Top
Image Alt

الرجوع في العطية

  /  الرجوع في العطية

الرجوع في العطية

فإنه إذا أعطى شخص عطية، هدية كانت أو هبة، فإنه لا يجوز أن يرجع في هذه العطية؛ لا يحق له أن يرجع في هبته وهديته، وقد جاء النهي صريحًا في أحاديث كثيرة، منها:

أولًا: ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله  عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) وعنه أيضًا قالصلى الله عليه  وسلم: ((ليس لنا مَثَلُ السَّوْء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)).

وهذا الأسلوب النبوي الذي فيه من التنفير والزجر والتقبيح لمن أراد أن يعود في هبته أو عطيته؛ حيث شبّهه النبي صلى الله عليه  وسلم بهذا التشبيه، شَبَّهَه بالكلب الذي يأكل حتى إذا شبع قاء، ثم يعود في قيئه، وفي الحقيقة هذا مَثَل سَوْء لا يليق بالمؤمن، ولذلك قال صلى الله عليه  وسلم: ((ليس لنا مثل السوء)) أي: لا يليق -كما قال ابن حجر في الفتح-: أي لا ينبغي لنا معشر المؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة يشابهنا فيها أخس الحيوانات -يقصد الكلاب- في أخس أحوالها، قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [النحل: 60].

ولعل هذا التعبير النبوي الكريم، وهذا الأسلوب من الزجر أدل على التحريم وأوقع، مما لو قال مثلًا: لا تعُد في الهبة، لكن هذا الأسلوب دل على أن من أراد أن يرجع في هبته أو عطيته، فإنه قد أتى بأمر سيئ.

وقد اختلف العلماء حول حكم من رجع في هبته، جمهور العلماء يرون تحريم الرجوع في الهبة بعد أن تُقْبَض إلا إذا كانت الهبة من الوالد لولده، فإنه يجوز له أن يرجع في هبته، كما سيأتي، هذا مذهب الجمهور.

لكن ذهبت الحنفية إلى القول بِحِلّ الرجوع في الهبة، جواز الرجوع في الهبة دون الصدقة إلا إذا حصل مانع من الرجوع كالهبة لذي رحم، والحديث مما يدل على تحريم الرجوع في الهبة أيضًا عن طاوس أن ابن عمر وابن عباس رفعاه إلى النبيصلى الله عليه  وسلم قال: ((لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء، ثم رجع في قيئه)).

فهذا الحديث صريح، قال صلى الله عليه  وسلم ((لا يحل للرجل)) وهذا مما يؤيد مذهب الجمهور، لكن قال الطحاوي: إن قوله ((لا يحل)) لا يستلزم التحريم قال: وهو كقوله: ((لا تحل الصدقة لغني)) وإنما معناه: لا يحل له من حيث يحل لغيره من ذوي الحاجة، قال: وأراد بهذا الكلام التغليظ في الكراهة.

وكأن الطحاوي يعني بهذا الكلام أن الرجوع في الهبة ليس بحرام، وإنما هو مكروه، وكان للإمام الطبري كلام في هذا الموضوع، فقال الطبري: هذا الحديث عام -يعني الرجوع في الهبة- يخص من عموم هذا الحديث، وذكر عدة أمور، يخص من هذا الحديث: من وهب بشرط الثواب، ومن كان والدًا والموهوب له ولده، والهبة التي لم تقبض.

أراد الإمام الطبري أن موضوع تحريم الرجوع في الهبة ليس على عمومه، فقد يجوز للشخص أن يرجع في هبته إذا كان وهب هذا الأمر بقصد أن يثاب عليه، فإن لم يثب حق له الرجوع، واستدل بما أخرجه مالك عن عمر أنه قال: “من وهب هبة يرجو ثوابها، فهي رد على صاحبها ما لم يثب منها” ورواه البيهقي عن ابن عمر مرفوعًا، وصححه الحاكم.

قال الحافظ: والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر، ورواه عبد الله بن موسى مرفوعًا، قيل: وهو وهم. قال الحافظ: صححه الحاكم وابن حزم، ورواه ابن حزم أيضًا عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: “الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها”، وأخرجه أيضًا ابن ماجه والدارقطني، ورواه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة مرفوعًا بلفظ: “إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع”، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، قال الحافظ: وسنده ضعيف. قال ابن الجوزي: أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وسمرة ضعيفة وليس منها ما يصح.

وأخرج الطبراني في (الكبير) عن ابن عباس مرفوعًا “من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب عليها، فإن رجع في هبته، فهو كالذي يقيء ويأكل منه”، قال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: إن صحت هذه الأحاديث -أي الواردة في جواز الرجوع في الهبة لمن وهب بقصد الثواب أو غيرها- كانت مخصصة لعموم حديث الباب، فيجوز الرجوع في الهبة قبل الإثابة عليها.

فهذا الحديث: ((لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده)) الجمهور يستثنون من الرجوع في الهبة إذا وهب الوالد لولده، فإنه يجوز له أن يرجع في هبته، وقد تحدثنا عن حديث النعمان بن بشير، وكيف أن الرسولصلى الله عليه  وسلم أرشده إلى أن يرجع في هبته، وقوله في هذا الحديث صلى الله عليه  وسلم: ((إلا الوالد فيما يعطي ولده)) استدل به على أن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، لكن قال أحمد: لا يحل للواهب أن يرجع في هبته مطلقًا، وحكي ذلك عن أبي حنيفة أيضًا.

لكن ما ذهب إليه الجمهور هو الراجح، فهناك أحاديث كثيرة، ستأتي ، هذه الأحاديث المصرحة بأن الولد وما ملك لأبيه، فليس رجوعه في الحقيقة رجوعًا حين يعطي الأب هبة لابنه ثم يرجع في هذه الهبة، وعلى تقدير كونه رجوعًا، فإن الأب ربما ظهرت له مصلحة، ربما رجع في عطيته بسبب مصلحة التأديب مثلًا، أو أنه رأى أن هذا الولد مسراف يسرف في المال بدون تعقل، أو أنه رآه يصرف هذا المال على المعصية، فإذا ما رأى الأب حكمة في الرجوع، وهي حكمة تقتضي المصلحة والتأديب، ونحو ذلك جاز له أن يرجع في هبته، والأحاديث تؤيد ذلك.

واختلف العلماء: هل الأم تأخذ نفس هذا الحكم مع الأب في الرجوع؟ بمعنى أن الأم إذا وهبت لابنها أو ابنتها أو أعطت عطية لأحد أبنائها؛ هل يجوز لها أن ترجع أم لا؟: ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأم مثل الأب في ذلك، وهذا هو الرأي الراجح، ولكن المالكية فرقوا بين الأب والأم، فقالوا: للأم أن ترجع إذا كان الأب حيًّا دون ما إذا مات، وقيدوا رجوع الأب بما إذا كان الابن الموهوب له لم يستحدث دينًا أو ينكح، وبذلك قال إسحاق.

والحقيقة أن الراجح في هذه المسألة: أنه يجوز للأب الرجوع في هبته لولده مطلقًا، وكذلك الأم، هذا هو الصحيح.

error: النص محمي !!