الدية المغلَّظة، وعلى من تجب؟
المقصود بالتغليظ:
لا شك أن تغليظ الدية في القتل الخطأ المستوجب للدية، إنما يكون في بعض الأحوال أو المواقف، منها: التغليظ إذا ما تم القتل في الحرم، أو في الأشهر الحرم، فمتى تم القتل في الحرم، أو في الأشهر الحرم، أو كان المقتول محرمًا، فهذه جريمة تستوجب الدية مغلَّظة؛ وهذا ما ذهب إليه الشافعية، والحنابلة، وابن عباس، وعثمان، وآخرون، وبناءً عليه فالقتل الذي يقع في الحرم -خاصة إذا كان خطأ- ففيه الدية، وتجب الدية مغلَّظة.
وهل هذا المعنى، يشمل حرم المدينة؟
هناك من يقول: الحرم يطلق على الحرم المكي، والحرم المدني.
صفة التغليظ:
صفة التغليظ، هي عند الحنابلة: أن تغلظ الدية لكل واحدة من الحرمات الثلاث المذكورة ثلث دية، وقد ورد أن عثمان رضي الله عنه جعل لامرأة قُتلت في الحرم دية وثلثي دية.
أما صفة التغليظ عند فقهاء الشافعية: فالتغليظ عندهم يكون بأسنان الإبل، كالذي في دية العهد، وثمة نصوص يُستدل بها على شرعية هذا التغليظ.
ومن جملة ذلك، ما أخرجه البيهقي، أن عمر رضي الله عنه قضى فيمن قتل في الحرم، أو في الشهر الحرام، أو وهو مُحرم، بالدية وثلث الدية، وفي رواية عن ابن عباس قال في الذي يُقتل في الحرم: “يزاد في دية المقتول في الأشهر الحرام أربعة آلاف، وفي دية المقتول في الحرم”.
على من تجب الدية؟
لا شك أن الدية تجب على العاقلة، والعاقلة من العقل، والحبس، والربط، والمنع، ومنه العقال: وهو الحبل الذي يُربط به البعير.
والمعاقل، تعني: الديات، وقيل: سميت الدية عقلًا؛ لأنها تعقل لسان ولي المقتول، وقيل: سميت عقلًا؛ لأنها تعقل الدماء من أن تسفك، يعني: لا تسفك الدماء عند الحكم بوجوب الدية.
ومع هذا التفسير الأساسي لمعنى العاقلة، إلا أن الفقهاء قد اختلفوا في تحديد المقصود بالعاقلة على النحو التالي:
فالشافعية، يرون أن العاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب، أو يرثون بالولاء، وذلك باستثناء الأصل وإن علا كالأب والجد، وكذلك باستثناء الفرع وإن نزل، فهؤلاء جميعًا يؤدون الدية عن الجاني في القتل الخطأ، وشبه العمد، سواء كان ذلك في النفس، أو ما دون النفس، على سبيل النّصرة وبذل العون بالجاني، ما دام قد ارتكب جنايته غير قاصد لها.
ومعلوم أن إلزام الجاني وحده بالدية، فيه إجحاف، أو فيه من الحرج الكثير، والدليل على إلزام العاقلة بالدية، ما أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة قال: ((اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في دية الجنين غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها)).
لكن لماذا استثني الأصل، والفرع من أن يتحملوا الدية؟
قالوا: كي لا يؤدوا شيئًا من الدية.
ما سبب الاستثناء في إخراج الأصل والفرع من العاقلة؟
قالوا: هذا الاستثناء قائم على دليل؛ وهو ما أخرجه أبو داود، عن جابر بن عبد الله: “أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج، وولد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها”.
أما الحنابلة، فيتفقون مع بقية أهل العلم، على أن العاقلة من العصبات، لكنهم أيضًا اختلفوا في الآباء، والبنين، هل هم من العاقلة، أو لا؟ على النحو التالي:
فهناك من يرى: أن كل العصبات معتبرون من العاقلة، بما فيهم آباء القاتل، وأبناؤه، وإخوته، وعمومته، وأبناؤهم، ودليل ذلك: ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: ((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعقل المرأة عصبتها من كان، ولا يرثوا منها شيئًا إلا ما فضل عن ورثتها)).
القول الثاني، أو الرواية الثانية: أنه ليس الآباء، والبنون من العاقلة، وهذه الرواية متمشية مع ما ذهب إليه الشافعي، واستدلوا لذلك، بما رواه جابر، عن عبد الله قال: ((فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها، وبرَّأ زوجها وولدها)).
وموضع الاستدلال- كما هو واضح من الحديث- يكمن في: ((وبرَّأ زوجها، وولدها))، فإذا تحققت تبرئة الأولاد من العقل فليس على الآباء؛ لأنهم في معناهم.
ويرى المالكية، أن العاقلة تكمن في العصبات من الأقارب من قِبل الأب، فإذا عجزوا عن أداء الدية عن القاتل أُخذت من الموالي، وتُنَجَّم عليهم –يعني: تُقَسَّط عليهم- تنجيمًا في ثلاث سنوات.
لكن إذا انتهينا وحددنا المقصود بالعاقلة على قدر الوقت المتسع لدينا، فنريد أن نقول:
ما هي شروط التزام العاقلة بالعقل؟
ثمة شروط ينبغي أن تتحقق في العاقلة:
الشرط الأول: حرية المجني عليه، وعلى هذا لا تحمل العاقلة جناية القاتل للعبد، وإنما تجب قيمته في مال القاتل، ويستوي في ذلك العمد والخطأ، وهذا قول مالك، والليث، وأحمد، وآخرون.
واحتجوا لذلك، بما رواه الدارقطني، عن عمر قال: “العمد، والعبد، والصلح، والاعتراف لا تعقله العاقلة”، أي: القتل العمد، والعبد، والصلح عن مال، والاعتراف، يعني: الإقرار، لا تتحمله العاقلة.
خالف في ذلك الإمام أبو حنيفة؛ لإثقال أن العاقلة تحمل قيمة العبد، إلا أن يقتله مولاه.
الشرط الثاني: أن تكون الجناية خطأً لا عمدًا، فإن العاقلة لا تحمل عن الجاني عمدًا، بل عليه الدية في ماله إن قتله عمدًا، ووجه ذلك: أن التحمل من قبل العاقلة شُرع للتخفيف عن الجاني في جناية القتل الخطأ؛ لعدم تحقق القصد، فهو بذلك غير آثم، ويستحق من العاقلة أن يناصروه، ويعينوه فيما حاق به من التزام مالي كبير، وشأن الخطأ هنا غير العمد؛ لأن العامد بجريرته، وسوء مقصده، لا يستحق من العاقلة شيئًا من تخفيف أو مواساة؛ بل عليه أن يتحمل بنفسه أداء الدية.
الشرط الثالث: أن تثبت الجناية ببينة، أو قسامة لا باعتراف؛ إذ العاقلة -كما بينا- لا تحمل الاعتراف، وطريقة الاعتراف أن يقر الإنسان على نفسه بقتل خطأ، أو شبه عمد، فهنا تجب الدية عليه وحده دون العاقلة.
والمعقول يؤيد هذا؛ حيث لا يقبل إقرار شخص على غيره؛ لمظنة التهمة بالتواطؤ مع المقر له بذلك حتى تؤخذ الدية من العاقلة، ثم تقتسم بعد ذلك بينه وبين من خرجت الدية إليه من العاقلة.
الشرط الرابع: ألَّا تحمل العاقلة صلحًا، ومعناه: أن يدعي ولي المقتول على أحد بالقتل، فينكر ذلك المدعى عليه، ويصالح المدعي على مال، فلا تحمله العاقلة.
الشرط الخامس: ألَّا تحمل العاقلة ما دون الثلث؛ وهو قول المالكية، والحنابلة، وآخرون.
كيفية أداء الدية:
لا خلاف في أن القتل العمد تجب فيه الدية حالة على الجاني، ومن ثم لا يكون في أداء الدية في القتل العمد شيئًا من التأجيل؛ لأن العامد لا يستحق التخفيف، أو المواساة.
أما القتل الخطأ، فيوجب الدية على العاقلة في ثلاث سنين، إلا ما كان ثابتًا عن طريق الإقرار، أو الصلح، أو ما كان دون الثلث، فهو على الجاني وحده في ثلاث سنين، وليس على العاقلة.
وعلى أية حال، فإن الدية تجب على العاقلة في ثلاث سنين؛ وهذا ما ذهب إليه عامة أهل العلم.