الرواية بالمعنى وأقوال العلماء حولها، والمقارنة بينها وبين الرواية باللفظ
الأصل في الرواية نقل الألفاظ على ما هي عليه؛ ولا يتم اللجوء إلى الرواية بالمعنى إلا إذا غاب اللفظ عن الذاكرة مع بقاء معناه في إطار السياق المحفوظ، فيستبدله الراوي بلفظ آخر يقوم مقامه، وقد يعبر عن الجملة كلها بتعبير يؤدي نفس المعنى الذي تحمّله الراوي؛ فتزيد ألفاظها أو تنقص عن الألفاظ التي كان عليها ما تحمله الراوي.
ويشترط للتسامح في ذلك, واعتباره ما يلي:
– أن يكون الراوي متمكنًا من اللغة العربية من حيث دَلالات الألفاظ مفردة ومركبةً؛ فإذا زاد لفظًا فلزيادة التوضيح، وإذا نقص لفظًا فلأنه لا أثرَ له في أداء المعنى، وإذا عبر عن جملة مكان جملة وفى بمقصود الجملة الأصلية وإن اختلف التعبير.
– أن يكون من العارفين بأساليب الشارع, ومقاصده وأحكامه.
والمقارنة بين الروايات المتعددة للحديث الواحد تبين ما اتفق الرواة عليه من ألفاظ المتن، وما روي بالمعنى من هذه الألفاظ.
وممن عني بذلك عناية طيبة من التابعين ابن سيرين، روى البخاري بسنده عن ابن جريج أن أيوب أخبره قال: سمعت ابن سيرين يقول: جاءت أم عطية -امرأة من الأنصار من اللاتي بايعن النبي -صلى الله عليه وسلم-, قدمت البصرة تبادر ابنًا لها فلم تدركه- فحدثتنا قالت: دخل علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نغسل ابنته -أي: بعد وفاتها- فقال: ((اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئا من الكافور؛ فإذا فرغتنَّ فآذنني)) قالت: فلما فرغنا ألقى إلينا حقوه، فقال: ((أشعرنها إياه)) ولم يزد على ذلك، ولا أدري أي بناته؟ وزعم أن الإشعار: الفُفْنَها فيه؛ وكذلك كان ابن سيرين يأمر بالمرأة أن تشعر ولا تؤزر.
فعرف ابن سيرين في روايته بأم عطية وسبب قدومها البصرة، وبين أنه سمع معه هذا الحديث غيره، وأنها قالت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أشعرنها إياه)) وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يزد على ذلك، وبين أنه لا يدري أي بناته، ولم تبين هي في الحديث ذلك، وبين معنى الإشعار؛ وذكر أيوب أنه كان يطبِّق الحديث ويأمر بتطبيقه.
وروى البخاري بسنده عن ابن عون, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إحدى صلاتي العشي -قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة, ولكن نسيت أنا- فصلى بنا ركعتين ثم سلّم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبَّك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كتفه اليسرى، وخرجت السَّرَعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة, وفي القوم أبو بكر وعمر فهابَا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له: “ذو اليدين”, قال: يا رسول الله، أنسيتَ أم قصرت الصلاة؟ قال: ((لم أنسَ، ولم تُقْصَر))، فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر؛ فربما سألوه ثم سلم, فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم.
ففي هذه الرواية أيضًا يذكر ابن سيرين أن أبا هريرة سمى الصلاة؛ ولكنه نسي ما سماه أبو هريرة، ولم يذكر شيئًا عما نسي ولو على سبيل الشك أو على سبيل الترجيح، وذلك يدل على شدة عنايته برواية ما وصل إليه على ما وصل إليه؛ فإن نسي شيئًا منه بيّن ذلك ولم يأتِ ببديل له ولو كان محققًا للمقصود. ثم إنه أيضًا يراعي التفصيلات الدقيقة من كيفية وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده اليمنى على اليسرى، والتشبيك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كتفه اليسرى؛ فنقل ذلك كله عن أبي هريرة كما ذكره له ووعاه، وأيضًا حينما يسألون عن السلام من سجود السهو بعد السجدتين؛ لم يسمع من أبي هريرة شيئًا في ذلك, فينسب إلى غيره ما عنده عنه، ويقول: “نبئت” ولا يجزم بذلك؛ لأنه لم يرد أن يذكر من أخبره بذلك، أو لم يستحضر من أخبره بذلك؛ فلم ينسب إلى أبي هريرة ما لم يقل، وإن ثبت عن غيره؛ بل ينسب القول إلى قائله، ولا يصل الرواية؛ بل ينسبها إلى مَن أنبأه بها، ولا يذكر من أنبأه؛ لأنه لم يكن يذكره أو رأى حاجة إلى ذكره؛ لشهرة الحديث عن عمران, ولأن التسليم من سجود السهو حكم خاص بذاته يُعتنى به، اعتنى بذكره، واعتنى الراوي عنه بأنه أحيانًا كان يُسأل؛ فيذكر عن عمران ذلك، وأحيانًا كان لا يسأل فلا يذكر شيئًا عن ذلك.
ويروي مسلم بسنده عن أيوب وهشام عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي))، ويروي عن جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من رآني في النوم فقد رآني؛ فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي))، وفي رواية عن جابر: ((فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي))، وروى البخاري بسنده عن ثابت عن أنس أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتخيل بي)).
وهي روايات متعاضدة لا تختلف إلا في بعض الألفاظ، لكن رواية محمد بن سيرين يظهر جانب الترجيح فيها من ناحية الاختصار، ومن ناحية أن القول بأن الشيطان يتمثل أقرب إلى القول بأنه يتخيل، أو لا ينبغي أن يفعل كذا، أو أن يتشبه… والاختلافات اللفظية لا أثر لها في معاني الجمل والمراد من الحديث؛ ولذلك فالرواية باللفظ هنا لا تكاد تختلف في الحقيقة عن الرواية بالمعنى. لكن أبا سلمة فيما رواه البخاري يروي عن أبي هريرة, عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “من رآني في المنام؛ فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي”، ويرويه مسلم من طريقه بلفظ: “فسيراني في اليقظة -أو لكأنما رآني في اليقظة”، وروى البخاري ومسلم عن الزهري أنه قال: قال أبو سلمة: قال أبو قتادة: قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من رآني فقد رأى الحق)).
وظهر من ذلك كله أن رواية: “فسيراني في اليقظة” قيلت على الشك؛ شك في روايتها أبو سلمة، وهي مخالفة لكل الروايات مغايرة لها؛ ومن أجل ذلك لا تكون رواية بالمعنى؛ بل تكون مخالفة تقتضي التوقف في قَبولها، وهو ما انتهى إليه ابن حجر في شرح هذه الروايات بعد جَهد طويل في النقل والتأويل والتعليل، وظهر بذلك ضبط ابن سيرين ومن وافقه، وأمانة الزهري في نقل الروايات مع تعليله الرواية المشكوك فيها برواية أبي سلمة نفسه عن أبي قتادة باليقين، وروايته مرة أخرى بالشك في هذه اللفظة.
وكل ما ذكرناه في هذا الجانب أردنا به أن نبين ضبطَ ابن سيرين ورعايتَه للألفاظ، والفرقَ بين الرواية باللفظ والرواية بالمعنى، والخطأ في الرواية.
ويروي مسلم عن محمد بن رُمْح عن الليث, عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد عن ابن عباس أنه قال: “ذُكِرَ التلاعن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-…” فذكر الحديث بطوله، ثم روي بسند آخر: عن ابن عباس أنه قال: “ذكر المتلاعنان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-…” بمثل حديث الليث، وزاد فيه بعد قوله: “كثيرَ اللحم”: “جعدًا قططًا”.
فالإمام مسلم قارن بين الروايتين وذكر اختلاف الراويين عن يحيى بن سعيد في بدء الحديث، وفي زيادة لفظين في إحدى الروايات، مع اتفاق الروايتين فيما عدا هذا الاختلاف، وهو تدقيق يزيد عن الحاجة إلى اتفاق الروايات فيما يشتمل عليه الحديث، والخلاف في اللفظ دون المضمون.
أي: إذا زاد بعض الرواة بعض الألفاظ في الحديث, مما لا أثر له في الحديث ولم يذكر الآخر ذلك، لا تكون الرواية بالمعنى؛ وإنما يروي كل واحد ما تحمله على الوجه الذي تحمله، ولا تعارضَ بينهما؛ لأن الراوي قد يفوته بعض الألفاظ في الرواية مما لا يؤثر في مضمون الحديث، والبعض الآخر يتيقظ بهذه الزيادة؛ فكل منهما روى ما تحمله على ما تحمله بلفظه، ولم يروِ واحد منهما بالمعنى.
وقد روى الإمام مسلم حديث اللعان أيضًا بسنده إلى محمد بن سيرين قال: سألت أنس بن مالك وأنا أرى أن عنده منه علمًا؛ فذكر له أنس الحديث مختصرًا، وتتحد رواية أنس مع رواية ابن عباس في مضمون القصة، لكن ابن عباس لا يذكر اسم الزوج أو المدَّعَى عليه، وأنس يذكر ذلك وأن الولد أشبه المدعى عليه، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نبه إلى متابعة الشبه.