الذوق الأدبي ودوره بين الذاتية والموضوعية
نتحدث عن موضوعين:
الموضوع الأول: الذوق الأدبي ودوره بين الذاتية والموضوعية.
أما الموضوع الثاني فهو: التجربة الشعرية.
وهذه المسائل أو هذه الموضوعات من القضايا النقدية التي درج الباحثون والدارسون والمؤرخون في مجال النقد الأدبي على الكتابة فيها.
أما الذوق فهو الاستعداد الفطري الذي ينجرف بمقتضاه المتذوق إلى النصوص الأدبية، فيهتزُّ لما فيها من الجمال، وينفر مما فيها من أوجه القصور أو القبح، فهذا الذوق استعداد فطري يهبه الله سبحانه وتعالى لمن يشاء من عباده بمقادير مختلفة، ولا بد من هذا الذوق، فلا بد منه للأديب، ولا بد منه للناقد.
ويمكن أن يظل الذوق في هذه المرحلة من غير أن يستفيد صاحبه من الثقافات المتنوعة، ومن غير أن يضم إلى هذا الذوق القواعد التي استقر عليها الدرس النقدي، والتي عُرفت بوصفها مقاييس يُحكم بها على جودة النص الأدبي من جهة مضمونه، أو من جهة شكله، كما هو الشأن في علم البلاغة عندما نعرف من هذا العلم صفات الكلمة الفصيحة، والكلمة غير الفصيحة، والتركيب الصحيح، والتركيب غير الصحيح، وعندما نعرف مميزات التصوير البياني، وما إلى ذلك مما يمكن تسميته بالقواعد، فإذا ظل الذوق بعيدًا عن الثقافة، وبعيدًا عن القواعد يظل هذا الذوق في مرحلته الأولى ذوقًا شخصيًّا، لا يستفيد منه غير صاحبه في استحسان الجميل من الكلام، واستهجان القبيح من الكلام.
يظل هذا الذوق ذوقًا شخصيًّا تأثريًّا، لا تتعدى فائدته صاحبه؛ لأنه من أجل أن تتعدى فائدة هذا الذوق صاحبه لا بد أن يصحبه تفسير، وشرح، وبيان، وتعليل لأسباب الإعجاب بالأدب، أو أسباب النفور منه، وهذا الشرح وهذا التفسير وهذا التعليل لا يكون إلا مع الثقافة، ولا يكون إلا مع العلم بالقواعد.
ومن الأساتذة الذين درسوا هذا الموضوع الدكتور عبد الرحمن عثمان في كتابه (مذاهب النقد وقضاياه)، والدكتور طه أبو كريشة في كتابه (أصول النقد الأدبي)، وغيرهما بطبيعة الحال من المؤلفين، ويذهب الدكتور عبد الرحمن عثمان إلى أن النقد في كل اللغات العالمية يعتمد أول ما يعتمد على التذوق الفطري لجمال الفنون، وعلى التأثر الذاتي بالجدة وبراعة الخلق والإبداع، وهذا أصل تقرره طبيعة الفن، ويرتكز في كيان الفنان.
ثم هو يعتمد بعد ذلك على صياغة كل من الذوق والتأثر في منطق علمي متأدب؛ بحيث يشتمل على ثقافة الفكرة، وقوة الحاسة الفنية، وعلى هذا فالنقد ذوق -أي: موهبة- وثقافة، ولا غناء لأحدهما عن الآخر في الإقناع بالجودة، أو الرداءة في العمل الفني على اختلاف أنواعه ومراتبه.
ويقتبس الدكتور عبد الرحمن عثمان من النقد الأجنبي الغربي كلامًا للناقد الفرنسي “سانت بيف”، يقول فيه: “وإذا عرفت كيف تقرأ كتابًا قراءة جيدة دون توقف عن مواصلة تذوقه، فذلك هو فن النقد، وهذا الفن يقوم كذلك على المقارنات، فإذا قارنت كنت قد فعلت كل شيء”. ويقول: “إن المهمة الأولى والأخيرة للناقد أن يقرأ فيفهم، فيحب أو يكره، فيقدر -أي: يحكم- ثم يسهِّل للآخرين ما قرأه وما فهمه وما أحبه”.
هذه إذًا عملية نقد متكاملة مبنية على الذوق، ومستفيدة بالثقافة والقواعد، وتنتقل من مجرد التأثر الشخصي أو الاقتناع الذاتي إلى تفسير العمل الأدبي وشرحه، وبيان أوجه الجمال فيه، وبيان أوجه القصور فيه؛ بذلك يؤدي النقد رسالته في كونه واسطة بين الأديب والقارئ، أو المبدع والمتلقي.
إذًا: نحن أمام مثلث -إذا صح هذا التعبير الآن- يتكون من استعداد فطري، وهو ما نسميه الذوق أو موهبة الذوق، والقواعد المقررة في علم البلاغة والنقد، والثقافة التي يكتسبها الناقد من ميادين مختلفة ومعارف متعددة. إذا اجتمعت هذه الثلاثة: الاستعداد الفطري، والإلمام بالقواعد في الحكم على عناصر العمل الأدبي، وكانت هناك ثقافة واسعة يستمدها الناقد من العلوم المختلفة والمعارف المتنوعة؛ استطاع أن يقرأ العمل الأدبي فيعرف مواطن الجمال فيه فيستحسنها، ويعرف مواطن القصور فيه فيستهجنها، ويستطيع بعد ذلك أن يقدم للقرّاء رؤيته لهذا العمل، وأن يقدم حكمًا على هذا العمل، ويكون هذا الحكم مصحوبًا بالتعليل.
أما إذا وقف المتذوق عند الموهبة فقط من غير أن يُلمَّ بالقواعد، ومن غير أن يغذي هذه الموهبة بالثقافة من المعارف والعلوم المختلفة؛ فإن ذوقه في هذه الحالة يكون مقصور الفائدة عليه، ويكون نقده محصورًا بينه وبين نفسه، فلا يستطيع غيره أن يستفيد منه في أكثر الأحيان. في المقابل، هل القواعد وحدها، أو القواعد مع الثقافة، أو الثقافة وحدها، هل يمكن أن تصنع القواعد ناقدًا من غير أن يكون عند هذا الناقد موهبة الذوق الأدبي؟ هل إذا ألمَّ دارس من الدارسين بالقواعد البلاغية، وأدرك المقاييس التي يُحكم بها على عناصر العمل الأدبي، وكانت له ثقافة تاريخية ونفسية ودينية… إلى آخر أنواع الثقافات، من غير أن يكون عنده هذا الحس المرهف، وهذا الذوق الفطري، هل يستطيع مع ذلك أن يكون ناقدًا؟
الجواب: لا، فالقواعد وحدها، والثقافة وحدها، أو القواعد والثقافة معًا لا يصنعان ناقدًا، فالأساس الأول الذي ينبغي أن يتوافر في الناقد هو الذوق الفطري، ونحن عندما نجد في أدبنا القديم أحكامًا نقدية غير معللة، وغير مشروحة، وغير مفسرة.
فإننا نُدرك أن الناقد في هذه الأحوال كان يصدر عن ذوقه الخاص، وهذا النقد يسمى في عُرْف الدارسين نقدًا تأثريًّا أو انطباعيًّا أو ذاتيًّا، مع التسليم بأن هناك ألوانًا من الجمال قد يهتدي إليها الذوق الفطري، ويعجز صاحب هذا الذوق -مع علمه بالقواعد، ومع ثقافته، ومع قدرته على البيان- عن التعليل؛ لاستحسانه لهذا الموطن، أو لاستقباحه، أي: إن الإحساس بالجمال أحيانًا يستعصي على الشرح والتفسير، لكن لا ينبغي أن يكون هذا قاعدة؛ لأنه لو صار قاعدة لتحول النقد كله إلى نقد تأثري ذاتي انطباعي، لا يستفيد منه غير المتذوق وحده.
وقد أشاروا إلى هذا المعنى عندما قالوا: إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة، ولا تؤديها الصفة، وهذا الكلام منسوب إلى إسحاق الموصلي، وقد سُئل عن شعرين متقاربين، وطُلب منه أن يختار أحدهما فاختار، فقيل له: على أي أساس بني هذا الاختيار مع التقارب؟ فقال: “لو تفاوت -أي: لو كان بين هذين الشعرين فرق كبير- لأمكنني التبيين، ولكنهما تقاربا، وفضلت هذا بشيء تشهد به الطبيعة، ولا يعبر عنه اللسان” أي: إنه أُعجب بشعر وفضَّله على شعر قريب منه، لكنه عجز عن شرح ذلك وتعليله وتفسيره، وهذا معنى قوله: “إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة، ولا تؤديها الصفة، يميل إليها الذوق، لكن لا يستطيع تعليلها”.
هذا واردٌ؛ أن يحس الإنسان بالجمال ويعجز عن تعليله أو تفسيره أو شرحه، لكن لا بد أن يجتهد الناقد في تطوير ذوقه وتثقيفه؛ ليكون نقده مبنيًّا على التذوق، وعلى القواعد، وعلى الثقافة، ويستطيع أن يشرح لماذا أُعجب بهذا العمل الأدبي؟ أو لماذا لم يعجب به؟ ويستطيع أن يبين أوجه الجمال، ومواطن التقصير، وأن يعين القارئ على أن يبحر معه في هذا النص؛ ليتعرف منه على طبيعة هذا العمل الأدبي، وليقتنع القارئ بحكم الناقد على هذا العمل بالجودة أو الرداءة.
فإذا استفاد الناقد من ذوقه وثقافته، والقواعد المقررة، وهي المقاييس التي يُحكم بها على عناصر العمل الأدبي، ثم شرح نصًّا أدبيًّا وفسره، وبيَّن مواطن الجمال فيه، وحكم له بالجودة، وذكر أسباب هذا الحكم، فهذا يسمى نقدًا موضوعيًّا، أي: إنه خرج من نطاق التأثر الذاتي الانطباعي، وأصبح نقدًا معللًا مفسرًا، فيحكم له بأنه نقد موضوعي.
أمّا أنه لا يُمكن للقواعد وحدها أو لا يمكن للثقافة وحدها أن تصنع ناقدًا؛ فإن النقد العربي القديم أشار إلى ذلك في صراحة ووضوح، من ذلك مثلًا أننا نجد عبد القاهر الجرجاني يُنبِّه على ذلك، ويذكر أنه لا يكفي في أي علم معرفة العلة على العموم، بل إن وراء ذلك جهدًا كبيرًا يبدو فيه جهد العالم، وعمقه، وتفصيله لأسرار الجمال وخصائص الفصاحة، وعلى سبيل المثال على حد قوله: “فإنه لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياسًا ما، وأن تصفها وصفًا مجملًا، وتقول فيها قولًا مرسلًا، بل لا تكون من معرفتها في شيء؛ حتى تفصل القول وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلام، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئًا فشيئًا”.
ويقول في موضع آخر، وهو يتحدث عن التقديم والتأخير في الكلام: “واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئًا، يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام” ويقول: “وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال: إنه قُدِّم للعناية، ولأن ذكره أهم من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية، وبم كان أهم؟”.
وهذا الكلام معناه: أن الوقوف عند القواعد، من غير أن يكون وراء هذه القواعد ذوق، لا يستطيع هذا الوقوف عند القواعد فقط أن يفسر الجمال في العمل الأدبي، فلا بد مع القواعد من الذوق الذي يهدي صاحبه إلى مواطن الجمال، ولا بد بعد ذلك من القواعد والثقافة، وهما الأمران اللذان يساعدان الناقد على تفسير هذا الإحساس بالجمال وشرحه، وتعليله، وهداية المتلقين إليه.
وعن ضرورة المواءمة بين الذوق والإلمام بالقواعد والثقافة، يقول الدكتور طه أبو كريشه: “إن التذوق الجمالي وحده وإن أفاد الناقد المتذوق، فإن هذه الفائدة لا تتعدَّاه إلى غيره، كذلك فإن قوة التفسير والتعليل ما لم يصاحبها عطاء من الذوق الفني اللماح قد يطول بها المدى، ويرهقها الشرح الطويل؛ حتى تنجح في نقل الإحساس بجمال الأثر الأدبي، أو قبحه إلى الغير، وقد لا تصل إلى شيء من هذا مع شدة العناء، وتكون الحصيلة ثرثرة فارغة في غير موضوع”، فلا بد إذًا من المواءمة بين الذوق -الاستعداد الفطري- والإلمام بالقواعد والثقافة.
ويضيف قائلًا: “والنقد الموضوعي، وإن كان من أبرز سماته الشرح والتحليل، لكن ذلك لا يعني التطويل والإسهاب والإحاطة، فقد يتحقق في مجرد لفتة أدبية يلحظها الناقد في النص، ويأتي بها فتُغني عن الإسهاب، وهذه اللفتة الأدبية أمر ملحوظ في كثير من أحكام النقاد العرب على أبيات من الشعر استحسنوها، أو استهجنوها، ثم كان قولهم فيها بمثابة علامات على الطريق لمن يبغي التوقف، ويريد التدقيق والتأمل؛ ليرى ما رأوا، ويدرك ما أدركوا. والنقد الذاتي قد يتعلل باختلاف الأذواق، وبأن الأدب لا يقنن له، ومن ثمَّ فالإصرار على تعليل الأحكام إصرارٌ لا جدوى منه.
وهو تعليل يلقى صدًى لدى كثير من النقاد، لكن هذا القول وإن صدق على بعض الآثار الأدبية التي تستعصي على تعليل الجمال أو القبح فيها؛ فإنه لا ينبغي أن يُتخذ ذريعة يداري به العاجزون كسلهم وتراخيهم عن دراسة ما أمامهم من نصوص أدبية دراسة مستوعبة كافية، يحصلون من ورائها على ما يبغون من شرح، وتحليل، وتعليل”.
من أجل هذا كان خير منهج للناقد هو أن يجمع في نقده بين شتى الاعتبارات، فيختار الأثر من بين الآثار بذوقه؛ كاشفًا عن نواحي جماله، ثم يحلله بغربال عمله، ليخرج لنا ما انطبق على الأصول وما لا ينطبق. هذه هي مهمة الناقد بجانبيها الذاتي والموضوعي، كما حددها النقد الحديث، وكما نستطيع أن نستقرئ عناصرها في النقد القديم، خاصة بعد استقرار المنهج عند النقاد القدماء.
نخلص من هذا كله إلى أن الذوق الفطري أمر ضروري للناقد، لا يمكن أن يستغنى عنه،
وأن الإلمام بالقواعد، والتبحر في الثقافة أمران يساعدان هذا الذوق على أن يكون ذوقًا متعديًا حدود صاحبه إلى إفادة غيره من الناس، عن طريق شرح العمل الأدبي، وتفسيره، والحكم عليه، والتعليل لهذا الحكم، وبيان أوجه الجمال، أو مواطن القبح في العمل الذي يتعرَّض له الناقد الأدبي بالنقد، والقواعد، والثقافة، والالتزام بالمقاييس، والاهتداء بها.
هذه الأمور هي التي تجعل الذوق بمنأى عن الانحراف، وتجعل الحكم النقدي أقرب إلى العدل والإنصاف، وممارسة النقد على ضوء الذوق، والتسلح بالثقافة والقواعد تُعين الناقد على أن يكون في نقده بعيدًا عن الهوى الشخصي، وبعيدًا عن المجاملة التي لا تستند إلى تبرير مقبول، أو التهجين والهجوم الذي لا يستند أيضًا إلى تبرير مقبول، وعلى هذا إذا كان الناقد حريصًا على أن يكون نقده موضوعيًّا مقنعًا؛ فلا بد أن يكون بالإضافة إلى ذوقه عالمًا بالقواعد والأصول، ومتسلحًا بالثقافة التي لا بد منها؛ لإقناع القراء بحكمه الذي يُصدره على العمل الأدبي، وأسباب هذا الحكم.
فمن غير المقبول مثلًا ألا يرتبط الحكم بالجودة والرداءة بشيء ملموس في النص الأدبي، وهو لا يستطيع أن يربط هذا الحكم بشيء ملموس في النص الأدبي، إلا إذا كان عالمًا بالقواعد والمقاييس، وعنده الثقافة التي تمكِّنه من التعليل لموطن الجمال، أو للجمال الذي أحسه ذوقه في هذا العمل الأدبي، أو ذاك. ولا بد مع هذا أن يكون عند الناقد قدرة بيانية تمكنه من تقديم رؤيته للقراء؛ إذ لو كان الناقد متذوقًا ومدركًا للأصول والمقاييس ومثقفًا، ثم لا يملك القدرة على التعبير والإبانة عما في نفسه وعقله؛ لا يستطيع أن يؤدي رسالته في أن يكون وسيطًا بين المبدع والمتلقي، أو بين الأديب وقارئه.