Top
Image Alt

الرواية في الصحيحين عن المدلسين

  /  الرواية في الصحيحين عن المدلسين

الرواية في الصحيحين عن المدلسين

خرج الإمام البخاري في صحيحه وكذا الإمام مسلم في صحيحه أحاديث من رواية المدلسين؛ كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأعمش وغيرهم؛ بل خرج لهؤلاء بألفاظ ليست نصًّا في السماع؛ كـ: قال، وعن، وغير ذلك.

وقد أجاب ابن الصلاح والنووي وغيرهما من العلماء على هذه المسألة: بأن الأحاديث المعنعنة التي في الصحيحين لها حكم الاتصال؛ لأنه ثبت سماع الرواة المعنعنين من الذين عنعنوا عنهم عندهم من طرق أخرى، أو أن بعض المعنعنين كان لا يدلس إلا عن ثقة؛ كسفيان بن عيينة، وإذا كان صاحب (الصحيح) قد اختار طريق العنعنة على طريق التصريح بالسماع؛ لكونها على شرطه دون تلك.

قال الإمام النووي: واعلم أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بـ”عن” ونحوها؛ فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وقد جاء كثير منه في الصحيحين بالطريقين جميعًا؛ فيذكر رواية المدلس بـ”عن” ثم يذكرها بالسماع، ويقصد به هذا المعنى الذي ذكرته.

مسائل تتعلق بالحديث المدلَّس والمدلِّسين:

المسألة الأولى: أجناس المدلسين:

قسَّم الحاكم أبو عبد الله النيسابوري المدلسين إلى ستة أقسام، وأطلق على كل قسم “جنسًا”:

الجنس الأول: من دلس عن الثقات الذين هم في الثقة مثل المحدث أو فوقه أو دونه إلا أنهم لم يخرجوا من عداد الذين تقبل أخبارهم، فمنهم من التابعين: أبو سفيان طلحة بن نافع، وقتادة بن دعامة، وغيرهما.

الجنس الثاني: قوم يدلسون الحديث؛ فيقولون: قال فلان؛ فإذا وقع إليهم من ينقر عن سماعاتهم ويلح ويراجعهم؛ ذكروا فيه سماعاتهم؛ مثال ذلك: ما أخرجه الحاكم بسنده عن علي بن خشرم قال: قال لنا ابن عيينة عن الزهري. فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: لا؛ ولا ممن سمعه من الزهري: حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري.

الجنس الثالث: قوم دلسوا على أقوام مجهولين لا يدرى مَن هم ومِن أين هم، مثال ذلك: ما أخرجه الحاكم بسنده عن علي بن المديني قال: حدثني حسين الأشقر حدثنا شعيب بن عبد الله عن أبي عبد الله عن نوف قال: بت عند علي… فذكر كلامًا، قال ابن المديني: فقلت لحسين: ممن سمعت هذا؟ فقال: حدثنيه شعيب عن أبي عبد الله عن نوف. فقلت لشعيب: من حدثك بهذا؟ فقال: أبو عبد الله الجصاص. فقلت له: عمن؟ قال: عن حماد القصار. فلقيت حمادًا فقلت له: من حدثك بهذا؟ قال: بلغني عن فرقد السبخي عن نوف؛ فإذا هو قد دلس عن ثلاثة وأبو عبد الله الجصاص مجهول، وحماد القصار لا يدرى من هو، وبلغه عن فرقد، وفرقد لم يدرك نوفًا ولا رآه.

الجنس الرابع: قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين؛ فغيروا أساميهم وكناهم كي لا يُعرفوا، وهذا هو تدليس الشيوخ، وسبق الكلام عنه.

الجنس الخامس: قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير، وربما فاتهم الشيء عنهم؛ فيدلسونه، مثال ذلك: ما أخرجه الحاكم بإسناده عن يحيى بن سعيد قال: حدثنا صالح بن أبي الأخضر، قال: حديثي منه ما قرأت على الزهري، ومنه ما سمعت، ومنه ما وجدت في كتاب، ولست أفصل ذا من ذا، قال يحيى: وكان قدم علينا؛ فكان يقول: حدثني الزهري… حدثنا الزهري.

قال الحاكم: ومن هذه الطبقة: جماعة من المحدثين المتقدمين والمتأخرين مخرج حديثهم في (الصحيح) إلا أن المتبحر في هذا العلم يميز بين ما سمعوه وما دلسوه.

الجنس السادس: قوم رووا عن شيوخ لم يشاهدوهم قط ولم يسمعوا منهم؛ إنما قالوا: قال فلان؛ فحمل ذلك منهم على السماع، وليس عندهم سماع عالٍ ولا نازل.

وبعد أن ذكر الحاكم هذه الأجناس قال: قد ذكرت في هذه الأجناس الستة أنواع التدليس ليتأمله طالب هذا العلم؛ فيقيس بالأقل على الأكثر، ولم أستحسن ذكر أسامي من دلس من أئمة المسلمين؛ صيانة للحديث ورواته؛ غير أن أدل على جملة يهتدي إليها الباحث عن الأئمة الذين دلسوا والذين تورعوا عن التدليس: وهو أن أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي ليس التدليس من مذهبهم، وكذلك أهل خراسان والجبال، وأصبهان وبلاد فارس، وخوزستان، وما وراء النهر لا يعلم أحد من أئمتهم دلسوا، وأكثر المحدثين تدليسًا: أهل الكوفة، ونفر يسير من أهل البصرة. وأما مدينة السلام بغداد؛ فلم يذكر عن واحد منهم التدليس إلا أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي الواسطي؛ فهو أول من أحدث التدليس بها؛ ومن دلس من أهلها إنما تبعه في ذلك.

المسألة الثانية: مراتب المدلسين، والمدلسون على خمس مراتب:

المرتبة الأولى: من لم يوصف بالتدليس إلا نادرًا؛ كالإمام الجليل يحيى بن سعيد بن فروخ القطان، الذي قال فيه الإمام النسائي مع تشدد النسائي: ثقة ثبت مرضي، وقال فيه أبو حاتم: حجة حافظ.

المرتبة الثانية: ما كان تدليسه قليلًا بالنسبة لما روى، مع إمامته وجلالته وتحريه؛ ولذلك احتمل الأئمة تدليسه، وخرجوا له في الصحيح: كالإمام الجليل سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الذي قال فيه شعبة وابن معين: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وهذه أعلى مرتبة يصل إليها المحدث.

وكالإمام الجليل سفيان بن عيينة الذي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدًا أعلم بالسنة من ابن عيينة؛ فهؤلاء الأئمة وأمثالهم وإن كان قد وقع التدليس منهم؛ إلا أنهم لا يدلسون إلا عن الثقات؛ لذلك قبل العلماء ما رواه هؤلاء العلماء بصيغة من الصيغ التي تحتمل التدليس؛ كـ: عن، وقال، وغير ذلك؛ وإن كان الأفضل والأحسن أن يذكر الراوي اسم شيخه -وإن كان ثقة عنده؛ ليرى كل فيه رأيه؛ فقد يكون ثقة عنده ضعيفًا عند غيره، وقد يكون هذا الغير اطلع على جرح لم يطلع عليه تلميذه.

المرتبة الثالثة: قوم أكثروا من التدليس؛ ومع ذلك لم يتقيدوا في تدليسهم عن الثقات؛ بل دلسوا عن الثقات والضعفاء؛ لذلك اختلف العلماء في الاحتجاج بحديثهم؛ فمن العلماء من لم يحتج بحديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقًا، ومنهم من قبلهم مثل حميد بن أبي حميد الطويل، صاحب أنس مشهور، كثير التدليس عنه؛ حتى قيل: إن معظم حديثه عنه بواسطة ثابت وقتادة، ووصفه بالتدليس النسائي وغيره، وقد وقع تصريحه عن أنس بالسماع والتحديث في أحاديث كثيرة في (صحيح الإمام البخاري) وغيره.

المرتبة الرابعة: قوم أكثر تدليسهم عن الضعفاء أو المجاهيل؛ كبقية بن الوليد الحمصي: فأهل هذه المرتبة لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ لكثرة تدلسيهم على الضعفاء والمجاهيل.

المرتبة الخامسة: قوم دلسوا؛ ومع ذلك انضم إليهم بأمر آخر سوى التدليس؛ قال الحافظ ابن حجر: فحديثهم مردود -ولو صرحوا بالسماع- إلا من كان ضعفه يسيرًا؛ كعبد الله بن لهيعة.

ملحوظتان:

الملحوظة الأولى: أطلق بعض العلماء على تدليس الشيوخ تزيينًا: قال الإمام السيوطي: منع بعضهم إطلاق اسم التدليس على تدليس الشيوخ، وقالوا: إنه تزيين، وليس بتدليس، ثم قال: روى البيهقي في (المدخل): عن محمد بن رافع قال: قلت لأبي عامر: كان الثوري يدلس؟ قال: لا، قلت: أليس إذا دخل بلدًا يعلم أن أهلها لا يكتبون حديث رجل؛ قال: حدثني رجل، وإذا عرف الرجل بالاسم كناه وإذا عرف بالكنية سماه؟ قال: هذا تزيين وليس بتدليس.

الملحوظة الثانية: قال الحافظ ابن حجر: يلتحق بالتدليس ما يقع من بعض المحدثين من التعبير بالتحديث أو الإخبار عن الإجازة؛ موهمًا للسماع -ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئًا.

أهم الكتب التي صنفت في التدليس والمدلسين:

أولًا: (التبيين لأسماء المدلسين) للإمام الحافظ أبي إسحاق برهان الدين سبط بن العجمي الشافعي، المتوفى في سنة إحدى وأربعين وثمانمائة من الهجرة.

رتب الحافظ برهان الدين أسماء المدلسين على حروف المعجم في الاسم واسم الأب ليسهل الوصول إليهم.

ثانيًا: (طبقات المدلسين) للإمام الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن محمد المعروف بابن حجر العسقلاني، المتوفى في سنة اثنين وخمسين وثمانمائة من الهجرة، وهو الكتاب المسمى: (تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس).

استمد الحافظ ابن حجر هذا الكتاب من كتاب: (جامع التحصيل) للإمام صلاح الدين العلائي مع زيادات زادها الحافظ ابن حجر. قسم الحافظ ابن حجر المدلسين إلى خمس مراتب وبين حال أصحاب كل مرتبة؛ ورتب أصحاب كل مرتبة على حروف المعجم ليسهل الوصول إليهم.

ثالثًا: (أسماء المدلسين) للحافظ جلال الدين السيوطي، المتوفى في سنة إحدى عشر وتسعمائة من الهجرة. رتب الحافظ السيوطي أسماء المدلسين على حروف المعجم ليسهل الوصول إليها.

error: النص محمي !!