الركن الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين
أما الركن الثالث من أركان الإيمان؛ فهو: الإيمان بالنبيين والكتب المنزلة على المرسلين:
قال الله تعالى: {لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـَكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ} [البقرة: 177] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)). وحاجة الناس إلى الرسل والكتب فوق كل حاجة، وضرورتهم إليهم فوق كل ضرورة، وهم الذين يعرفون الناس بفاطرهم، وبارئهم، وأسمائه وصفاته، والطريق الموصلة إليه، وما يجب له عليهم، وما أوجبه لهم عليه.
فمن اتبعهم فقد هدي إلى صراط مستقيم، وفاز بسعادة الدنيا. وكان في الآخرة من ورثة جنة النعيم، ومن كذبهم وخالفهم فقد ضل سواء السبيل وهو في الآخرة من الخاسرين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لاُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاُدْخِلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ} [المائدة: 12] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ أَنّىَ يُصْرَفُونَ}(69) {الّذِينَ كَذّبُواْ بِالْكِـتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}(70) {إِذِ الأغْلاَلُ فِيَ أَعْنَاقِهِمْ والسّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ}(71) {فِي الْحَمِيمِ ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ}( [غافر: 69- 72].
والإيمان بجميع المرسلين واجب والكفر ببعضهم كفر بجميعهم، ولذلك قال الله تعالى على لسان رسوله والمؤمنين: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ} [البقرة: 285] وجعل الله تعالى التفريق بينهم كفرًا فقال: {إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}(150) {أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً} [النساء: 150، 151].
وقد بعث الله تعالى مائة وأربعًا وعشرين ألف نبي وأرسل منهم ثلاثمائة وخمس عشرة رسولًا. عن أبي أمامة قال: ((قلت: يا نبي الله، أي الأنبياء أول؟ قال: آدم عليه السلام. قلت: يا نبي الله، أو نبي كان آدم؟ قال: نعم، نبي مكلم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم قال له: يا آدم قبلا. قال: قلت: يا رسول الله، كم وفى عدد الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرين ألف الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمس عشرة جمًّا غفيرًا)). فالإيمان بهذه الجملة على العموم واجب، والإيمان بمن سمي منهم في القرآن الكريم على وجه الخصوص واجب فإن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78].
وقد سمى الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم خمسة وعشرين رسولًا؛ فوجب الإيمان بهم على وجه التعيين، ووجب الإيمان بإخوانهم على وجه العموم والإجمال؛ ومن الإيمان بالرسل الإيمان بأنهم أفضل الخلق على الإطلاق، وأكثرهم علمًا، وأحسنهم عملًا، وأصدقهم حديثًا، وأكملهم أخلاقًا، وبأن الله خصهم بفضائل لا يحصلها غيرهم، وأن الله لم يخصهم بطبائع غير طبائع البشر، إنما اختارهم رجالًا يأكلون ويشربون، يبولون ويتغوطون، ويتزوجون ويتناسلون، ويمشون في الأسواق يبيعون ويشترون؛ فالواجب احترامهم وتوقيرهم من غير إفراط ولا تفريط، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهموها الله -عز وجل- عباد مكرمون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورًا. وهم من جملة البشر تعتريهم الأسقام والأوجاع، وينالهم الأذى من الأعداء، ويموتون كما يموت سائر الناس وربما يقتلون.
ومن الإيمان بالرسل الإيمان بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كما قال الله تعالى: {مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـَكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ} [الأحزاب: 40] وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا؛ فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية؛ فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)). فمن ادعى النبي بعد محمد -صلى الله عليه وسلم فقد افترى على الله الكذب كما قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ} [الأنعام: 93]. عن ثوبان قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)).
ودلائل نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم كثيرة؛ أفردها بعض أهل العلم بمصنفات عظيمة مطولة، وأعظم دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم وأبقاها على مدار الزمان القرآن الكريم الذي تحدى به العرب أجمعين، أن يأتوا بشيء من مثله؛ فعجزوا بل إنهم لم يحاولوا لعلمهم اليقيني بعجزهم قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ هَـَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـَكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37] وقال سبحانه: {قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] وقال سبحانه: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(23) {فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24].
يعني: اتقوها بالإيمان بالقرآن الكريم وبمن أنزل عليه، وهو محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد شهد الله -عز وجل- لمحمد -صلى الله عليه وسلم بأنه رسوله حقًّا؛ فمن كفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم فهو كافر حتى بجميع المرسلين الذين يزعم أنه قد آمن بهم قال الله تعالى: {إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}(150) {أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً} [النساء: 150، 151].
هذا وإن الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا؛ يقتضي التسليم المطلق والتام لما جاء به، أو أخبر عنه، ويقتضي تصديقه وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه، دون حرج أو ضيق أو مناقشة أو جدال، أو تعقيب أو أخذ البعض وترك البعض الآخر؛ فإن كل هذه الأشياء تناقض مقتضى الإيمان به -صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا؛ ولهذا جاءت النصوص القرآنية كلها تؤكد وتبين هذه الأمور وغيرها، التي هي مقتضيات الإيمان بنبوته -صلى الله عليه وسلم فمن هذه النصوص الواردة في القرآن العظيم قول رب العالمين سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ}(31) {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ فإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32] {مّنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80] {إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] {وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً} [الأحزاب: 36]. فهذه النصوص وأمثالها في القرآن كثير تذكر المؤمنين بمقتضى إيمانهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا؛ وبلوازم هذا الإيمان، فمرة تأمرهم بطاعته؛ لأن طاعته طاعة لله -عز وجل-، وإن جزاء المطيعين جنات النعيم، وإن جزاء المخالفين عذاب النار.
وطورًا تبين لهم أن الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم يستلزم أخذ ما أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه، وإنما يقضي به -صلى الله عليه وسلم واجب الطاعة لا خيار فيه للمسلم؛ وإن الرجوع عند الاختلاف يجب أن يكون إلى الله والرسول -صلى الله عليه وسلم وأن الإيمان الحقيقي بمحمد -صلى الله عليه وسلم يستلزم الرضا بما يحكم ويقضي به ويخبر عنه.
وإن حق الرسول -صلى الله عليه وسلم على أتباعه عظيم.
فمن حقه علينا:
أولًا: محبته أكثر من النفس والولد، والأهل والمال والناس أجمعين؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين)).
ثانيًا: توقيره -صلى الله عليه وسلم وتبجيله واحترامه حيًّا وميتًا قال الله تعالى: {لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] لأن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم ليس كواحد من الناس إنه رسول الله، وعلى الناس أن يوقروه ويجلوه ويشرفوه، حتى في ندائهم له؛ فعليهم أن يقولوا له: “يا أيها النبي” و”يا أيها الرسول”؛ فإن الله -عز وجل- الذي خلقه وسواه وبعثه لم يناده باسمه المجرد أبدًا؛ فأولى بذلك وأحق أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم {آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].