السنة بمناهجها في عصر الرسول
حرص الرسول على تعليم الصحابة:
من المعلوم أن الحديث في عصر الرسول e كان يعتمد على أدائه وعلى تحمل الصحابة له؛ ففيما يتصل بالأداء نربطه بعصره e وفيما يتصل بالتحمل نربطه بعصر الصحابة رضوان الله عليهم، وقد حرص الرسول e على تعليم الصحابة، وعلى أن يعلّموا غيرهم ما يتعلمونه منه، فرغّب في العلم وحثّ على تحصيله ورفع مكانة المعلم والمتعلم، قال e: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)).
وحذّر الرسول e من الحياء الذي يمنع من تعلم العلم على الوجه الأمثل، والمشاركة المعتبرة في تحصيله، كما أنذر المعرض عن التعلم مع تمكنه منه ببعده عن رعاية الله له وعنايته به؛ فعن أبي واقد الليثي: أن رسول الله e بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله e وذهب واحد، فوقفا على رسول الله e فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله e قال: ((ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله إليه، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه))، وهذا الموقف ومثله مما سنذكره هو الأصل في قواعد تلقي الحديث وأدائه، التي اعتمدها العلماء بعد ذلك وفصّلوها في مصطلح الحديث.
وشجع الرسول e وفودَ الناس وطلاب العلم على تحصيله؛ لينوبوا عنه في مناطقهم مبلّغين معلمين، بعد تزكيتهم بما تعلّموه سواء أكانوا جماعات أم فرادى، قال أبو رفاعة: “انتهيتُ إلى رسول الله e وهو يخطب، فقلتُ: يا رسول الله، غريب يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه! فأقبل رسول الله e إليّ وترك خطبته حتى انتهى إليّ، فأُتي بكرسي خِلت قوائمه حديدًا، فقعد رسول الله e عليه فجعل يعلمني مما علمه الله U ثم أتى خطبته فأتم آخرها” وظهر ذلك في علم هذا الصحابي, وفي عمله كما قال من روى عنه.
وروى البخاري بسنده عن أبي سليمان مالك بن الحويرث, أنه قال: أتينا النبيe ونحن شَبَبَةٌ متقاربون -أي: في السن- فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه -وكان رفيقًا رحيمًا- فقال: ((ارجعوا إلى أهليكم، فعلّموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذّن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم)) وأقاموا عنده عددًا من الأيام, حتى تعلّموا ما طالبهم بإخبار أهلهم عنه.
وبذل الرسول e جهده في التعاليم حتى اطمأن إلى سلامة الحركة العلمية، وقدرتها على التوسع والاستمرار، فكان نبراس المعلّمين وقدوة المحدّثين، فعن عائشة <: أن امرأة سألت النبي e عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل، قال: ((خذي فِرْصَة من مسك فتطهري بها))، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: ((تطهري بها)) قالت: كيف أتطهر بها؟ قالت: فاستتر هكذا, فقال: ((سبحان الله! تطهري بها))، قالت عائشة: فاجتبذتُها إليّ، فقلتُ: تتبعي بها أثر الدم. فظهر في مثل هذا الموقف أثر تعليمه أهل بيته في تعليم غيرهن من النساء, مع عدم التبذل في التعليم والخروج به عن العرف الإسلامي في مجال التعامل مع المتعلمين, وفي مجال الخطاب.
وكان النبي e يعلّم الصحابة التشهُّد والاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن، وعلّمهم بعض صيغ الاستعاذة بالله تعالى كما تُعلّم الكتابة، وعلمهم كثيرًا من الدعاء، فتنوع تعليمه e بين تحفيظ ما يحتاج إلى حفظ، وبين ذكر ما يُكتفى فيه بالفهم لمن لا يستطيع الحفظ؛ وبذلك جمع بين الطريقتين واستعمل الحسنيين، وكان ذلك سببًا في حفظ ما حفّظه للصحابة بنصّه، وتعبيرهم عما تحدث عنه إذا فهموه غاية الفهم, واستطاعوا التعبير عما فاتهم حفظه عنه e.
وقد بعث الرسول e المعلّمين إلى المناطق التي لا يتيسر لأهلها متابعة التعلم منه مباشرة؛ فبعث أبا عبيدة بن الجراح إلى اليمن بناء على طلب أهلها، وبعث كذلك معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن أيضًا، وقام ولاته والعاملون على الزكاة ورسله إلى المناطق المختلفة بالمساهمة المؤثرة في نشر الحديث وتعليم السنة، وكانوا من صفوة الصفوة وأهل الثقة والاعتبار، وتم ذلك كله بإشراف الوحي الإلهي الذي يصحح الخطأ إذا ظهر ويوجّه إلى الصواب.
ولأهمية تحمل السنة وتحصيلها، والتماس السبل الموصّلة لذلك -وصف e أبا هريرة بالحرص على العلم، وسُرّ بسؤاله المؤيد لذلك الدال عليه، وقال: ((والذي نفس محمد بيده، لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي؛ لما رأيت من حرصك على العلم)) وهي منقبةٌ لأبي هريرة، ودليلٌ على تفرّس الرسول e فيمن يطلب العلم، ومعرفة أحرصهم على تحصيله، واتجاه ما يُطلب تحمله من الحديث. ولما شكا أبو هريرة للنبي e ما يفوته من الحديث؛ لعجزه عن تحصيله وتحمله عاونه وساعده وأمدّه وأيده، يقول أبو هريرة: “قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: ((ابسط رداءك))، قال: فبسطته، قال: فغرف بيديه ثم قال: ((ضمه))، فضممتُه فما نسيتُ شيئًا بعد”. وهذا يدل على أن أبا هريرة ما كان يهمّه ما يحصله في ذهنه من الحديث، وإنما كان يأسى على ما لم يستطع تحصيله منه؛ لأنه يريد تحصيل كل ما يصدر عن الرسول e من غير أن يضيع أي شيء منه، ولما علم الرسول e بحرصه على الحديث ورغبته في هذا الجمع لأكثره -بل لكل ما يرد على أذنه أو على سمعه- غرف بيديه في الثوب وألقاه في ثوبه، فثبت ما يسمعه أبو هريرة في وعيه ولم يطرأ عليه نسيان، وكأن هذا من الرسول e جمعٌ لما يصدر منه في وعي أبي هريرة وفي ذهنه، وقد شهد له الصحابة بذلك، وأكثر من رواية الحديث؛ لأن عنده من المخزون من الحديث ما ليس عند غيره، فاجتمعت عوامل الحافظة القوية وعوامل المساعدة النبوية، وانضم الجهد البشري إلى التوفيق الإلهي، وهو ما لم يحظَ به أحدٌ في مجال تحمّل الحديث وتحصيله كما حظي به أبو هريرة.
خصائص المحدّثين كما حددها الرسول e:
ومن خصائص المحدثين على ما بينه الرسول e: أن ينضبط فهم المحدث وتتحدد المفاهيم لديه، فلا يحصّل ما لا يعرف، ولا يتحمل ما لا يميز مما يرد عليه من زيادة أو يطرأ عليه من نقصان، وذلك لازمٌ لسلامة الأداء، فالأداء بحسب التحمل مع الأمانة والرعاية وعدم الخروج عن آداب وقواعد المحدّثين.
روى بُريدة > قال: بعث النبي e عليًّا إلى خالد ليقبض الخمس، قال: وكنت أبغض عليًّا وقد اغتسل قبل أن يأتي إلى رسول الله e, فظنّ أن ذلك خروج عن الأمانة، قال: فقلت لخالد: ألا ترى هذا؟ كأنه يريد أن يستشهد به إذا احتاج إلى الشهادة، قال: فلما قدمنا على النبي e ذكرتُ ذلك له، فقال: ((يا بريدة، أتبغض عليًّا؟)) قال: فقلتُ: نعم، قال: ((لا تبغضه؛ فإن له في الخمس أكثر من ذلك)).
فالرسول e كان يستكشفُ ما وراء الإخبار من أحوال القلوب، وكان يوضّح الحقيقة لمن يريد أن يستوضح عنها، ويضيف إلى ذلك علاج القلب وسلامته؛ لأن ذلك من الوسائل المهمة لحفظ الحديث ومعرفة السنة على ما هي عليه، وتدخل الأحوال الشخصية فيما يتصلُ بفهم الحديث أو روايته، أو الاستدلال به يعوقُ في أحيانٍ كثيرة عن الوصول إلى حقيقته، ولا بد للمحدِّث من سلامة القلب مما يتصلُ ويؤثر في رواية الحديث، فالخطأ في التحمل يؤدي إلى الخطأ في الأداء، ومخالفة الراوي لما ثبتَ عمن هو أوثق منه سببٌ في الحكم بالشذوذ في الرواية أو نكارة الحديث.
وفي حديث عثمان بن مالك: فجاء -أي: الرسول e-وأبو بكر وعمر، فتسامعت به الأنصار فأتوه، وتخلّف رجلٌ منهم يقال له: مالك بن الدخشم، وكان يُزَنّ -أي: يتهم- بالنفاق، فاحتبسوا على طعام فتذاكروا بينهم، فقالوا: ما تخلّف عنا وقد علم أن رسول الله e زارنا إلا لنفاقه! ورسول الله e يصلي، فلما انصرف قال: ((ويحه! أما شهد أن لا إله إلا الله بها مخلصًا؛ فإن اللهU حرّم النار على من شهد بها)) فنبه على أن من شرط الشهادتين الإخلاص وعدم النفاق، وأن تحمل المنافق مختلٌّ، وأداءه مخالفٌ لفساد تحمّله.
ومن خصائص المحدث أيضًا: ألا يتلاعب في الأداء، فيتعمد التغيير أو يحدث بما يشك فيه، أو بما لا يتأكد من ضبطه له. روى الطبراني بسنده عن هشام بن أبي رقية اللخمي، قال: سمعت مسلمة بن مخلد، وهو قاعد على المنبر وهو يقول: أيها الناس، أما لكم في الذهب والكتان ما يغنيكم -أي: عن الحرير-؟ أيكم يخبر عن رسول الله e؟ قم يا عقبة, فقام عقبة بن عامر وأنا أسمع فقال: إني سمعت رسول الله e يقول: ((من كذبَ عليّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار)) وأشهدُ أني سمعته يقول: ((من لبس الحرير في الدنيا؛ حرّمه أن يلبسه في الآخرة)).
وعن عبد الله بن عمرو, أن النبي e قال: ((ومن كذبَ عليّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار))، وقال e: ((نضّر الله امرَأً سمع منا حديثًا, فحفظه فأداه إلى من هو أحفظ منه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))، وقال عثمان >: ما يمنعني أن أحدّث عن رسول الله e ألا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكني أشهد لسمعته يقول: ((من قال علي ما لم أقل؛ فليتبوأ مقعده من النار)) وعثمان > وإن كان من أوعى أصحاب النبي لما صدر عنه، لكن أبا هريرة -كما سبق أن ذكرنا- فاق بدعاء الرسول e له، ووضعه ما وضع من العلم؛ ليتيسر له تحصيله.
ومن خصائص المحدث: أن يتفاعل مع ما يتحمله، وأن يرتبط عنده بالجوّ الذي ورد فيه؛ ففي حديث السبعين ألفًا: ((لا حساب عليهم ولا عذاب))، فقام إليه عُكَّاشة بن محصن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم, فقال e: ((اللهمّ اجعله منهم))، ثم قام إليه رجل آخر قال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال: ((سبقك بها عكاشة)) وسبب السبق هنا هو قوة التجاوب, وسرعة الاستفادة والتفاعل مع ما يصدر عن الرسول e.
وعن عبد الله بن سلام قال: “تذاكرنا بيننا، فقلنا: أيكم يأتي رسول الله e يسأله: أي الأعمال أحب إلى الله U؟ قال: فهبنا أن يقوم منا أحدٌ، فأرسل إلينا رجلًا رجلًا حتى جمعنا، فجعل يشير بعضنا إلى بعض، فقرأ علينا: {سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1) {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 1، 2] من أولها إلى آخرها”.
ومن خصائص المحدث: ألا يكتم علمه عند الحاجة إليه، وتعيُّن ذلك عليه، قال تعالى: إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَىَ مِن بَعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ}(159) {إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التّوّابُ الرّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]، وقال سبحانه: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(174) {أُولَـَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ} [البقرة: 174، 175]، فكتمُ العلم عند الحاجة إليه قد يُوازي تغييره عما هو عليه عند أدائه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن رسول الله e قال: ((من كتم علمًا؛ ألجمه الله تعالى بلجام من نار)), وعن أبي رافع عن النبي e أنه قال: ((لا ألفينَ أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: ما أدري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه))، أي: يترك أوامر الرسول e ونواهيه مما لم يرد في القرآن الكريم, مدعيًا أنه عامل بالقرآن الكريم وبما ورد فيه، وهو ادعاء غير صحيح؛ لأن الأصل الأصيل لما ورد في السنة في القرآن الكريم، ولا يستطيع كل واحد أن يدرك ذلك؛ ومن أجل ذلك فصّل الرسول e ما احتاج إلى تفصيل من القرآن، وبيّن ما احتاج إلى بيان، وطبقه على الوجه الذي ينبغي تطبيقه، وفتح مجال التعامل مع النصوص والاستفادة منها.