Top
Image Alt

الربا: معناه، وحكمه

  /  الربا: معناه، وحكمه

الربا: معناه، وحكمه

الربا -بالقصر-: الزيادة على رأس المال، مأخوذ من قولهم: ربا الشيء يربو، إذا زاد ونما، ومنه قول الله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّباً لّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ} [الروم: 39]، وقوله تعالى: {اهْتَزّتْ وَرَبَتْ} [فصلت: 39]، يعني: الأرض، وقوله: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، {وَيُرْبِي الصّدَقَاتِ}، أي: يزيدها.

وقد تُقلب باؤه ميمًا فيقال: الرما، بدلًا من أن نقول: الربا، وفي هذه الحالة ينبغي أن يُمد. ويقال: الرماء.

وقال النبي صلى الله عليه  وسلم: ((لا تبيعوا الدينارَ بالدينارين، ولا الدرهمَ بالدرهمين، ولا الصاعَ بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماءَ، والرماء هو الربا))، وهو حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، بسند ضعيف.

فالربا في لغة العرب: الزيادة، ومنه الربوة، أي: المكان المرتفع.

أما الربا في اصطلاح الفقهاء: فقد عرَّفه الفقهاء بتعاريفَ مختلفة تبعًا لاختلافهم في علته، إلَّا أنها -يعني: هذه التعريفات- تدور حول معنى واحد وهو الزيادة بلا عوض.

عرفه الحنفية: بأنه فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال، ويُقصد بالمعاوضة عندهم، بيع المكيل أو الموزون بجنسه دون غيرهما ولو كان مطعومًا، وذلك بِناءً على أن علة الربا -عند الحنفية- هي الكيل أو الوزن مع الجنس -وسيأتي تفصيل ذلك.

وعرفه الشافعية: بأنه عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخيرٍ في البدلين، أو أحدهما، فالعوض المخصوص عندهم يُقصد به النقد والمطعوم، بناء على أن العلة -في الربا عندهم- إما الثَّمَية في الأثمان، وإما الطَّعم في المطعومات، وعلى هذا فلا ربا عندهم في غير ذلك حتى ولو كان مكيلًا أو موزونًا.

وقولهم: غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، هذا خاص بربا الفضل؛ لأنه -يعني: ربا الفضل- زيادة مال شُرط في عقد البيع زيادةً على المعيار الشرعي، ولا يتصور ذلك إلًَّا فيما اتحد جنسه، كالذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو القمح بالقمح..إلخ. إذ التفاضل في مختلفي الجنس لا يعد ربًا ما دام يدًا بيدٍ.

وقد أشار الشافعية إلى ذلك في تعريفهم؛ إذ إن “أل” في قولهم: “التماثل” للعهد؛ أي: هذا التماثل المعهود، وهو معروف شرعًا، وذلك لا يكون إلَّا في متَّحدي الجنس.

ويصدق هذا التعريف بثلاث صور:

  1. بأن يكون مجهولَ التماثل، فلا يعرف أن هذا القدر مماثل لهذا القدر.
  2. أو معلوم التفاضل، بأن نعرف أن أحد العوضين أزيد من الآخر.
  3. أو معلوم التماثل لكن في غير معيار الشرع، كقنطار بُر بقنطار بُر.

وقولهم: “أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما”، إشارة إلى ما بقي من أنواع الربا عندهم، وهو ربا اليد، وربا النَّساءِ؛ لأن التأخير يصدق بالتأخير في القبض، فيكون بيعًا مع تأخير قبض البدلين أو أحدهما، وذلك يسمى عند الشافعية بربا اليد.

ويصدق بالتأخير في الاستحقاق، وهو البيع لأجل، وذلك ربا النساء؛ يعني: إذا باع قنطارًا بقنطار -قنطار من البُر بقنطار من البُر- وهما متماثلان تمامًا لكن تأخر تسليم أحدهما، فهذا  ما يسمى بربا النَّساء. هذا بالنسبة لتعريف الربا.

وهكذا نرى أن الفقهاء كالحنفية، والشافعية وغيرهم، اختلفوا في تعريف المقصود بالربا؛ تبعًا لاختلافهم في العلة.

حكم الرِّبا:

الربا محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع، ويكاد أن يكون أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة، بل لا يُنكِر حرمة الرِّبا مسلم، لكن العلماء عندما يختلفون، يختلفون في أن هذه المعاملة ربًا أو لا؟ لكنَّ مسلمًا لا يسعه أن يقول: إن هذه المعاملة ربًا، ثم لا يقول: إنها حرام.

فالربا محرم، بل هو كبيرة من الكبائر؛ لأن الله سبحانه وتعالى توَّعد مرتكبها بالخلود في النار، فهي كبيرة من أكبر الكبائر، لدرجة أن الله سبحانه وتعالى آذَن مَن يرتكبها بالحرب، وهذا يدل على خطورة هذا الفعل، بل هو من الموبقات كما جاء من حديث: ((اجتنبوا الموبقات))، حرَّمه الله تعالى في جميع الشرائع السابقة، ثم حرمه في الشريعة الإسلامية الخاتمة -أعني: شريعة نبينا محمد صلى الله عليه  وسلم وتوعد الله عليه بأشد أنواع العذاب والتنكيل.

وقد وردت الأدلة على ذلك متتابعةً من الكتاب، والسنة، والإجماع:

أما الكتاب: فآيات كثيرة تدل على تحريم الربا والتحذير منه، ومن ذلك: قال الله تعالى: {وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا} [البقرة: 275]، وهذه الآية، تعد نصًّا صريحًا في تحريمه، و”الألف واللام”، فيها للعهد، أي: الربا المعهود لهم والذي يعرفونه، حيث قصد به ما كان معهودًا لدى العرب في جاهليتهم، وقد كان يقول أحدهم لمَدِينه إذا حضر وقتُ الوفاء: إما أن تقضي وإما أن تربي -يعني: تزيد- فإذا قضاه، فبها ونعمت، وإلَّا زاده في الدَّين وفي الأجل، فتتراكم عليه الديون -يعني: على المدين- أضعافًا مضاعفةً، ثم تناول ذلك ما حرمه رسول الله صلى الله عليه  وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وفي معناه من البيوع المنهي عنها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7]، وقال: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ} [النور: 54]، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، يقول الله تعالى: {يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130، 131].

فقد خاطب الله تعالى في هذه الآية عبادَه المؤمنين: {يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ} ، محذرًا وناهيًا إياهم عن تعاط الربا، فقال: {لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا}، نهاهم عن تعاط الربا وأكله أضعافًا مضاعفةً، كما كانت عادتهم قبل الإسلام، فحرم الله ذلك بعد الإسلام.

وإنما خص الأكل بالذكر دون غيره من الأخذ والإعطاء، وكلاهما حرام؛ لأن الأكل أعظم مقصوده، فإنما يُراب الرجل من أجله، وإنما قال: {أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً}؛ لأنه إذا ترك الإنسان ليتعامل بالربا، فيصير حتمًا إلى أن يكون في هذه الحالة الشنيعة، بأن يصل إلى درجة الأضعاف المضاعفة، فالله تعالى يقول: {لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا}، حتى لا يصل بكم الأمر إلى أن تأكلوه في هذه الحالة الشنيعة، أي: في حالة الأضعاف المضاعفة، علمًا بأن الربا كله حرام، قليله وكثيره سواء.

قال الله تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279] فقوله: {فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}، هذا وعيد شديد يناسب خطر الربا وخطورته وآثاره السيئة المدمرة، وقد ذَكر بعض العلماء -استنادًا إلى تلك الآية- أن أكل الربا والإيمان لا يجتمعان في قلب عبد أبدًا؛ لذلك قال: {إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ}، أي: إن الغرض التحريض على ترك الربا والبعد عنه، ومجانبته إذا كنا مؤمنين حقًّا.

فكل هذا يدل على خطورة الربا وحرمته، وعلى عظم جريمته، أعاذنا الله وإياكم منه برحمته ورضوانه.

وفي آية أخرى يقول المولى عز وجل: {الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} [البقرة: 275]، يبين الله تعالى في هذه الآية: حال المتعاملين بالربا بيعًا وشراءً، أخذًا وإِعطاءً، حيث يبعثهم الله يوم القيامة من قبورهم بين الملأ مفضوحين، فجعل لهم من الحال والشأن ما سيصيرون به مميزين؛ ولذلك قال أهل التفسير: إن الشيطان يصيبه بالجنون حين يقوم من قبره، فيُبعث مجنونًا، فيعرف أهل الموقف من ذلك، أنه من أكلة الربا.

ويقال: إنهم يبعثون يوم القيامة وقد انتفخت بطونهم كالحبالَى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم، وكأن أكل الربا قد أربَى في بطونهم -أي: زاد- فأثقلهم، فكان ذلك شعارهم   الذي يُعرفون به يوم القيامة، ثم من وراء ذلك كله العذاب الأليم.

وأما السنة: فقد وردت أحاديث عديدة في حرمة الربا، من هذه الأحاديث: ما روي عن النبي صلى الله عليه  وسلم أنه قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، ما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلَّا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقَذْف المحصنات المؤمنات الغافلات))، هذا حديث صحيح متفق عليه، رواه الشيخان –البخاري، ومسلم- في (صحيحيهما).

فنهى النبي صلى الله عليه  وسلم عنه بأبلغ ألفاظ النهي، وهو الاجتناب: ((اجتنبوا))، وعدَّه من الموبقات، أي: المهلكات التي تهلك من وقع فيها.

وما روي أيضًا: أن النبي صلى الله عليه  وسلم قال: ((لعن الله آكل الربا، ومؤْكِلَه، وشاهديه – وفي رواية: ((وشاهده))، بالإفراد- وكاتبه))، وهذا حديث أخرجه الشيخان أيضًا –البخاري، ومسلم- في: (صحيحيهما)، من حديث جابر -رضي الله  عنه.

فهذا الحديث، يخبرنا فيه النبي صلى الله عليه  وسلم أن الله عز وجل لعن هؤلاء الذين لعنهم وعلى رأسهم من يأكل الربا، والذي يعطيه، والشاهد أو الشاهدين على ذلك، والكاتب الذي يكتب العقد، فهؤلاء ملعونون -أي: مطرودون- من رحمة الله، ورحمة الله وسعت كل شيء، إذا طُرِدَ هؤلاء منها؛ فإن معناه أنهم قد ارتكبوا أمرًا خطيرًا.

وأيضًا: ما روي عن النبي صلى الله عليه  وسلم أنه قال في خطبة الوداع: ((ألا إن كل ربًا من ربا الجاهلية موضوع -يعني: باطل- لكم رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تُظلمون))، وهذا الحديث أيضًا، يفيد تحريم الزيادة على رأس المال مطلقًا، قلَّت هذه الزيادة أو كثُرت. وغير ذلك من الأحاديث.

فالكتاب والسنة، فيهما الكثير من الأدلة على حرمة الربا، وأنه من الكبائر، بل من أكبر الكبائر.

وأما الإجماع: فقد حكاه غير واحد من العلماء؛ فإن الأمة قد أجمعت على تحريمه، وعلى أنه كبيرة من الكبائر، بل إنه لم يَحل في شريعة من الشرائع السابقة قط، لا اليهودية ولا غيرها، حتى قال الإمام الماوردي: “لم يحل -يعني: الربا- في شريعة قط؛ لقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرّبَا}، يعني: اليهود، وقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} [النساء: 161]، يعني: والحال أنه قد نُهوا عنه في الكتب السابقة، ولا يسع مسلمًا أن يقول: إن هذا الشيء ربا، ثم يقول عنه: إنه حلال، لكن العلماء قد يختلفون في أن هذه المعاملات من الربا أو ليست من الربا؟

والإسلام عندما حرم الربا، حرمه بطريقة تدريجية، شأنه في ذلك شأن كثير من الأمور التي كان الناس يعتادونها، فلما جاء الإسلام أخذهم بالرفق؛ لأن الرفق لا يكون في شيء إلَّا زانه، وما ينزع من شيء إلَّا شانه، فتدرج بهم حتى وصل إلى تحريمه، وذلك كشرب الخمر، فالإسلام جاء والربا منتشر بين الناس في الجاهلية، ألفوه وتعاملوا به، ولم يفرقوا بينه وبين غيره من دروب التجارة، حتى إنهم عدوه دربًا من دروبها، ولونًا من ألوانها، فساووا بينه وبين البيع. وقال معترضين: إنما البيع مثل الربا، يقصدون أن الربا مثل البيع، فكما أن البيع حلال ينبغي أن يكون الربا حلال.

ومعلوم أن مجتمعًا كهذا وأناسًا كهؤلاء، لو خاطبهم الله عز وجل من البداية، فأمرهم بالاستقامة على طريق أكل الحلال، ونهاهم عن كل الحرام وعلى رأسه الربا؛ لوقعوا في مشقة شديدة؛ ولوقعوا في العنت وما لا يتحملون، فتدرج الله سبحانه وتعالى بهم خطوةً بعد خطوةٍ؛ حتى انصرفوا عنه تمامًا، وأصبح من أبغض المعاملات إليهم.

لذلك وجدنا القرآن يسلك معهم مسلك التدرج في التحريم على حد التدرج في الخمر مثلًا، فابتدأ الله عز وجل أولًا ببيان البَون الشاسع بين الزكاة والصدقات، وبين الربا، أين الربا من الصدقات؟ الصدقة يعطيها صاحبها مختارًا ولا ينتظر ردها، وإنما يبتغي بها وجه الله، وهذه تزيد عند الله، وبين الربا الذي يعطيه صاحبه، ليسترده ويسترد زيادةً عليه دون أن يتحمل أية مسئولية لذلك، فبين أن الصدقة يصل ثوابها أضعافًا مضاعفةً، بيد أن الربا لا ثواب فيه ولا أجرَ، بل فيه المَقْت، والعذاب، ومحو البركة، فقال -جلت حكمته- في كتابه العزيز: {وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّباً لّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].

معنى هذا: أن الله سبحانه وتعالى يجري مقارنة بين أمرين، بين الزكاة أو الصدقة والربا، وشتَّان ما بينهما، فالله سبحانه وتعالى يحب الصدقات ويثيب عليها، ويحب الزكاة ويثيب عليها في الدنيا والآخرة؛ لأنها إعطاء ابتغاء وجه الكريم، وصاحبها لا ينتظر من ورائها إلَّا رضا الله سبحانه وتعالى بينما الربا، صاحبه يعطيه، وينتظر رد الأثر والزيادة دون مقابل.

ثم بعد ذلك بين الله لهم أن الربا كان محرمًا في الشرائع السابقة، وما دام قد كان محرمًا في الشرائع السابقة، فينبغي أن يعلموا أنه شيء لا يحبه الله، ولا يشرعه لعبيده وخَلْقه من المؤمنين به، ولذلك ينبغي أن نتوقع عندما نسمع مثل هذه الآيات أننا ينبغي أن نفهم أن الربا شيء بغيض، وأن نمتنع عنه من تلقاء أنفسنا.

وقول الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 160، 161]، {فَبِظُلْمٍ}، أي: بسبب ظلم الذين هادوا، أي: اليهود، فبسبب ظلم اليهود عاقبهم الله بأن حرَّم عليهم بعض الطيبات، وكذلك بسبب أكلهم الربا وظلمهم أنفسهم، وكذلك بسبب صدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه؛ يعني: والحال أنهم يعلمون أنه حرام، وأن الله نهاهم عنه في الكتب السابقة، وأعد للكافرين به عذابًا أليمًا، كأن أكل الربا مع اعتقاد حرمته، أو مع العلم بحرمته، لون من ألوان الكفر -والعياذ بالله- على الأقل كفر نعمة.

 ثم بعد ذلك يأتي التحريم القاطع بعد أن هيأ الله النفوسَ لذلك؛ فيقول محرِّمًا ربا الجاهلية الفاحش: {يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]، ثم يقول محرِّمًا الربا بجميع أنواعه، فاحشًا كان أو غيرَ فاحش: {الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا} [البقرة: 275]، إلى أن قال: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىَ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدّقُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 278-280].

فالله سبحانه وتعالى عندما حرم الربا حرمه لحكمة؛ لأن الله تعالى حكيم يضع كل شيء في موضعه.

ومن هذه الحكم: أن الربا داء عُضال، ومرض فتاك يعصف بالأمم، ويذهب بالبركة، ويمحق الخير، ولذا اقتضت حكمة الله تحريمه، وكان تحريمه للعديد من المصائب التي تكمن فيه.

ومنها أنه سبب في انقطاع التعاون بين الناس، وقطع حال المودة، وتمزيق أواصل الألفة والمحبة، وزرع الحقد وتوليد الكراهية، إذ به يزداد الغني غنًى فوق غناه على حساب فقير دون وجه حق، بينما يزداد الفقير بؤسًا، وألمًا، وحاجةً، وليس هذا بالسبب البسيط للعداوة، والبغضاء بين الناس.

والتعامل بالربا مدعاة للعجز، والكسل، والخمول، وترك العمل، والسعي في ابتغاء الرزق، أي: ترك السعي، يعني: لماذا يجهد الرجل نفسه في عمل من الأعمال، وماله تحت يده يقرضه لهذا ولذاك، ويحصل على وافر الأرباح، وأسبغ الفوائد دون عَناء أو تعب؟

بل إن العالم الآن عندما يعيش هذه الأزمة المالية الطاحنة التي عمت العالم كله، إنما ذلك بسبب انتشار الربا، بل إن الحروب التي تحدث بين الأمم، وطمع الدول الكبيرة في الصغيرة، والصراع الدائر بين قُوَى البغي والطغيان، الباعث وراءَها إنما هو الربا؛ يعني: الحصول على الفوائد والحصول على الأموال، وزيادة هذه الأموال، وفَتْح أسواق لاستثمارها… إلخ من معاملات، قليل منها حلال وكثير منها حرام، هو في أصله لون من ألوان الربا.

error: النص محمي !!