الرد الإجمالي على شبه نفاة الصفات
أولا: ليس لنفاة الصفات دليل من الكتاب والسنة، ولا من سلف الأمة الصالحين، وهذا يعلمه الناظر في أدلتهم، ولو كان قول المعطلة صوابًا، لوجدنا نصوص القرآن والسنة تؤيده وتأمر به؛ لأن القضية الكبرى التي جاءنا بها الوحي الإلهي الرباني، هي تعريف العباد بربهم، فكيف يكون طريق معرفة الله وتوحيده هو نفي صفات رب العالمين سبحانه وتعالى جل في علاه- ثم لا يأمرنا الله به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب؟!
إن هذا بلا شك في غاية البعد، بل إننا إذا تأملنا ونظرنا نجد قرآنًا الكريم يخالف نهج هؤلاء المعطلة؛ لأنه يخبر بكثرة عن صفات الباري مقررًا لها، بل ويأمر بالإيمان والعلم بها، وكيف يكون هذا هو الطريق الحق في معرفة الله، ثم لا يعلمه الرعيل الأول من هذه الأمة إلى أن نبتت هذه النابتة التي ادعت لنفسها أنها تعلم ما لم يعلمه الصحابة الكرام، والتابعون لهم بإحسان، والأئمة الأعلام؟!.
الرد الثاني من الردود الإجمالية: إن إثبات الصفات لله -تبارك وتعالى- ليس تشبيهًا؛ لأن نفاة الصفات زعموا أن دليلهم من القرآن هو قول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الشورى: 11] وقالوا إنه يلزم من إثبات الصفات للباري كالسمع والبصر والاستواء واليد والوجه مشابهة الخالق بالمخلوق؛ لأن البشر يتصفون بهذه الصفات، والله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
واستدلالهم هذا تحريف للكلم عن مواضعه، فالنص الذي استدلوا به أثبت صفتي السمع والبصر لله؛ لأن الله تعالى لم يقل “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ” فحسب، وإنما قال : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير}فلو كان إثبات الصفات تشبيهًا لما ختم الله هذا النص بذكر هاتين الصفتين العظيمتين للباري -تبارك وتعالى.
إن خاتمة النص الذي استدلوا به واضحة الدلالة في الرد عليهم، فكأن النص يقول للعباد “لا تنفوا عن الله صفاته بدعوى أن إثبات الصفات يقتضي التشبيه” والذي عليه الأئمة الأعلام في معنى النص أن الله -تبارك وتعالى- لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، والمحقق المنصف يدرك بأدنى تأمل بطلان مقالة الذين ينفون صفات الباري بدعوى أن إثباتها يفضي إلى تشبيه الخالق بالمخلوق؛ لأن وجود الباري يخصه، وكذلك أسماؤه وصفاته خاصة به دون خلقه.
ولا يقتضي الاتفاق في الاسم العام عند الإطلاق تماثل صفات الخالق والمخلوق، في مسمى ذلك الاسم عند إضافته إلى الباري أو تخصيصه وتقييده به، وهذا النهج لا يرتضيه العقلاء في الأسماء المشتركة فيما بين المخلوقات، فإذا قيل مثلًا: إن العرش موجود، والقمر موجود، والفيل موجود، والبعوضة والنملة والذبابة كلها موجودة، فهل يجوز لأحد أن يقول: إن وجود هذه المخلوقات متساو، وأنه شيء واحد؟!
فإذا كان هذا مرفوضًا وكلاهما مخلوق، إذًا التباين الذي بين الخالق والمخلوق لا شك أنه أعظم من التباين الذي بين المخلوق والمخلوق، وإذا قيل: إن للملائكة أجنجة، وللطائرات أجنحة، وللطيور أجنحة، وللبعوض أجنحة، فهل يلزم من ذلك أن تكون هذه الأجنحة متماثلة؟!
إن كل العقلاء يعلمون بطلان هذا القول، والله -تبارك وتعالى- قد أخبرنا عما في الجنة من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس، ونحن نعلم ما أعلمنا ربنا سبحانه وتعالى به، وأخبرنا إياه، وقد ذكر لنا أن في الجنة من الماء واللبن والخمر والعسل، وكل ما فيها لا يشبه شيئًا مما في الدنيا، وإن اشتركا في الأسماء التي تسمى بها المسميات في الدنيا وفي الجنة، وبيان ذلك أن خمر الجنة كما أعلمنا ربنا سبحانه وتعالى عنها في كتابه، أنه ليس فيها غول ولا ينزفون عنها.
وهذه الأرواح التي تسكن أجسادنا أخبرنا ربنا -سبحانه- أنها تنفخ في الجسد وتقبض منه، وتصعد وتنزل، وهي حية عالمة قادرة، سميعة بصيرة، ومع اتصافها بهذه الصفات فإنها لا تماثل ما نشاهده من المخلوقات.
وعليه أقول: إن الخالق -تبارك وتعالى- أولى بمباينة مخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته، فإذا وجد من ينفي صفات الروح بدعوى أن إثبات هذه الصفات يقضي بمشابهتها لبقية المخلوقات، فإنه يكون غالطًا مخطئًا، ومن نظر في الكتاب العزيز يجد أن الله -تبارك وتعالى- سمى نفسه: “حيًّا – سميعًا بصيرًا – عليمًا – حليمًا – رءوفًا – رحيمًا – عزيزًا – جبارًا – متكبرًا” ونحو ذلك من الصفات، كقوله سبحانه: {اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [آل عمران: 2]، وكقوله: {إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم} [الحج: 65]، كما قال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون} [الحشر: 23].
وقد سمى الله -تبارك وتعالى- بعض عباده بهذه الأسماء، كقوله سبحانه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم: 19]، وكقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، وكقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} [التوبة: 128] وما سمى الله -تبارك وتعالى- به نفسه، ووصفها به، فإنه خاص به دون خلقه يناسب عظمته وجلاله وكماله، وما وصف به العباد من تلك الصفات فإنه حق، ولكنه مناسب لضعفهم وافتقارهم وعجزهم.
الرد الإجمالي الثالث: هو بيان أن نفي الصفات ليس تمجيدًا ولا تعظيمًا لرب العالمين سبحانه، إن مقالة نفاة الصفات من أعظم التلبيس، الذي كادوا به الإسلام وأهله، فقد زعموا أنهم بنفيهم للصفات يريدون تعظيم الباري وتقديسه وتنزيهه، وجردوا بهذه الطريقة الرب -تبارك وتعالى- عما مدح به نفسه من صفاته وأسمائه، وبذلك أغلقوا باب معرفة الله -تبارك وتعالى- وقطعوا الخلق عن ربهم، وبمثل هذا تظلم العقول والقلوب وتشغل بسفاسف الأمور، وتفسد حياة البشر.
إن كل الفرق الضالة تدعي أنها تريد تمجيد معبودها وتقديسه، حتى الذين يعبدون البقر والبشر والشجر والحجر، يدعون هذه الدعوى، لكنهم لا يسلكون السبيل الصحيح للتنزيه والتقديس، فقد تكون طريقة التقديس عندهم هي النقص والذم بعينه، وقد يصوغ زعماء الباطل طرق الضلال في ظلال الأهداف الخيرة، فيروج باطلهم على أصحاب العقول الضعيفة، وهذا فيه من التلبيس الذي قد لا يدركه إلا أصحاب البصائر والعقول النيرة.
رابعًا: أدلة العقول توافق أدلة الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الأدلة العقلية الصحيحة لا يمكن أن تناقض ما جاءنا من عند رب العالمين سبحانه وتعالى فإن جاءت العقول بما يناقض النصوص، فلا بد من أحد أمرين:
الأول: أن يكون النص غير صحيح، وذلك كالأحاديث الباطلة والمكذوبة، أو أن يكون الفهم للنص مختلًّا؛ بحيث يفقه الناظر في النص معنًى خطأ مخالفًا، لم يرده الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الأمر الثاني: فهو أن يكون العقل قد أخطأ فيما وصل إليه من نتائج ناقض بها النصوص، أما أن يناقض العقل السوي الحكم الصحيح الذي توصل إليه النصوص الثابتة عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا لم يكن قط ولن يكون؛ لأن النصوص التي جاءت من عند العليم الخبير لا يمكن بحال من الأحوال أن تناقضها الحقائق والثوابت.
وهؤلاء الذين يدعون أنهم جاءوا بالأدلة العقلية القطعية الدالة على نفي صفات الباري، ليس لهم قاعدة ثابتة مستمرة فيما يزعمون أن العقل يوجبه أو يحكم باستحالته، وبرهاننا على ذلك تناقضهم فيما بينهم، فما يزعم بعضهم أن العقل يوجبه، يدعي آخر أن العقل يحكم باستحالته، فإذا كانت العقول تتفاوت فيما بينها، بل تتناقض، فإنها لا تصلح حكَمًا في إثبات الحقائق الغيبية، فضلًا عن تحكمها فيما تنازع الناس فيه.
إن القرآن الكريم كتاب هداية، جاء من عند رب العالمين ليخرجنا الله به من الحيرة والمتاهة في باب الاعتقاد وباب التشريع، وهؤلاء المعطلة يريدون إعادتنا إلى الهوة التي أنقذنا الإسلام منها، وقد جاءنا القرآن الكريم بالأدلة العقلية السوية التي تدل دلالة واضحة على وجود رب البرية، وعلى وحدانيته سبحانه وتعالى، وعلى أسمائه وصفاته وكماله، وقد بينَّت في دروس سابقة منهج أهل السنة في ذلك.
وقد قرر علماؤنا -رحمهم الله تبارك وتعالى- أن العقل السوي لا يمكن أن يناقض في أحكامه ما قرره الحق -تبارك وتعالى- فيما أنزله إلينا، وقد يمكن أن تأتي الشريعة بأمور يحار فيها العقل، وقد تعجز العقول عن إدراك تفاصيل ما جاءت به النصوص، ولكنها أبدًا لا يمكن أن تأتي بما يناقض العقول، ولذلك قال أهل العلم: “إن العقل الصحيح لا بد أن يوافق النقل الصريح”.
الرد الإجمالي الخامس على نفاة الصفات: أقول لهم فيه: إنكم تتناقضون وتختلفون فيما بينكم، فتناقض نفاة الصفات واختلافهم أمر واضح وبيِّن، والمنهج القرآني الكريم، والنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله الحكيمة لا يمكن بحال أن نجد في شيء من ذلك أي لون من ألوان التناقض أو الاختلاف، وما جاء من عند غير الله لا يسلم أبدًا من التناقض أو الاختلاف، وصدق الله في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
والمحقق في منهج نفاة الصفات يرى هذا الاختلاف والتناقض عندهم واضحًا جليًّا، ويتبدى اختلافهم وتناقضهم في عدة أمور:
منها: حكمهم على الشيء الواحد بأحكام مختلفة، كل ما حدثنا به ربنا أو حدثنا به رسوله صلى الله عليه وسلم عن صفاته، فإنه يجب أن يعطى حكمًا واحدًا؛ لأنه باب واحد، فلا يجوز الإيمان ببعضه والكفر ببعضه، فالذي يؤمن بعلم الله وسمعه وبصره وحياته وقدرته، ويجعل هذه الصفات صفات حقيقية للباري -تبارك وتعالى- يكون متناقضًا إذا نفى عن الله غضبه وكراهته واستواءه، ومحبته ورضاه، والمعطلة وقعوا في ذلك، وجعلوا هذه الصفات الأخيرة التي ذكرتها كالغضب والاستواء والمحبة والرضا، جعلوها من المجاز، وأولوها بشتى أنواع التأويل وألوانه، والحقيقة أنه لا فرق بين الصفات التي أثبتها هؤلاء، والصفات التي عطلوها.
ولهذا أقول لهذا الذي يفعل ذلك: إن علم الله وحياته وسمعه وبصره وكلامه لا يشبه شيئًا من صفات المخلوقين، بل هي صفات لله -تبارك وتعالى- تليق بجلال الله وكماله.
وكذلك أقول له: إن بقية الصفات التي أنكرتها أو أوَّلتها كصفة اليد والوجه والمحبة والرضا والغضب، هي أيضًا صفات تليق بجلال الله -تبارك وتعالى- وكماله، وإثباتها لا يقتضي بحال من الأحوال مشابهة بين الخالق والمخلوق.
فمن زعم أن هذه الصفات التي نفاها يلزم منها تمثيل الله بخلقه، فإنه يقال له: وكذلك ما أثبته من صفات يلزم منها اللازم نفسه، فإذا قال: إن العقل دل على الصفات التي أثبتها.
فنقول له: أقصى ما يمكن أن يقال: إن العقل إذا كان لا يثبت الصفات التي نفيتها، فإنه لا يدل على نفيها، ولكنه سكت عن ذلك، فلا يجوز أن تزعم أن العقل ينفيها مع مجيء الشرع بإثباتها.
والحق أن أغلب الصفات يمكن إثباتها عقلًا بمثل ما احتجوا به على ما أثبتوه من الصفات، ويرد بهذا الذي قررناه على الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات أيضًا؛ لأنه لا فرق بين إثبات الصفات وإثبات الأسماء، فإذا كان إثبات الحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، يقتضي التشبيه والتجسيم؛ لأنه لا نجد في المشاهد أنه يتصف بهذه الصفات إلا ما كان جسمًا، فكذلك يقال في الأسماء كالحي والعليم والقدير، إنه لا نشاهد من يسمى بهذه الأسماء إلا ما هو جسم.
والذين ينفون الأسماء والصفات بدعوى أنه يلزم من ذلك تشبيه الباري بالأجسام والمخلوقات، فإنه يقال له: لقد شبهتم الله بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
أما الأمر الثاني الذي أبيِّن فيه تناقض نفاة الصفات: فهو تناقضهم في الحكم على الفرع بخلاف ما حكموا به على الأصل، فالنفاة يثبتون لله ذاتًا حقيقة لا تشبه ذوات المخلوقين، ولكنهم ينفون عن الله بعض صفاته وأفعاله، وبعضهم ينفي الجميع بدعوى مشابهتها لصفات الخلق، فإذا كان لله ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فكذلك له صفات وأفعال حقيقة لا تماثل صفات المخلوقات وأفعالهم.
فإذا ادعى مدع أنه ينفي يد الله ووجهه واستواءه؛ لأننا لا نعمل كيفية هذه الصفات، فنقول له ولكل نافٍ: يلزمكم أن تنفوا ذات الله ووجوده؛ لأنكم لا تعلمون كيف هو -تبارك وتعالى- فإن قلتم: وجود رب العالمين يخصه، ولا يشركه فيه غيره. قلنا: وكذلك صفاته وأسماؤه وأفعاله؛ لأن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، فإذا كنا لا نعلم كيفية ذاته، فكذلك يجب أن نقول في كيفية صفاته -تبارك وتعالى- لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات”.
الأمر الثالث الذي أبيِّن به تناقض نفاة الصفات: وقوعهم في مثل ما فروا منه، نفاة الصفات تناقضوا من حيث لا يدرون، فهم في نفيهم للصفات بحجة تنزيه الباري عن التشبيه، وقعوا في المحذور الذي منه فروا، وقد استغل مخالفوهم هذا التناقض عندهم، فألجئوهم إلى طريق ضحد مذلة، أوصل بعضهم إلى جحد الخالق ونفيه، فالذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها، بحجة أن إثباتها يقتضي التشبيه، يقول لهم الخصوم: انفوا الصفات التي أثبتموها، فإنها تؤدي إلى التشبيه.
والذين ينفون الصفات كلها يقول لهم خصومهم: انفوا أسماء الله أيضًا كما نفيتم صفاته سبحانه، فإن إثبات الأسماء يقتضي التشبيه.
والذين ينفون الأسماء والصفات، يقول لهم خصومهم : إذا نفيتم الأسماء والصفات خشية التشبيه، فإنكم بذلك تكونون شبهتم الله بالمعدومات، فوقعتم في أمر عظيم، بل هو أعظم من الذي فررتم منه، فأوغل آخرون وقالوا: نحن لا نقول: إن الله عالم ولا ليس بعالم، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، وهكذا في صفاته كلها.
فقال لهم محاوروهم: لقد شبهتم الخالق -تبارك وتعالى- بقولكم هذا بالممتنعات. وقال لهم محاوروهم أيضًا: إذا كان إثبات الأسماء والصفات يقتضي التشبيه، فانفوا ذات الله -تبارك وتعالى؛ لأن إثبات ذات لله بناء على منهجكم هذا يفضي إلى التشبيه والتمثيل.
أرأيت أخي المبارك هذه المزالق الخطرة الوعرة التي قاد إليها هذا التناقض، الذي برأ الله -تبارك وتعالى- منه كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكما أخطأ نفاة الصفات في نفيهم للصفات، بدعوى أن إثباتها يلزم منه التشبيه والتمثيل، أخطئوا أيضًا في ادعائهم بأن أهل السنة والجماعة المثبتون للصفات مشبهة ومجسمة، وحاشاهم أن يكونوا كذلك.
أما الرد الإجمالي السادس والأخير: فيشتمل على الرد على دعواهم أن الله لا يدرك بالحواس؛ لأن النفاة نفوا رؤية الله وكلامه بدعوى أن الله لا يدرك بالحواس؛ لأن المخلوقات هي التي تدرك بالحواس، وقد أكذبوا بدعواهم هذه النصوص القرآنية والحديثية، المصرحة بسماع العباد لكلام الله، والمقررة رؤية العباد لربهم في يوم القيامة، فموسى -عليه السلام- كلمه ربه، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال سبحانه: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السموات العلا وكلمه ربه.
والنصوص من الكتاب والسنة المخبرة بتكليم الله لعباده، وتكليمهم إياه في يوم القيامة كثيرة طيبة، وكذلك النصوص المصرحة برؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة، فهي كثيرة أيضًا، كقوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة: 22-23] والأحاديث المثبتة لذلك تبلغ درجة المتواتر، فكيف ترد هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بأدلة موهومة، وشبهات لا تثبت في ميدان الحجاج والنزاع؟!.
ودعواهم بأن القرآن نفى رؤية العباد لربهم في قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} [الأنعام: 103] دعوى مردودة، فالذي نفته الآية هو إحاطة الأبصار به لا نفي رؤيته سبحانه، فالمؤمنون يرونه، ولكنهم لا يحيطون به، كما أن العباد يعرفون ربهم، ولكنهم لا يحيطون به علمًا، كما قال تبارك وتعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] فهذه كتلك.
يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: “حمد الرب نفسه بأنه لا تدركه الأبصار لكمال عظمته، فهو يُرى ولا يدرك، كما أنه سبحانه وتعالى يُعلم ولا يحاط به علمًا”.