Top
Image Alt

الرواية والقصة القصيرة؛ جذورها التاريخية وسماتها الأدبية

  /  الرواية والقصة القصيرة؛ جذورها التاريخية وسماتها الأدبية

الرواية والقصة القصيرة؛ جذورها التاريخية وسماتها الأدبية

القصة -طويلة كانت أو قصيرة- فن من الفنون الأدبية القديمة؛ إذ لا أظن أن مجتمعًا بشريًّا -قديمًا أو حديثًا- يمكن أن يخلو من هذا الفن، فحُبّ القصص نزعة فطرية في النفس الإنسانية، ولعل أقدم كتابة نقدية في هذا الموضوع هي ما كتبه أرسطو في كتابه (فن الشعر) عند كلامه عن الملحمة والمسرحية، ذلك أن الملحمة والمسرحية كلتاهما فن قصصي، كل ما في الأمر أن الملحمة كانت تنظم شعرًا، وأن المسرحية تقوم على الحوار، فلا سرد فيها إلا في أضيق نطاق، وذلك حين يضع المؤلف ملاحظاته السريعة الموجزة قبل بعض المشاهد كي يهتدي بها المُخرج لدن تحويلها من عمل مكتوب إلى تمثيل حي على المسرح، فضلًا عن أن المسرحية كانت تكتب أيام أرسطو شعرًا، وإن كتبت بعد ذلك نثرًا أيضًا.

وفي كل من الملحمة والقصة والمسرحية، الحوادث والشخصيات والحوار والعقدة والحل والبناء الفني، كما أن المواصفات التي يراعيها المبدع في كل فن من هذه الفنون، لا تكاد تختلف بشكل جذري عما ينبغي مراعاته في الفنين الآخرين.

وقد قال أرسطو في كتابه (فن الشعر): “إنّ كُلّ ما يَصْدُق على المَلحمة يصدق على المأساة، اللهم في أنّ المَلحمة لا تنظم إلا في بحر واحد من بحور الشعر، كما أنها تتخذ الشكل السردي، علاوة على أن المأساة محكومة في طولها الزمني، بدورة الشمس حول الأرض مرة واحدة، أي: بأرْبع وعشرين ساعة أو أزيد قليلًا إن كانت ثمة حاجة إلى ذلك، على حين أن زمن الملحمة مفتوح.

ولأن العناصر الموجودة في الملحمة هي نفسها تقريبًا العناصر الموجودة في المسرحية؛ نجده يؤكد أن من يستطيع الحكم الفني على إحداهما يستطيع الحكم على الأخرى، وبالمثل نراه يذكر أن المؤلف -أي: مؤلف- قد يروي قصته من خلال ضمير الغائب، أو من خلال ضمير المتكلم، أو من خلال ترك الشخصيات تتصرف أمامنا مباشرة.

والأسلوب الأخير هو أسلوب المسرحية، أما الأسلوب الأول فأسلوب “هومر في شعره الملحمي”، إلّا أنه لم يضرب لنا مثلًا يوضح به كيفية تقديم الشخص نفسه من خلال ضمير المتكلم.

والمسرحية تتكون عنده من: الحبكة، والشخصية، واللغة، والفكرة، والمنظر، والأغنية، وفي رأيه أن الحبكة أهم من رسم الشخصيات، وأساسها عدم تضمين العمل المسرحي والملحمي أي عنصر لا يضر العمل حذفه، وألا نحذف من العمل أي عنصر من شأنه أن يصيب العمل بالتفكك والانهيار عند هذا الحذف، كذلك لا بد في رأيه أن يكون كل حدث مترتبًا على الحدث السابق عليه.

وبالنسبة إلى الشخصيات ينبغي أن تكون شخصيات حقيقية ممن نقابلها في الحياة، وأن ينم كلامها وسلوكها عليها وينسجم معها، وأن تكون متسقة مع نفسها… إلى آخر ما كتب ذلك الفيلسوف عن المواصفات التي لا بد من مراعاتها في كتابة المسرحية والملحمة، وهو أساس النقد القصصي عند الأوربيين وعند غير الأوربيين.

ومما قرأناه في المادتين الخاصتين بالقصة القصيرة والرواية في بعض المعاجم الإنجليزية والفرنسية، يتبينُ لنا أن فن القصص قديمٌ قدم الإنسان لم تخلُ مِنه أمّة، وأنه يقوم على سرد الأحداث، وتصوير الشخصيات والحبكة، وأنه كان يعتمد في انتشاره على الحكي الشفاهي، ثم تَدخل الرسم والكتابة في عملية التسجيل.

وكانت الأدوات المستخدمة في هذا قديمًا هي الحجر، وجدران الكهوف، والجلود، وجذوع الأشجار، وكل ما يمكن الاستعانة به في هذا الصدد، وأنه كان وما زال يتغي التسلية والتعليم والدعاية ونشر القيم التي يتمسك بها المجتمع، فضلًا على التضليل أيضًا في بعض الحالات، وأن الرواية فن مرن منفتح غير جامد، فهي كما تكتب نثرًا قد تكتب شعرًا، وهي قد تكون طويلة كما قد تكون قصيرة أيضًا.

والمهم ألا تبلغ من القصر ما يحول دون إصدارها في كتاب على حدة، وهي تتأبى على الشكل المحدد، والأسلوب المحدد والموضوع المحدد على عكس الأشكال الأدبية الأخرى، فضلًا على أنها تتسع لعناصر غير قصصية: كالرحلات والتراجم، والتاريخ والصحافة، وهذا هو السبب في أنها استطاعت أن تزيح الأجناس القصصية الأخرى، وتحل محلها.

لكني لا أحب أن يكون الكلام هكذا، وأوثر أن يقال: إن الرواية مجرد شكل من أشكال الفن القصصي المتعددة؛ كالملحمة والرومانس التي تشبه عِندنا السيرة الشعبية، إذ العناصر في كل هذه الأشكال -ولا أقول الأجناس- واحدة، ألَا وهِي الأحداث والشخصيات، والحوار، والزمان والمكان، والحبكة.

أما أن الملاحم مثلًا كانت تقوم على الخرافات والخوارق وما إلى هذا، على حين أن الرواية وهي فن علماني لمجتمع علماني، كما جاء في المادة المخصصة لها في قاموس “أكسفورد” الأدبي تتغي الواقعية، فالرد على ذلك شديد السهولة؛ إذ إن القدماء لم يكونوا ينظرون إلى تجسد الآلهة وتعددهم، وتصرفهم كما يتصرف البشر، وتخلقهم بأخلاق البشر، وتزاوجهم فوق ذلك مع البشر، ولا إلى الخوارق والمعجزات، والغرائب والوقائع، والشخصيات الأسطورية على أنها أمور غير حقيقية، بل على أن هذا هو الواقع الفعلي.

وإذا اعترض بأن الملاحم كانت تصاغ شعرًا، فها هو ذا كاتب المادة يقول: إنّ الرِّواية قد تصب في قالب الشعر هي أيضًا، ثم ها نحن ذا نعود هذه الأيام؛ فنكتُب الرِّواية على مذهب الواقعية السحرية، وواقعية الخرافات والخوارق والعجائب والغرائب، كما كان الحال في السير الشعبية وألف ليلة وليلة مثلًا.

بل إنّ الكَاتِب ليذهب إلى أن العمل مثل “ساتر الكون” الذي ظهر في القرن الأول قبل الميلاد لـ”بترونيا سنوماني” يمكن أن يعد رواية، وإن أضاف أن العرف قد استقر على أن “دونك شو” التي صدرت في أول القرن السابع عشر الميلادي للكاتب الأسباني “سيلفنس” هي أول رواية بالمعنى الحقيقي.

وفي التفرقة بين الرواية والقصة القصيرة رأينا كتاب هاتين المادتين يستندون أساسًا إلى معيار الطول، إذ ينبغي ألا تزيد القصة القصيرة في الحجم بحيث يمكن أن تطبع في كتاب مستقل كما هو الحال مع الرواية، وهو ما يَستتبعُ أن تكونَ المِسَاحَةُ التي تتحرك فيها القصة القصيرة أَضيق، ومن ثم يهبط عدد الأحداث والشخصيات فيها إلى أقل حد ممكن، حدث واحد وشخصية أو شخصيتان.

كما ينسب فن الرواية إلى أصله البعيد وهو الحكايات الشفوية التي كانت أساسًا لملحمتي “هوميروس” وهي نقطة جد هَامّة يسرني أن يتلاقى معها رأيي الحالي، الذي انتهيت إليه بعد تفكير طويل في هذه المسألة، وهو أن كل ما نعرفه من أشكال قصصية، فمرجعه إلى القصص والحكايات البَعِيدة الضّاربة في أعمق أعماق التاريخ، تلك القصص والحكايات التي تتخذ في كل عصر، وربما أيضًا بين الشعوب والطبقات المختلفة في العصر الواحد شكلًا مختلفًا، فيظن بعض الدارسين إننا إيذاء جنس جديد، وما هو بالجنس الجديد في حقيقة الأمر بل شكل من الأشكال التي اعتورت ذات الجنس على مدار تاريخه الطويل.

وفي مادة “روما” من قاموس “لاروس” العالمي الكبير طبعة باريس، سنة 1865م، نقرأ أن الرواية فن قديم قدم الإنسانية نفسها، وإن تغير شكله من عصر إلى آخر، ويقول دكتور “محمد غنيمي الهلال” في كتابه (الأدب المقارن): “إن النّثر القصصي في الآداب العالمية قد تأخر ظهروه بالنسبة إلى المَلاحِم والمسرحيات، وإنه كان أقل الأجناس الأدبية خضوعًا للقواعد وقيود النقد”.

وهذا معناه: أنّه يُفرق تفرقة جوهرية بين الملاحم والقصص، وهو ما لا أوافقه عليه، علاوة على أنني لا أظن أنه قد أتى على الناس حين من الدهر، لم يكونوا يعرفون رواية القصة والاستماع إليها، والاستمتاع بها، كذلك نراه يبدأ كلامه عن تاريخ الفن القصصي النثري بالكلام عن الإغريق وكأنهم هم رواد هذا اللون من الأدب، مع أن القصص المصري القديم يسبق ما وصلنا عنهم بزمن طويل.

إذ نرى كاتبنا يرجع أول النثر القصصي اليوناني إلى القرن الثاني قبل الميلاد، على حين يعود القصص المصري إلى ما قبل هذا التاريخ بأشواط طوال، كما يعرفُ ذلك كل من له أدنى اتصال بالتاريخ المصري القديم، وبِمَا بَلغنا عنه من قصص كقصة “سنوحي” و”الفلاح الفصيح” و”الأخوان” و”الأميرة والشحاذ” وفيها شيء غير قليل من التماثل مع قصة “حسن ونعيمة” المشهورة.

و”الملاح التائه” وهي تذكرنا بما سوف نقرؤه في قصتي “حي بن يقظان” و”روبونسون كروزو” بعد ذلك، من عيش أحد الأشخاص وحده لفترة طويلة على جزيرة غير مأهولة، وقصة الاستيلاء على يافا التي كتبت في عهد “تحتمس الثالث” وتتضمن حيلة للاستيلاء على المدينة، تشبه الحيلة التي لجأ إليها فيما بعد أصحاب “حصان طروادة”، إذ وضع بطل القصة جنوده في براميل مثقوبة للتهوية محمولة على ظهور البغال، وما إن دخلت البغال المدينة حتى قفز من داخل البراميل الجنود المختفون واستولوا عليها.

وكذلك القصص الشعبية التي تتناول الصراع الأبدي بين القط والفأر، ولكن على طريقة “توم وجيري”، حيث يغلب الفأر القط في كثير من الأحيان، وهو ما سبق به المصريون القدماء رسامي “الكرتون” الأمريكيين المعاصرين صاحبي فكرة توم وجيري… إلخ.

ولا يعني هذا أن القصص المصري هو أقدم قصص في الدنيا، بل كل ما أقصده أنه قد وصلنا عن المصريين القدماء قصص سابق في الزمان عن القصص الإغريقي، والسؤال هو: منذ متى عرف الأدب العربي فن القصص؟ وفي الجواب عن هذا نقول: إن بعض الدارسين يميلون إلى القول بأن القصة أحد الفنون الأدبية الطارئة على الأدب العربي، استمدها من الآداب الغربية في العصر الحديث.

وهذا رأي خطير، ففي التراث الأدبي الذي خلفه لنا أسلافنا قصص كثير: منه الديني، ومنه السياسي، ومنه الاجتماعيُّ، ومنه الفلسفي، ومنه الوعظي، ومنه الأدبي، ومنه ما وضع للتسلية ليس إلا، ومنه الواقعي ومنه الرمزي، ومنه المسجوع المجنس، ومنه المترسل، ومنه المحتفى بلغته والبسيط المنساب، ومنه الطويل مثل رسالة “النمر والثعلب” لسهل ابن هارون، ورسالة “التوابع والزوابع” لابن شعيب، و”رسالة الغفران” ورسالة “الصاهب والشاهب” للمعري، و”سلامان وأبسال” ورسالة “الطير” لابن سينا، ورسالة “حي ابن يقظان” لكل من ابن سينا وابن الطفيل والسهروردي، وقصص ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة وسيرة سيف بن ذي يزن.

ومنه القصير كالحكايات التي ترص بها كتب الأدب والتاريخ المختلفة، وجمع طائفة كبيرة منها “محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البيجاوي، ومحمد أحمد جاد المولى” في أربعة مجلدات كبار، و”كليلة ودمنة” لابن المقفع، و”البخلاء” للجاحظ، و”الفرج بعد الشدة” و”مشوار المحاضرة” للقاضي التنوخي، و”المقامات” و”عرائس المجالس” للثعالبي، و”مصارع العشاق” للسراج القاري، و”سلوان المطالع في عدوان الأتباع” لابن ظفر الصقلي، والمكافأة لابن الداية، و”غرر الخصائص الواضحة وعرر النقائض الفاضحة” للوطواط، و”المستطرف من كل فن مستظرف” للإبشيهي، و”عجائب المقدور في أخبار تيمور”، و”فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء” لابن عرب شاه، وبعض قصص ألف ليلة وليلة أيضًا.

وما ذكره ابن النديم في (الفهرست) من كُتب الأسمار الخرافية التي تُرجمت عن الفارسية والهندية واليونانية، أو رُويت عن ملوك بابل، أو ألفت بالعربية؛ فكانت حوالي 140 كتابًا، المؤلف منها بلسان العرب فقط نحو 80 كتابًا، كلها في أخبار العشاق في الجاهلية والإسلام، ودعنا مما ألف بعد ذلك.

ومنه النثري كالأمثلة السابقة، والشعري كشعر الشنفرى عن لقائه بالغول، وقصيدة الحطيئة و”طاوي ثلاث عاصب البطن مرمل”، وكثير من قصائد عمر بن أبي ربيعة، وأبيات الفرزدق عن الذئب، ورائية بشار، ومغامرات أبي نواس الخمرية، وقصيدة المتنبي عن مصارعة بدر بن عمار للأسد.. إلخ.

على أن ليس معنى ذكر الكتب والمؤلفات في هذا السياق أن الفن القصصي لم يعرف عند العرب إلا في عصر التدوين، بعد أن انتشر نور الإسلام، وتخلص العرب من الأمية، وأصبحوا أمة كاتبة قارئة مثقفة كأحسن ما تكون الأمم ثقافة وتحضرًا، بل كان هذا الفن معروفًا قبل ذلك في الجاهلية.

وهذا الحكم يستند:

أولًا: إلى أن حب القصص نزعة فطرية لا يمكن أن يخلو منها إنسان، فضلًا عن مجتمع كامل كالمجتمع العربي قبل الإسلام. وفي مادة “Story Telling” في “الويكيبيديا” يؤكد كاتبها عن حق أن جميع المجتمعات البشرية قديمًا وحديثًا قد عرفت رواية القصص.

وثانيًا: إلى أن لدينا قصصًا كثيرًا تدور وقائعه في الجاهلية، وينتسب أبطاله إليها، وقد اقْتَصَر دَورُ الكُتّاب الأمويين والعباسيين على تسجيل ذلك القصَص، وقد يكُونون تدخلوا بأسلوبهم في صياغته، وهذا أبعد ما يمكن أن تكون أقلامهم قد وصلت إليه، ومن الواضح أن هذا القصص يصور المجتمع العربي قبل الإسلام تصويرًا لا يستطيعه إلا أصحابه.

أما ما يقوله بعض المستشرقين، ويتابعهم عليه بعض كتاب العرب من أن العرب ينقصهم الخيال والعاطفة، وأنهم من ثم لم يعرفوا فن القصص؛ فأقَلُّ مَا يُقال فيه: هو أنه سخف وتنطع، إذ الميل إلى القصص هو ميل غريزي لدى كل البشر، كما أن الخيال والعواطف هي هبة من الله لم يحرم منها أمة من الأمم، بل كل الأمم فيها سواء.

ومن ذلك ما زعمه المستشرق البريطاني “ديلاسي أوليري” في كتابه (Arabia before Mohammed) من أن العربي ضعيف الخيال جامد العواطف، وإن كان الدكتور أحمد أمين قد عقب على ذلك في كتابه (فجر الإسلام) بأن الناظر في شعر العرب، وإن لم ير فيه أي أثر للشعر القصصي أو التمثيلي، أو الملاحم الطويلة التي تشيد بذكر مفاخر أمة كـ”إلياذة هوميروس” و”شهنامة الفردوسي”، سوف يلاحظ رغم ذلك براعة الشاعر العربي في فن الفخر والحماسة والغزل والوصف والتشبيه والمجاز، وهو مظهر من مظاهر الخيال.

كما أن بكاء ذلك الشاعر للأطلال والديار، وذكره للأيام والحوادث، ووصفه لشعوره ووجدانه، وتصويره لالتياعه وهيامه كل ذلك دليل على تمتعه بالعواطف الحية.

ويُردد أحمد حَسن الزيات في (تاريخ الأدب العربي) شيئًا قريبًا مما قاله “أوليري” وإن اختلفت مُسَوّغاته، إذ من رأيه أن مزاولة هذا الفن تقتضي الروية والفكرة، والعرب أهل بديهة وارتجال، كما تتطلب الإلمام بطبائع الناس، وهُم قد شغلوا بأنفسهم عن النظر فيمن عاداهم، فضلًا عن احتياج ذلك الفن إلى التحليل والتطويل، على حين أنهم أشد الناس اختصارًا للقول، وأقلهم تعمقًا في البحث، مع قلة تعرضهم للأسرار البعيدة والأخطار الشديدة.

ثم إنّ هذا الفن هو نوع من أنواع النثر، والنثر الفني ظل في حكم العدم أزمان الجاهلية وصدر الإسلام؛ حتى آخر الدولة الأموية حين وضع ابن المقفع الفارسي مناهج النثر، وفكر في تدوين شيء من القصص.

بيد أن عددًا من كبار النقاد ومؤرخي الأدب عندنا تولى تفنيد هذه المهمة المتسرعة، التي أن صحت، وهي لا يمكن أن تصح، كان معناها أن الله I حين خلق الخيال والروية كتب على كل منهما لافتة تقول: ممنوع اللمس، للأوربيين فقط. والحق أنني لا أدري كيف فكر أصحاب هذا الزعم العجيب الذي لا يقول به العقل، ولا الذوق ولا التاريخ، ولا الواقع ولا الشواهد.

وثمة خبرٌ أورَده المسعودي في (مروج الذهب) عن معاوية يدل على أنه كان هناك منذ خلافته على الأقل تدوين كتابي لما كان الجاهليون يروونه من قصص وحكايات وأسمار، وأنّ هذا التدوين من ثم لم ينتظر حتى مجيء العصر العباسي -كما يقول الدكتور شوقي ضيف- وهذا هو النص المذكور، وقد ورد في سياق كلام المسعودي عن المنهج الذي كان معاوية يتبعه في إنفاقِ سَاعاتِ يومه نهارًا وليلًا، وهو خاص بسماع العاهل الأموي أخبار العرب وأيامها في الجاهلية.

يقول: “ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسِيَر ملوك الأمم وحروبها، ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطُّرَفُ الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك، وأخبارها والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتَّبون، وقد وُكِّلوا بحفظها وقراءتها، فتمرّ بسَمْعه كلَّ ليلة جُمَلٌ من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات، ثم يخرج فيصلي الصبح، ثم يعود فيفعل ما وصفنا في كل يوم”.

ولدينا أيضا كتاب (أخبار عَبِيد بن شَرِيّة الجُرْهُمِيّ في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها) الذي سَجّل فيه مؤلفه؛ ما كان يقع بينه وبين معاوية بن أبى سفيان من حوادث تاريخية، وكان معاوية قد استقدمه؛ ليستمع منه إلى أخبار ملوك اليمن.

ويذكر ابن النديم أن عَبِيدًا وَفَد على معاوية؛ فسأله العاهل الأموي عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة وأَمْر افتراق الناس في البلاد، وكان قد استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه إلى ما سأل، فأمر معاوية أن يدوَّن ذلك ويُنْسَب إلى عبيد. وهو الكتاب الذي يؤكد المسعودي أنّ صاحبه هو الوحيد الذي صَحّ وفوده على معاوية من رواة أخبار الجاهلية”.

واللّافِتُ للنّظر أنّ الأغلبية من كُتّاب القِصّة ونقادها في بدايات العصر الحديث بأرض الكنانة مثلًا، لم ينظروا إلى القصة على أنها شيء جديد، بل على أنها امتداد للقصص العربي القديم إن لم تكن هي هو، وهذا واضح مما كتبه رفاعة الطهطاوي في مقدمة ترجمته لرواية “فلينون” التي عنوها بـ”مواقع الأفلاك في وقائع تليماك” إذ قال: إنها موضوعة على هيئة مقامات الحريري في صورة مقالات”.

كما يقارن عبد الله النديم في مقال له بمجلة “الأستاذ” بتاريخ 10 يناير 1893م الأسلوب الذي كتبت به رواية سعيد البستاني “ذات الخدر” بأسلوب السير الشعبية، ويدافع عنها على هذا الأساس، كذلك كان حظ إبراهيم حين ترجم رواية “هوجو” “البؤساء” لينظر إلى عملِه على أنه امتداد لما كان العرب يعملونه في العصر العباسي، من نقل القصص الأجنبي القديم إلى لسانهم.

وهذا الكلام متاحٌ لِمن يَطْلُبه في مقدمة الترجمة المذكورة، وهو نفسه ما قاله تقريبًا جورج زيدان في الجزء الرابع من كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية)، وإن أضاف أن القصص العصري ينحو نحو الواقعية التي تلائم روح العصر.

وها هنا نقطة لا أريد أن أفوت الفرصة دون التعرض لها، وهي قول الدكتور محمد غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن): “إنه لم يكن للفن القصصي في الأدب العربي القديم شأن يذكر، وإن كبار الأدباء كانوا يتركونها لغيرهم من الوعاظ، وكتاب السير والوصايا، وهذا كلام غير صحيح بالمرة، ويكفي في تفنيده أن ننظر في أسماء كتاب القصة في أدبنا القديم التي أوردتها آنفًا لنجد أسماءً كسهل بن هارون، وابن المقفع، والمعري، وابن شعيب، والهمذاني، والحريري، وابن طفيل، والقاضي التنوخي، والثعالبي، وابن عرب شاه. أفليس هؤلاء من كبار أدباء العرب في تلك العصور، بل من كبار كبارهم؟!. والطريف أنه هو نفسه سوف يذكر بعد قليل بعض تلك الأسماء في سياق حديثه عن تأثير القصص العربي القديم في الأدب الأوربي.

كذلك لا نستطيع أن نوافقه -رحمه الله- على نسبته فضل التأليف القصصي، أو على الأقل الريادة فيه إلى مسلمة الفرس، ممن كانوا -كما يقول- يعرفون اللغتين، مشيرًا إلى أنهم كانوا يفيدون من اطلاعهم على قصص “الشهنامة”، وهو بطبيعة الحال يقصد تاريخ ملوك فارس القديمة لا “الشهنامة” التي ألفها الفردوسي في ذات الموضوع؛ لأن هذه “الشهنامة” ما كان لها وجود في ذلك الوقت بعد كما هو معروف، إذ لم يبدأ الفردوسي تأليفها إلا في الثلث الأخير من القرن الرابع الهجري.

ويلاحظ هنا أنّ هِلال لم يحاول أن يُقَدّم لنا ولو شاهدًا واحدًا على دعواه إفادة أولئك الكتاب من سير ملوكهم، وبالمناسبة نراه يشير ضمن هذا السياق بالهامش إلى ما وردت به أسباب نزول الآيتين السادسة والسابعة من سورة لقمان اللتين تتحدثان عن النضر بن الحارث، وما كان يصنع في التشويش على الدعوة المحمدية في أوائلها، إذ كان يأتي بقصص رستم واسفنديار، حتى أذا وجد النبي في مجلس من مجالس قريش يدعوهم إلى دينه الجديد، جاء هو وقرأ عليهم تلك القصص زاعمًا أنها أفضل مما جاء به الرسول عليه السلام. فهلال يتخذ من هذا شاهدًا على تسرب قصص “الشاهنامة” إلى بلاد العرب في تلك الفترة المبكرة من تاريخها.

وفي حديثه عن “ألف ليلة وليلة” نجده يشير إلى ما استقاه كتابها من العناصر الفارسية، والهندية والإغريقية، مع تغليب العناصر الفارسية، وإن يكن قد أبرز أيضًا ما يفيض به ذلك العمل من إبداعات عربية ومصرية، أضيفت إلى أصله الأجنبي.

وفي المقالة الثامنة من كتاب (الفهرست) لابن النديم، وتحت عنوان “الفن الأول في أخبار المسامرين، والمخرفين وأسماء الكتب المصنفة في الأسمار”، يطالعنا هذا النص المهم الذي يتحدث عن الأصل الفارسي لألف ليلة، إذ نقرأ أن: “أول من صنف الخرافات، وجعل لها كتبًا، وأودعها الخزائن، وجعل بعض ذلك على ألسنة الحيوان الفرسُ الأُوَل ثم أرخ في ذلك ملوك الأشغانية، وهم الطبقة الثالثة من ملوك الفرس، ثم زاد ذلك واتسع في أيام ملوك الساسانية، ونقلته العرب إلى اللغة العربية، وتناوله الفصحاء والبلغاء، فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه.

فأول كتاب عُمِلَ في هذا المَعنى كتاب (هزار أفسان) ومعناه: ألف خرافة. وكان السبب في ذلك أن ملكًا من ملوكهم كان إذا تزوج امرأة وبات معها ليلة، قتلها من الغد، فتزوج بجارية من أولاد الملوك ممن لها عقل ودراية، يقال لها: “شهرزاد”، فلما حصلت معه، ابتدأت تخرّفه وتصل الحديث عند انقضاء الليل، بما يحمل الملك على استبقائها، ويسألها في الليلة الثانية عن تمام الحديث، إلى أن أتى عليها ألف ليلة، وهو مع ذلك يطؤها إلى أن رزقت منه ولدًا فأظهرته، وأوقفته على حيلتها معه، فاستعقلها ومال إليها واستبقاها، وكان للملك قهرمانة يقال لها “دنيازاد” فكانت موافقة لها على ذلك”.

وقد قيل: إن هذا الكتاب ألف لحمان ابنة بهمن، وجاءوا فيه بخبر غير هذا، والصحيح -إن شاء الله- أن أول من سمر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يضحكونه ويخرفونه، لا يريد بذلك اللذة، وإنما كان يريد الحفظ والحرس، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب (هزار أفسان) ويحتوي على ألف ليلة، وعلى دون المائتي سمر، لأن السمر ربما حدث به في عدة ليال، وقد رأيته بتمامه دفعات”. ومع هذا كله فقد حكم ابن النديم على كتاب (ألف ليلة) بأنه “بالحقيقة كتاب غثّ بارد الحديث”.

وبالنسبة إلى (رسالة الغفران) نرى الدكتور محمد غنيمي هلال يسوق احتمالًا مرسلًا لم يعضده بأي شاهد ولا بأي دليل أو مرجع، وهو: أنّ أبا العلاء قد يكون متأثرًا بكتاب “أرده ويراف نامة” الفارسي الذي يحكي رحلة موبذان من “زرادشتي” إلى الجحيم، وبالمثل يرى من المحتمل أن يكون لقصة “أبسال وسلامان” المتصلة بقصة “حي بن يقظان” لابن سينا أصل يوناني.

أما فن المقامة، فهو كما يؤكد فن عربي أصيل، على أنه لم يكتف بهذا بل مضى، فتناول انتقال تلك الأعمال بدورها إلى اللغات والآداب الأخرى، وتأثيراتها فيها، وبخاصة الأوربية منها، فقد تُرجمت “حي بن يقظان” لابن الطفيل إلى العبرية في القرن الرابع عشر الميلادي، ثم إلى اللاتينية في القرن السابع عشر، ثم إلى الإنجليزية، كما ترجمت في سنة 1920م إلى الروسية، ثم إلى الفرنسية أوائل الثلث الثاني من القرن العشرين، وكان لهذه القصة تأثير شديد في قصة “كريتيكود” للكاتب الإسباني “جراسيان” الذي عاش في النصف الأول من القرن السابع عشر.

وإن أضاف أننا لا نعرف الطريق الذي تأثر من خلاله “جراسيان” بالقصة العربية؛ لأنها لم تترجم إلى أي لغة أوربية قبل عام 1671م، أي: بعد وفاة “جراسيان”، إلا أنه مع هذا يستبعد أن تكون وجوه التماثل بين العملين مجرد مصادفة، وبخاصة أن المستشرق الإسباني “جارسيا جوميز” يؤكد أن قصة ابن الطفيل اكتسبت شعبية كبيرة في عهد “جراسيان” من قبل ترجمتها إلى اللاتينية، ومن ثم يقرر أن الكاتب الإسباني لا بد أن يكون قد اطلع على القصة في أصلها العربي.

كذلك يضيف هلال أن قصة ابن الطفيل قد لقيت رواجًا كبيرًا لدى الفلاسفة الأوربيين، خصوصًا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكذلك “الرومانتيكيون” في القرن التاسع عشر، إذ كان هؤلاء وهؤلاء يعتقدون أن الإنسان قادر بفطرته وحدها على الاهتداء للفضائل، وهي الفكرة التي تدور حولها “حي بن يقظان” كما هو معروف.

كذلك ترجمت “ألف ليلة وليلة” إلى الفرنسية في أوائل القرن الثامن عشر، ثُمّ تُرجمت إلى سائر اللغات الأوربية بعد ذلك تاركة آثارًا متنوعة في فنون الأدب المختفلة هناك، إذ شَدّ الأُدباء “الرومانتيكيين” إليها ما كانت تشتمل عليه من موضوعات كانت تشغلهم، كالهروب من واقع الحياة إلى عالم السحر، والتهكم على الملوك، وترجيح العاطفة على العقل متمثلة في “شهرزاد” التي ردت “شهريار” الملك عن وحشيته لا بالمنطق العقلي بل بالعاطفة.

ثم يزيد الدكتور هلال قائلًا: “إنّ حكايات ألف ليلة وليلة بعيدة في مستواها الفني عن القصة في معناها الحديث”، وهذه الملاحظة الأخيرة لا داعي لها حتى ولو كانت صادقة، إذ ليس مطلوبًا من أي فن أو شخص أن يسبق عصره، وأن يمتثل بدهر الغيب لمواصفات عصر مقبل لا يزال في ضمير الغيب، وإلا لم يكن هناك عمل جديد بالرضا لأن ما هو مقبول اليوم سوف يتغير الرأي فيه غدًا حين تجد على الساحة مواصفات فنية أخرى.

على أن كلامي هنا لا يَعني أن أدبَ كُلّ عصر لا يمكن أن يلبي متطلبات العصور المقبلة بالضرورة، إذ لا يمنع هذا من تحقق تلك المتطلبات المستمرة في كلها أو بعضها، وهذا لو كانت ملاحظته صحيحة، وهي للأسف ليست كذلك، إذ إن من بين حكايات ألف ليلة ما يصمد بالمقارنة مع القصة الحديثة قصيرة كانت أم طويلة.

ولا ننسى ما أخذنا نسمع به منذ عدة عقود من الواقعية السحرية، ذلك المذهب الذي أتانا من أمريكا الجنوبية، واستقاه أدباؤها من ذلك العمل الساحر.

فإما المقامة فهي كما يقول: “حكاية يسودها شبه حوار درامي وتحتوي على مغامرة يرويها أحدهم عن بطلها الذي قد يكون شجاعًا متقحمًا للأخطار، أو ناقدًا للأوضاع والاجتماعات والسياسية، أو عالمًا متضلعًا بمسائل الدين أو اللغة، لكنه في كل الأحوال تقريبًا متسول ماكر مستهتر، ولوع بالملذات، يحتالُ للحصول على مال ممن يخدعهم، فضلًا عن أنه أديب مجيد”.

وفي المقامة أيضًا وصف للعادات والتقاليد السائدة حينذاك في الطبقتين الدنيا والوسطى، وقد تأثر الأدب الفارسي بالمقامات متمثلًا في القاضي “حميد الدين البلخي”، وإن لم يحتذ في مقاماته مقامات البديع والحريري احتذاءً كاملًا، وبخاصة في اشتمالها على المناظرات، واتسامها بالطابع الصوفي.

كما أثرت المقامات العربية في الآداب الأوربية أيضًا على نحو واسع، إذ غزت قصة “الشطار” الإسبانية سواء من ناحية الفن أو من ناحية الوزن نزعة الواقعية التي تسودها، ثم انتقل تأثيرها إلى سائر الآداب في القارة العجوز، فساعدت الكتاب على هجر قصص الرعاة لتحل محلها القصص التي تتناول العادات والتقاليد، وتنحو نحو الواقعية والقضايا الاجتماعية.

وفي هذا السياق يحسُن أن نورد ما كتبه “صلاح الدين الصفدي” في كتابه (نصرة الثائر على المثل السائر) عن مقامات الحريري؛ إذ قال: “ويحكى أن الفرنج يقرؤونها على ملوكهم بلسانهم، ويصورونها ويتنادمون بحكاياتها”. وما ذَاك إِلّا أن هذا الكتاب أحد مظاهر تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها تطلعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة، هذا إلى ما فيها من الحِكَم والأمثال التي تشاكل كتاب (كليلة ودمنة) وإلى ما فيها من أنواع الأدب، وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة.

وبالنسبة إلى التشابه القوي الحاصل بين “رسالة الغفران” للمعري و”الكوميديا الإلهية” للشاعر الإيطالي ” دانتي أليجيري” ذلك العملين الذي يصور كل منهما رحلة إلى العالم الآخر؛ فإن الدكتور “محمد غنيمي هلال” يعزوه إلى تأثر دانتي بحكاية الإسراء والمعراج، التي من الممكن أن يكون المعري هو أيضًا قد استلهمها، فكان هذا التّشابه بين عمله وعمل الشاعر الإيطالي، إذ لم يثبت أن دانتي قد اطلع على رسالة المعري، وإن كان هلال قد خلع على الشاعر العربي الكبير قصب السبق عليه في تناول مثل تلك الرحلة؛ نظرًا للمسافة الزمنية الطويلة التي تفصل بين الشاعرين.

والمقرر الآن فعلًا بين الباحثين: أن دانتي قد اطلع على قصة المعراج قطعًا، لكن هل معنى هذا أنْ نَجْزِمَ بأنّه لم يتأثر بالمعري؟ الحق أنّ ذلك غيرُ لازم، فمن المحتمل أن يكون قد قرأ المعري لكن لم يخلف وراءه أثرًا يدل على ذلك الاطلاع.

error: النص محمي !!