Top
Image Alt

الرد على من قال: إن مرسل الصحابي كمرسل غيره

  /  الرد على من قال: إن مرسل الصحابي كمرسل غيره

الرد على من قال: إن مرسل الصحابي كمرسل غيره

ورأى بعض الناس أن مرسل الصحابي كمرسل غيره, لا يحتج به إلا إذا عرف الساقط، وأنه صحابي مثله.

وبالغ ابن حزم في (الإحكام) فاشترط معرفة اسم الصحابي، وتعيين شخصه، ولم يكتفِ بالقول بأنه صحابي، وقال في ذلك: “وقد توجه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ إلى قوم ممن يجاور المدينة؛ فأخبرهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يعرس بامرأة منهم؛ فأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أخبره بذلك؛ فوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه رسولًا، وأمر بقتله إن وجده حيًّا؛ فوجده قد مات”.

قال ابن حزم: “فهذا -كما ترى- قد كذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حي، وقد كان في عصر الصحابة منافقون ومرتدون؛ فلا يقبل حديث قال راويه فيه: عن رجل من الصحابة، أو حدثني من صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا حتى يسميه، ويكون معلومًا بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى، قال تعالى: {ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ}التوبة: 101]”.

قال: “وقد ارتدّ قومٌ ممن صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام؛ كعيينة بن حصن، والأشعث بن قيس، وعبد الله بن أبي سرح”.

وبالنظر فيما استدل به ابن حزم, فهل يدل لما استدل عليه أم لا يدل؟ فالحديث الذي ذكره رواه مسدد والطبراني من طريق أبي حمزة الثمالي ثابت بن أبي صفية قال: حدثني سالم بن أبي الجعد، قال: حدثني عبد الله بن محمد ابن الحنفية أنه قال: انطلقت مع أبي إلى صهر لنا من أسلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-, فسمعته يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أرحنا بها يا بلال)) –أي: بالصلاة- قال: قلت: أسمعت ذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فغضب وأقبل على القوم يحدثهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلًا إلى حي من العرب؛ فلما أتاهم قال: إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أحكم في نسائكم بما شئت، فقالوا: سمعًا وطاعة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وبعثوا رجلًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن فلانًا جاءنا فقال: إن النبي-صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أحكم في نسائكم بما شئت؛ فإن كان أمرك فسمعًا وطاعة؛ وإن كان غير ذلك فأحببنا أن نُعلِمك؛ فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعث رجلًا من الأنصار، وقال: ((اذهب, فاقتله وأحرقه بالنار)) فانتهى إليه وقد مات وقبر؛ فأمر به فنبش ثم أحرقه بالنار، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من كذب علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار)) ثم أقبل عليَّ، فقال: تراني كذبت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا؟!

وثابت بن أبي صفية أبو حمزة الثمالي الأزدي ضعيف، روى ابن عدي بسنده إلى زياد بن معروف أنه قال: سمعت عبيد الله بن موسى يذكر أنهم كانوا عند أبي حمزة الثمالي، فحضره ابن المبارك, فذكر أبو حمزة حديثًا في عثمان؛ فقام ابن المبارك فأخذ كتابه فمزقه، ثم نهض ومضى.

وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال السعدي: أبو حمزة الثمالي ثابت بن أبي صفية واهي الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: ولأبي حمزة هذا أحاديثه, وضعفه بيِّن على رواياته، وهو إلى الضعف أقرب.

وكان على ابن حزم ألا يستشهد بحديث متروك أو لا قيمة له، وتظهر فيه الصنعة والإساءة إلى صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أسلوب يشبه الصدق مع أنه كذب صريح، كان على ابن حزم ألا يستشهد بهذا الحديث في مثل هذا الأمر الخطير -حكم مرسل الصحابة- والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان محروسًا بعناية الله تعالى، وكان الوحي ينزل عليه إذا حدث أي أمر يحتاج إلى البيان، ومثل هذا الأمر الخطير إذا حدث كان الله يعلم به رسوله كما أعلمه بمثله أو بأقل منه من الأمور؛ هذا عن الحديث الذي استشهد به ابن حزم.

أما كلامه عن المنافقين والمرتدين فلا اعتبار له؛ لأن المنافقين لم يبقَ منهم من يعتبر بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وفي عهده تكفل الوحي بكشف أكاذيبهم وفضح ادعاءاتهم؛ روى البخاري بسنده عن زيد بن وهب أنه قال: كنا عند حذيفة فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية؛ قوله تعالى: {ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ}التوبة: 12] -أي: المشركين- إلا ثلاثة -أي من المعاندين- ولا من المنافقين إلا أربعة.

فدل على تهاوي الكافرين والمنافقين, وأنهم كانوا معروفين بأعيانهم وبأعدادهم وبكل ما يتصل بهم, ولو روى أحدهم شيئًا لكشفه حذيفة وبيّنه هو ومن معه ممن يعرف أسماءهم وأمورهم، وقد ورد أن أحدهم لو شرب الماء البارد لما أحس برده -أي: فقدوا الحيوية والقوة, ولم يبقَ لهم اعتبار.

وأما من ارتد -كمن ذكرهم- ثم عاد إلى الإيمان؛ فإنه لم يصدر عنهم بعد عودتهم إلى الإسلام ما يدل على بقاء أي أثر للردة في أقوالهم أو أفعالهم، وما رجعوا عن ردتهم إلى الإسلام إلا عن اقتناع كامل ويقين تام.

والرواة من الصحابة هم صفوة الصحابة وأهل العلم والمنزلة بينهم، شهد لهم التابعون وشهد بعضهم لبعض، وشهد لهم الأعداء بما يؤكد عدالتهم ويبين ضبطهم, وحسن إدارتهم للشئون الخاصة والشئون العامة؛ فضلًا عن الذكاء والحفظ والتمسك بالحق والحرص عليه.

قال ابن حزم: ولقاء التابعي لرجل من أصغار الصحابة شرف وفخر عظيم؛ فلأي شيء يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته، ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين:

– إما أنه لا يعرف من هو, ولا عرف صحة دعواه الصحبة.

– أو لأنه كان بعض من ذكرنا.

فأما قوله: “لا يعرف من هو ولا عرف صحة دعواه الصحبة”, فاتهام بغير دليل ولا يقبل منه؛ لأن التابعي لا يقول عمن روى عنه: إنه صحابي إلا بعد تأكده من صحبته، وعدم وجود ما يقدح في هذه الصحبة.

ثم روى ابن حزم عن مسلم بسنده إلى خالد بن عبد الله, عن عبد الملك, عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر { أنه قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر، فقالت: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةً: الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ، وَمِيثَرَةَ الأُرْجُوَانِ، وَصَوْمَ رَجَبٍ كُلِّهِ. قال ابن حزم: فأنكر ابن عمر أن يكون حرَّم شيئًا من ذلك، قال: فهذه أسماء وهي صحابية من قدماء الصحابة, وذوات الفضل منهم -قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك؛ فصح كذب ذلك المخبر.

قال: وقد ذكر بعضهم عن ابن سيرين في أمر طلاق ابن عمر امرأته على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو ذلك؛ فواجب على كل أحد ألا يقبل إلا من عرف اسمه وعرفت عدالته وحفظه.

ويرد على ابن حزم بأن التابعي إذا ثبت لديه صحبة الصحابي؛ فإن شخصه لا يعنيه في الرواية إلا إذا كان لشخصه صلة بالمرويّ، أما إذا لم يكن لشخصه صلة بذلك؛ فيكفي التابعي التأكد من صحبته لكي يروي الحديث أو يرسله, أو يبين أن من روى عنه صحابي وإن أبهمه، والتشرف بذكر اسمه لا يكون إلا عن سبب يقتضيه، وما ذكره عن أسماء وابن عمر، وإنكار ابن عمر ليس كما ذكر؛ وإلا لسأل ابن عمر عمن أخبرها، وبيَّن كذبه عليه وطلب عقوبته.

ففي (صحيح مسلم) عن عبد الملك, عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر -وكان خال ولد عطاء- قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَرِّمُ أَشْيَاءَ ثَلاثَةً: الْعَلَمَ فِي الثَّوْبِ، وَمِيثَرَةَ الأُرْجُوَانِ، وَصَوْمَ رَجَبٍ كُلِّهِ، فقال لي عبد الله: أما ما ذكرت من رجب؛ فكيف بمن يصوم الأبد؟! وأما ما ذكرت من العلَم في الثوب؛ فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنما يلبس الحرير من لا خَلَاق له)) فخفتُ أن يكون العلَم منه، وأما ميثرة الأرجوان؛ فهذه ميثرة عبد الله؛ فإذا هي أرجوان. فرجعت إلى أسماء فخبرتها، فقالت: هذه جُبَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فأخرجت إلي جبة طيالسة كسروانية، لها لِبْنة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قُبضت؛ فلما قُبضت قبضتها، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يلبسها؛ فنحن نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا.

وروى أحمد بسنده إلى أبي الزبير أنه قال: سألت جابرًا عن ميثرة الأرجوان، فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا أركبها، ولا ألبس قميصًا مكفوفًا بحرير، ولا ألبس القسي)) فلو علم ابن عمر بالحديث لاستشهد به، وابن عمر لم يكذب المخبر عنه؛ بل ذكر ما عنده في المسائل الثلاثة، والمخبر ليس صحابيًّا -كما ظن ابن حزم- وقد يكون تابعيًّا -وهو الأغلب- وسواء أكان صحابيًّا أم تابعيًّا, فإنه لم يتبين كذبه؛ فقد يشتبه عليه الأمر، وقد يشتبه عنده صحابي بصحابي، والأمر في ذلك يسير ما دام ليس هناك تعمد للكذب، وما دام ابن عمر لم يتهمه بذلك، وكذلك أسماء؛ فكيف يتهم ابن حزم من لم يتهمه أصحاب الشأن؟

وقال بعض من لم يعتمد مرسل الصحابة: إن الصحابة يروون عن التابعين، وقد يكون التابعي غير ثقة, فيرسل الصحابي الحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هذا الطريق؛ ومن أجل ذلك توقف في مرسل الصحابة.

قال العراقي: وقد صنف الحافظ أبو بكر الخطيب، وغيره في رواية الصحابة عن التابعين؛ فبلغوا جمعًا كثيرًا, إلا أن الجواب عن ذلك أن رواية الصحابة عن التابعين غالبها ليست أحاديث مرفوعة؛ وإنما هي من إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات، قال: وبلغني أن بعض أهل العلم أنكر أن يكون قد وُجد شيء من رواية الصحابة عن التابعين عن الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-, أي: متصلة، قال: فرأيت أن أذكر هنا ما وقع لي من ذلك للفائدة:

فمن ذلك: حديث سهل بن سعد, عن مروان بن الحكم, عن زيد بن ثابت؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أملى عليه: {ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ}النساء: 95] فجاء ابن أم مكتوم, والحديث مشهور, {ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜلم تكن قد نزلت: {ﭖ ﭗ ﭘفقال ابن أم مكتوم: أنا رجل أعمى لا أستطيع النهوض؛ فنزل الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفخذه على فخذ زيد بن ثابت؛ فثقلت عليه حتى كادت ترض، ثم نزل قول الله تعالى: {ﭖ ﭗ ﭘفأمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكتبها في مكانها من الآية”. قال العراقي: الحديث رواه البخاري والنسائي والترمذي، وقال: حسن صحيح.

وذكر حديث السائب بن يزيد, عن عبد الرحمن بن عبد القاري, عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه, فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كُتب له كأنما قرأه من الليل)) قال: رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة.

وذكر حديث عياض بن عبد الله, عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق, عن عائشة < أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجامع ثم يكسل؛ هل عليهما من غسل -وعائشة جالسة؟ فقال: ((إني لأفعل ذلك أنا وهذه, ثم نغتسل)) أي: هو وعائشة <, أخرجه مسلم.

وتابع العراقي ذكر هذه الأحاديث التي فيها رواية الصحابي عن تابعي عن صحابي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ثم قال: فهذه عشرون حديثًا من رواية الصحابة عن التابعين عن الصحابة مرفوعة، ذكرتها للفائدة، وفيها بيَّن الصحابي روايته عن التابعي.

أما الإرسال عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإسقاط تابعي ثم صحابي روى عنه التابعي أو نحو ذلك؛ فنادر جدًّا فيما نراه نحن، وليس له في مجال الحكم على الرواية أدنى اعتبار، وكما قال العراقي: إنما هي إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات، ولا يكاد يسند فيها شيء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن طريق الصحابي؛ أما إذا أخطأ من يروي عن الصحابي، وفعل ذلك فإن البحث العلمي يحدد من أخطأ في ذلك، وينتهي إلى أن الصحابي لم يرسل الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسقاط التابعي.

ومن روايات الصحابة عن التابعين في معرض روايتهم الحديث لبعض الصحابة: ما رواه ابن حبان بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف, عن أبي هريرة أنه قال: خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه مات, وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مُصِيخة -أي: منصتة- يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شَفَقًا من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه)) قال كعب: ذلك في كل سنة يوم, فقلت: بل في كل جمعة، قال: فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال أبو هريرة: فلقيت بَصْرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تعمل المَطِي إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس)) -شك أيهما.

قال أبو هريرة: ثم لقيتُ عبد الله بن سلام؛ فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار، وما حدثته به في يوم الجمعة، فقلت له: قال كعب: ذلك في كل سنة يوم, فقال عبد الله بن سلام: كذب كعب، فقلت: ثم قرأ التوراة فقال: بل هي في كل جمعة، فقال عبد الله بن سلام: صدق كعب، ثم قال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي، قال: ثم قال أبو هريرة: فقلت له: أخبرني بها ولا تضن عليَّ، فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة في يوم الجمعة، قال أبو هريرة: وكيف تكون آخر ساعة من يوم الجمعة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي…)) وتلك ساعة لا يُصلى فيها؟! فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة؛ فهو في صلاة حتى يصلي))؟ قال أبو هريرة: بلى، قال: فهو ذلك.

ورواه الحاكم في (المستدرك) ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه؛ إنما اتفقا على أحرف من أوله في حديث الأعرج عن أبي هريرة، ورواه الترمذي باختصار ثم قال: وفي الحديث قصة طويلة، وهذا حديث حسن صحيح، قال: ومعنى قوله: “أخبرني بها ولا تضن بها عليَّ”: لا تبخل بها علي، والضن: البخل.

فهنا ذكر الصحابي -وهو أبو هريرة- من روى عنه من التابعين -وهو كعب الأحبار- للصحابي الآخر الذي حدَّثه، والإسناد هنا متصل، والتابعي معروف؛ أما أن يرسل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما سمعه من التابعي فنادر, أو غير موجود على الإطلاق.

والنتيجة مما ذكرناه في هذا الأمر المهم الذي اختصره علماء الحديث، ولم يعطوه حقه من المتابعة بالنسبة لحال رواية الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان يروي بعضهم عن بعض -كما قلنا- ويعتبر الصحابي أخاه كأنه هو، وسماعه كأنه سماعه، وروايته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنها روايته.

أما علاقتهم بالتابعين فعلاقة الشيخ بطلابه لا يعتمد منهم إلَّا من وثق بصدقه وعرف حاله، ولا يقرب منهم إلا من يأتمنه على حديثه، وإذا عرف عن أحد ممن يتصلون بهم من التابعين شيئًا؛ فإنهم يسارعون إلى الابتعاد عنه، وإلى منعه وإلى عدم إعطائه شرف الانتساب إليهم؛ فكان من يلازم الصحابة أو يروي عنهم أو يأخذ عنهم العلم لا بد وأن يتسلّح قبل ذلك بالدين والورع والرغبة في الخير، وإذا ظهر شيء منه؛ فإن التابعين والصحابة وغيرهم ممن حوله ينتقدونه ويعرفون حاله، ولا يعتبرون ما ينقله.

ولم يحفظ الصحابة من علم التابعين -كما ذكرنا- إلا ما أخذوه عن الصحابة، ورووه ممن لم يتيسر لهم الحصول عليه، وهم في ذلك رواة لهم، فإذا روى مثلًا صحابي عن مثل عبيدة أو علقمة أو مسروق أو غير ذلك عن صحابي آخر؛ فإنه في قوة روايته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا، ومن أجل ذلك كان مرسل الصحابة مأمونًا؛ فلا يسقطون إلا من تأكد عندهم أنه مثلهم أو خير منهم فيما يتصل بالعدالة والأمانة في الحديث ونحو ذلك؛ أما بعض الرواة عن الصحابة فقد يخطئ؛ فينسب ما رواه كعب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو ما رواه كعب من التوراة أمام أبي هريرة؛ فلم يعلق عليه أبو هريرة إلى أبي هريرة خطأ منه؛ فإن ذلك لا يلحق بالصحابي؛ وإنما يلحق بمن أخطأ في ذلك، وقد نُقد الحديث والروايات نقدًا طيبًا بحيث ظهر مثل ذلك وتبيَّن.

ونقل عن الأعرج وأبي صالح أنهما قالا: نحن عيال على أحاديث أبي هريرة، نعرف الراوي إذا روى عن أبي هريرة؛ هل سمع منه أو لم يسمع منه؟ وهكذا كل صحابي كان له حماة لروايته يعرفون ما خرج منه وما لم يخرج, وما أضيف إليه وليس منه مما أخطأ فيه الرواة، ومن هنا بدأ الجرح والتعديل، وبدأ فحص التابعين الذين يروون عن الصحابة.

وإذا نظرنا في كتب الضعفاء ندر أن نجد تابعيًّا أو رجلًا يروي عن الصحابة، وهو متهم إلا ويُنَص عليه، وكثير منهم ألصق نفسه بالصحابة زورًا ولم يكن له صلة بهم أو أخذ عنهم، لقد كان الحديث غاليًا عزيزًا عند المحدثين؛ فلم يسمحوا لأحد بالتلاعب به أو بإدخال شيء على الصحابة لم يثبت عنهم، ومن أجل ذلك كان الجرح والتعديل مواكبًا لرواية التابعين عن الصحابة، وبدأ الصحابة نقد الحديث وبيان الكذب، وبيان ما لا يمكن أن يُنقل عنهم أو عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ونشأت علوم الحديث المختلفة المتعددة تطبيقًا قبل أن تكون تدوينًا، وازدهرت مناهج المحدثين عند أهل الحديث، وهو ما جعل أعداءهم يحاولون النيل من هذه المناهج, أو الطعن في القواعد التي استندوا إليها في التحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فإذا أضفنا إلى ذلك المتابعات والشواهد، وأن الحديث يشهد بعضه لبعض ويقوي بعضه بعضًا؛ زاد الاطمئنان إلى هذا الصرح الشامخ من المناهج التي سنتحدث عنها، والتي تمثل عمل الأجيال المختلفة من الصحابة فمن بعدهم, إلى يومنا هذا.

والمقصود أن كل ما صَدَر عن الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان محفوظًا بالوحي في عهده -صلى الله عليه وسلم-, ثم حفظ أيضًا بالمناهج الحديثية الصلبة القوية التي اعتمدت على ما يمكن أن تثبت به الرواية، وما لا يمكن أن تثبت بدونه، وأصبحت عمادًا وقاعدة لكل ما ينقل من الأخبار, أو الآراء قبل أن يظهر التسجيل بصورته التي نعرفها في هذه الأيام.

error: النص محمي !!