بينها على المستويات الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، مهتمًّا بالناحية التاريخية، وذلك بغرض الوصول إلى العناصر اللغوية الأم، أو ما يسمى باللغة الأقدم، أو اللغة الأم، أو اللغة الأصلية التي انشعبت منها لغات هذه العائلة أو تلك، وقد اجتهد العلماء في إعادة بناء اللغة الرومانية الأم، والجرمانية الأم، والسلافية الأم، والسامية الأم، والباتو الأم.

ويلزم ذلك تصنيف اللغات إلى أسرات، فعلم اللغات السامية المقارن يقارن اللغات الآكادية، والأجروتية، والعبرية، والفينيقية، والآرامية، والعربية الجنوبية، والعربية الشمالية، والحبشية، وعلم اللغات الهندية الأوربية المقارن يقارن بين عدد من الفروع اللغوية، أهمها الفرع الجرماني، والفرع الروماني، والفرع الثلاثي، والفرع الإيراني، والفرع الهندي.

وقد أدت كثرة لغات هذه الأسرة إلى اهتمام بعض العلماء بالمقارنات اللغوية في إطار فرع واحد من أفرعها الكثيرة، فعلم اللغات الجرمانية يبحث اللغات الألمانية، والإنجليزية، والنوردية القديمة، والدنماركية، وغير ذلك من اللغات واللهجات التي تدخل في هذا الفرع.

وعلم اللغات الرومانية المقارن يبحث اللغات اللاتينية، وما تفرع منها من لغات ولهجات رومانية، وتضم اللغات الرومانية الحديثة: الفرنسية، والأسبانية، والإيطالية، ولغة جمهورية رومانيا، إلى جانب عدد كبير من اللهجات، وعلم اللهجات السلافية المقارن، يبحث اللغات الروسية، والبولندية، والأكرانية، والتشيكية، والسلوفاكية، والصرب كرواتية، والبلغارية، وهكذا.

وهناك منهج رابع يراه بعض العلماء أحدث مناهج علم اللغة، بينما يراه آخرون متصلًا بالمنهج المقارن، وإن كان يختلف عنه من ناحية الهدف والغرض، هذا المنهج هو ما يسمى بالمنهج التقابلي، ويستخدم في دراسة التقابلات بين لغتين لا ينتميان إلى عائلة لغوية واحدة.

كما يستخدم في دراسة التقابلات بين لهجتين، أو لغة ولهجة، أي: بين مستويين لغويين متعاصرين لمعرفة الفروق بينهما، والتعرف على الصعوبات الناجمة عن ذلك بهدف تعليم اللغات.

ونرى بعض العلماء يذكر منهجًا آخر من المناهج الحديثة، التي وضع علم اللغة يده عليها أخيرًا، وهو ما يسمى بالمنهج الجغرافي، وإن كان آخرون يرفض المناهج التي تذكر بعد المناهج الثلاثة الرئيسة، وهي المنهج المقارن، والتاريخي، والوصفي.

على أية حال، إن المنهج الجديد هذا هو ما يعرف بالمنهج الجغرافي، فاللغة لا تعيش في فراغ، ومن ثم لا تدرس في فراغ، وكما ترتبط بجماعة من البشر فإنها ترتبط جغرافيًّا ببيئة معينة ومكان محدد، وبذلك يستطيع علم اللغة رسم خريطة للعالم من الناحية اللغوية، وذلك من خلال استخدام هذا المنهج المعروف بالمنهج الجغرافي الذي يعنى بربط اللغة بالبيئة الجغرافية، ربطًا يكشف عن العلاقة القوية بينهم، وسوف تتضح كثير من الموضوعات التي يبحثها هذا العلم -أعني: علم اللغة الجغرافي- بواسطة المنهج الجغرافي، فيما سيتبين لنا إن شاء الله.

error: النص محمي !!