الركن الرابع: الإيمان بالكتب
الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين ركن من أركان الدين كما قال الله تعالى: {لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـَكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ} [البقرة: 177] وقال تعالى: {آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، وفي حديث جبريل المشهور حين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
وقد أمرنا الله تعالى -نحن المسلمين- بالإيمان بالكتب التي أنزلها على المرسلين السابقين فقال سبحانه: {قُولُوَاْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ وَعِيسَىَ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]، وقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، وكذلك أمر الله تعالى أهل الكتاب بالإيمان بما أنزل إلينا فقال -عز وجل-: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيَ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ}(40) {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيّايَ فَاتّقُونِ} [البقرة: 40، 41]. وعلّق الله سبحانه وتعالى هداية أهل الكتاب على إيمانهم بمثل ما آمنا فقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، والإيمان بالكتب معناه: الإيمان بكل ما أنزل الله من كتاب على وجه العموم والإجمال كما قال الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15].
ثم من الإيمان بالكتب الإيمان بما سمى الله تعالى منها في القرآن الكريم على وجه الخصوص؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يسمِّ كل كتاب أنزله على المرسلين في القرآن الكريم، وإنما سمى بعضها وسكت عن أكثرها؛ فمن الإيمان بالكتب الإيمان بكلها على وجه العموم والإجمال، والإيمان بالبعض المسمى في القرآن على وجه الخصوص والتعيين. ومن الكتب التي سماها الله تعالى في القرآن: التوراة، والإنجيل، وزبور داود، وصحف إبراهيم وموسى قال تعالى: {نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}(3) {مِن قَبْلُ هُدًى لّلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 1- 4]، وقال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء: 163]، وقال تعالى: {إِنّ هَـَذَا لَفِي الصّحُفِ الاُولَىَ}(18) {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ} [الأعلى: 18، 19].
ومن الجدير بالذكر أن أهل الكتاب قد غيروا كتبهم وحرفوها، وزادوا فيها ونقصوا منها، أخبرنا ذلك رب العالمين الذي أنزل تلك الكتب، وهو بكل شيء عليم قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]، وقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَـَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وإذا ثبت أن أهل الكتاب حرفوا كتبهم فلا يجوز الجزم بأن شيئًا فيها بعينه هو كلام الله -عز وجل-.
وإن كُنّا نؤمن بعموم الكتاب وأنه من عند الله؛ فنحن نؤمن بأن الله -تعالى- أنزل على موسى التوراة، وأنزل على عيسى الإنجيل، لكن لا نستطيع أن نجزم بشيء في التوراة، ولا في الإنجيل بأنه بنفسه كلام الله -عز وجل-؛ لأن الله أخبرنا أنهم حرفوا وغيروا وبدلوا وزادوا ونقصوا.
أما القرآن الكريم فهو محفوظ بحفظ الله من التغيير والتبديل، قال تعالى: {إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمّا جَآءَهُمْ وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}(41) {لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42]، ومن يكفر بالقرآن فهو كافر بالله سبحانه، قال تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99] أي: الخارجون عن الإيمان إلى الكفر وقال تعالى: {وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}(89) {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ} [البقرة: 89، 90].
ومن الإيمان بالقرآن الكريم اتباعه والعمل به، والتّحاكم إليه قال الله تعالى: {الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 121]، وللمفسرين في تأويل حق التلاوة أقوال:
أولها: أنهم تدبروه؛ فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما.
وثانيها: أنهم خضعوا عند تلاوته وخشعوا عند قراءته في صلاتهم وخلواتهم.
وثالثها: أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه، وفوضوه إلى الله تعالى.
ورابعها: أنهم يقرءونه كما أنزل الله، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتأولونه على غير حق.
وخامسها: أن تُحمل الآية على كل هذه الوجوه؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد وهو تعظيمها والانقياد لها لفظًا ومعنًى، فوجب حمل هذا القدر المشترك تكثيرًا لفوائد كلام الله تعالى.
وعن ابن عباس -رضي الله عنه-قال: { يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } يتبعونه حق اتباعه”، ثم قرأ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} [الشمس: 2]، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-قال: {حَقّ تِلاَوَتِهِ} أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزل، ولا يُحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا غير تأويله”.
وللقرآن الكريم أثره الكبير في حياة المؤمن، فالله تعالى سمى القرآن الكريم نورًا وهدى ورحمة وشفاء، قال الله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مّنَ الْهُدَىَ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، وقال سبحانه: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ}(15) {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]، وقال سبحانه: {يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا فِي الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وقد جعله الله -تبارك وتعالى- روحًا تحيا به أرواح بني آدم فقال -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، فإذا كانت الروح هي سر حياة الأبدان؛ فإن روح الأرواح هو القرآن الكريم، فمن آمن بالقرآن الكريم واتبعه فهو حي، ومن كفر بالقرآن الكريم وكذبه فهو ميت، وإن كان يدبّ على وجه الأرض؛ قال الله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
وقد ضمن الله -تبارك وتعالى- القرآن الكريم كل ما يحتاجه الناس إليه في دينهم ودنياهم وآخرتهم، قال الله سبحانه: {مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال سبحانه: {وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ} النحل: 89]، وقال سبحانه: {إِنّ هَـَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. يهدي للتي هي أقوم على وجه العموم والشمول، لا على وجه الخصوص؛ فالقرآن لا يهدي للتي هي أقوم في مسألة دون مسألة، ولا يهدي للتي هي أقوم في أمر دون أمر، ولا يهدي للتي هي أقوم في مشكلة دون مشكلة ولا في قضية دون قضية، ولكن القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل القضايا، وفي كل المشاكل، وفي كل الوقائع والأحداث والأمور. فعزّة المؤمن في اتباع القرآن، وسعادته في التمسك به، وطمأنينة قلبه في قراءته وتلاوته: {الّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].