الركن الاعظم بعد الشهادتين: الصلاة
عبادة الله وحده لا شريك له هي الغاية من خلق الخلق كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}(56) {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}(57) {إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56- 58] قال تعالى: {يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ}(21) {الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22].
وعبادة الله -عز وجل- هي حق الله سبحانه على العباد كما في الحديث، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-قال: ((كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم يومًا على حمار فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال -صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا)).
والعبادة التي خلق الله تعالى الخلق من أجلها، وجعلها حقًّا لازمًا له -عز وجل- يقول فيها شيخ الإسلام: “العبادة اسم جامع لكل ما يُحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كالإيمان والإحسان، والخشية والرغبة، والرهبة، واليقين، والتوكل، وكالصلاة، والصيام، والجهاد، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك مما يحبه الله تعالى ويرضاه”.
ونبدأ بالركن الأعظم بعد الشهادتين وهو: الصلاة، فنقول -وبالله تعالى التوفيق-:
للصلاة في الإسلام منزلة لا تعدلها منزلة أية عبادة أخرى، فهي عمود الدين، كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) وهي أول ما فرض الله تعالى من العبادات، فرضها بمخاطبة رسوله -صلى الله عليه وسلم من غير واسطة ليلة المعراج، وكانت في الحديث المشهور خمسين، فما زال رسول الله -صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف حتى قال تعالى: {مَا يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ} [ق: 29] ((هي خمس في العمل وخمسون في الأجر والثواب)).
وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، كما جاء الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهي آخر وصية وصى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته حيث جعل يقول: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)). وقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلاة فقال: {حَافِظُواْ عَلَى الصّلَوَاتِ والصّلاَةِ الْوُسْطَىَ وَقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ومدح -عز وجل- الذين هم على صلواتهم يحافظون، ووعدهم الفردوس أعلى درجات الجنة فقال تعالى: {وَالّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}(9) {أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}(10) {الّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 9- 11].
وكما مدح الله -عز وجل- الذين هم على صلواتهم يحافظون؛ فقد ذم الذين عن صلاتهم ساهون فقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصّلاَةَ وَاتّبَعُواْ الشّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59]، وليس المراد بإضاعة الصلاة هنا تركها بالكلية، ولكن المراد بإضاعتها السهو عنها حتى يخرج وقتها أحيانًا كما في الآية الثانية قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ}(4) {الّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5]، فسماهم مصلين ولو كانوا لا يصلون ما استحقوا هذا الاسم، فهم يصلون ولكن عن صلاتهم ساهون، يُخرجون الوقت عن وقته، يصلون الفجر بعد طلوع الشمس، والظهر بعد العصر، والمغرب بعد العشاء، وهكذا، فتوعّد الله -تبارك وتعالى- هؤلاء بالويل والغي، وقد قيل: إن الويل والغي واديان في جهنم تستغيث جهنم بالله من شدة حرهما.
وقال تعالى: {كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(38) {إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ}(39) {فِي جَنّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ}(40) {عَنِ الْمُجْرِمِينَ}(41) {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}(42) {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ}(43) {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}(44) {وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ}(45) {وَكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ}(46) {حَتّىَ أَتَانَا الْيَقِينُ}(47) {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ} [المدثر: 38- 48].
ولقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلاة في الحضر والسفر والخوف والأمن فقال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصّلَوَاتِ والصّلاَةِ الْوُسْطَىَ وَقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ}(238) {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلّمَكُم مّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238، 239].
وبلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن رخَّص فيها ما لم يرخص في غيرها حتى لا يبقى عذر لمعتذر يعتذر به عن عدم إقامتها، فرخص لمن فقد الماء أو عجز عن استعماله أن يتيمم، كما رخص لمن عجز عن القيام في الصلاة أن يصلي قاعدًا؛ فإن عجز فعلى جنبه، فعلى المسلمين أن يتقوا الله -تبارك وتعالى- وأن يحافظوا على الصلوات كما أمرهم ربهم، ويعلموا أن الله -تبارك وتعالى- ما فرض عليهم الصلاة إلا لما لهم فيها من الفوائد التربوية؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما صرح ربنا سبحانه في قوله: {إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
والصلاة تُطهر المصلي من الأخلاق الدنيئة، والصفات القبيحة، كما قال سبحانه: {إِنّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً}(19) {إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعاً}(20) {وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}(21) {إِلاّ الْمُصَلّينَ}(22) {الّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} [المعارج: 19- 23].
والصلاة تعين على أمور الدين والدنيا كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ} [البقرة: 153] يقول العلامة السعدي -رحمه الله- في بيان فوائد الصلاة: “من فضائلها أنها أعظم عبادة يحصل فيها الخضوع والذل لله، وامتلاء القلب من الإيمان به وتعظيمه، وذلك مادة سعادة القلب الأبدية ونعيمه، ولا يمكن تغذيته بمثل الصلاة، والصلاة أعظم غذاء وسقي لشجرة الإيمان؛ فالصلاة تثبت الإيمان وتنميه، وتنمي ما يثمره الإيمان من فعل الخير والرغبة فيه، وكذلك تنهى عن الشر قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، فأخبر أن فيها الغذاء بذكر الله والشفاء بنهيها عن الفحشاء والمنكر، وأي شيء أعظم من هذا وأجلّ وأكمل”.
وللصلاة خمس فوائد كل واحدة خير من الدنيا وما عليها: تكميل الإسلام التي هي أكبر أركانه، وتكفير السيئات، وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات، وزيادة القرب من رب السموات، وزيادة الإيمان في القلب ونوره، وقد شرع الشارع الاجتماع للصلوات الخمس والجمعة، والعيد لما في الاجتماع من حصول التنافس في الخيرات والتنشيط عليها، والتعلم والتعليم لأحكامها.
ومن فوائدها الطبية البدنية -وهي مصلحة تابعة لغيرها: ما فيها من الرياضة المتنوعة النافعة للبدن، المقوية للأعضاء، والحركة المذيبة للأخلاط الغليظة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على المحافظة على الصلاة.