Top
Image Alt

الشبهات التي تثار حول الحدود في الإسلام

  /  الشبهات التي تثار حول الحدود في الإسلام

الشبهات التي تثار حول الحدود في الإسلام

والحقيقة أن الكثير من العقلاء -إن لم يكن العقلاء جميعًا- يجزمون في دخيلة نفوسهم، بأن خير علاج للقضاء على الجريمة، وأن أحسن ما ينبغي أن يكون من العلاج، إنما هو العلاج الذي وضعه العليم الخبير، الذي خلق الإنسان، ويعلم ظاهر أمره وباطن سره { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

والناس يرغبون في ذلك أشد الرغبة؛ بل ويعلنون عن رغبتهم كلما سنحت لهم فرصة، بيد أن الشيطان وجنوده يقيمون في سبيل ذلك العراقيل والشُّبه، ويلقون بالموانع التي تكل أمامها عزائم الكثيرين إلا من عصم الله، ومن ثم نذكر نوعًا من تلك الشُّبه في نظر أصحابها، وهي شُبه واهية أمام الحق الساطع والعدل الرادع، ثم نناقش تلك الشبه بشيء من العقلانية.

الشبهة الأولى: فزعم من قال بها: أن في إقامة الحدود نوعًا من القسوة والعنف التي تتنافى مع الإنسانية الرحيمة، ومع الشفقة التي يجب أن يتحلى بها الناس، والتي تساير المدنية الحديثة، والحضارة الراقية المهذبة. وللرد عليها، أو المناقشة نقول: كل ما في هذه الشبهة كلمتان: أنها قسوة، وأن القسوة لا تليق بالإنسان، نقول لهم: نعلم أن في إقامة الحدود مظهرًا من مظاهر الشدة التي تسمونها قسوة، ولا بد لكل عقوبة أن يكون فيها مظهر قسوة أيًّا كانت، حتى ضرب الرجل لولده تأديبًا وتهذيبًا، يمكن أن تقول: فيه مظهر قسوة، وإذا لم تشتمل العقوبة على شيء من القسوة، فأيّ أثر لها في الزجر والردع؟!

والشاعر الحكيم يقول:

فقسا لتزدجروا ومنْ يكُ حازماً


*فَليَقْسُ أحياناً وحيناً يَرْحَمُ

ثم تعالوا معي لنتساءل ما الذي حمل على هذه القسوة التي تخالف إنسانيتكم؟ وما الذي دفع القاضي إلى أن يحكم بهذه القسوة فيما تزعمون؟

إن الذي دعا إلى هذه القسوة شيء أشد منها قسوة، ولو تركنا هذه العقوبة القاسية -فيما تزعمون- لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة، وأقسى من موجب العقوبة، فمن الرحمة والشفقة أن نقيم الحد، ففيه رحمة بالمحدود، وبمن اعتدي عليه.

فحرصًا على سلامة جسم المجتمع من سرطان الجريمة، كان من الحزم الواجب استئصال العضو المريض، الذي لا يرجى من بقائه إلا الفساد والإفساد، ومن الحكمة أن يبتر عضو فاسد؛ إبقاءً وإنقاءً لمجموعة سليمة من الأعضاء، تُعد بالمئات والآلاف المؤلفة.

الشبهة الثانية: لماذا كان القتل في حد المحصن رجمًا بالحجارة؟ أليس ذلك تحقيرًا وازدراءً للإنسانية؟ أو ليس هناك وسائل للقتل أشفق وأرحم وأحسن -إن صح هذا التعبير- وأسرع؟ ونبيكم صلى الله عليه وسلم يقرر أن الله كتب الإحسان على كل شيء ((فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة))، وأي إحسان في القتل بالرجم، أليس الصعق الكهربي مثلًا، أو الشنق، أو ما إلى ذلك من وسائل الإزهاق السريع، أخف على المحدود؟

وللرد عليها نقول: على رسلكم، ارحموا أنفسكم، إن كنتم تنازعون في أصل القتل، فتلك مسألة قد اتضحت الإجابة عنها في الشبهة السابقة، وتمت فيها المناقشة، وإن كنتم تنازعون في كيفية القتل وطريقته، فإننا نتكلم معكم في مسألتين:

الأولى: أن هذا قتل لا يراد منه الإزهاق الروحي وكفى، وإلا فكان الصعق الكهربي أسرع في تحقيق الغرض المنشود كما تقولون، وإنما المراد من هذا القتل الزجر والردع عن مقارفة الجريمة الشنعاء، فليكن القتل بطريقة تليق بمن اقترف هذا الإثم المستبشع، إنه ارتكب جرمًا أهدر فيه كرامة الإنسان، ولطخ بأقذر القذر شرف الإنسان، وضيع معالم النسب الإنساني، وحكم بالقتل الأدبي على طائفة من بني الإنسان، فضلًا عن القتل المادي، والوأد الظاهر، أو الخفي الذي ألحقه بمجموعة من سلالة الإنسان، ثم ليكن في قتله بهذه الصورة عبرة لمن تسول له نفسه، أو يزين له شيطانه أن يقارف تلك الجريمة النكراء، والعاقل من اتعظ بغيره.

المسألة الثانية: هل تجزمون بأن القتل بالصعق الكهربي مثلًا أخف ألمًا، وأسرع إزهاقًا من القتل بالرجم؟ وهل على ذلك من دليل؟

هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ولو فرضنا أنكم أتيتم ببرهان، أفلا يجوز أن يكون من مقاصد الشارع الحكيم، أن يقتل المرجوم رجمًا زيادة في الإيلام؛ لجريمته التي ارتكبها، ولتنفير غيره من مقارفة تلك الجريمة.

إن الذي فرض العقوبة وقدرها، وبين كيف تكون، إنما هو العليم الخبير، الذي يعلم دروب النفوس البشرية وخباياها { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

الشبهة الثالثة: إن إقامة الحد تقتضي إزهاقًا للأرواح، وتقطيعًا للأطراف، وبذلك تفقد البشرية كثيرًا من الطاقات والقوى، وينتشر فيها المشوَّهون والمقطعون الذين كانوا يسهمون في الإنتاج والعمل، ويساعدون على الرخاء وإسعاد الإنسانية.

وللرد نقول: إن القتل، وهو تقطيع الأطراف في الحدود، إنما يكون في حالات ضيقة ومحصورة، ولمن يكون؟

إنه إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها تعطل العمل والإنتاج، وتضيع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم، فهي لا ترحم.

هذا مع ملاحظة أن إقامة الحد بإزهاق روح واحدة، أو بقطع طرف واحد، يؤدي إلى حفظ مئات الأرواح، وآلاف الأطراف سليمة ظاهرة عاملة منتجة، مع ملاحظة ثانية، وهي أننا لا نرى المشوهين يكثرون في البلاد التي تقام فيها الحدود، بل ربما كانوا فيها أقل منهم في غيرها، وها هي المملكة العربية السعودية مثلًا، حيًّا مشهورًا ومشهودًا به، يسير فيها الراكب من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وربما لا يرى فيها مشوهًا أو مكسحًا بسبب إقامة حد، وليس ذلك لأنهم لا يقيمون الحد، لا، بل لأن إقامتهم للحدود قد حالت بين الناس وبين الجرائم التي تقام بسببها الحدود، فقلّت الجرائم، وتبعها قلّة من تقام عليهم الحدود، فصدقت فيهم كلمة القرآن الحكيمة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179].

فهم حينما يقطعون يدًا واحدة، يحفظون ويصونون أيادٍ أمينة عاملة لا تعد ولا تحصى، وكأنهم بهذا يعملون عملية تشبه التطعيم الطبي، الذي تحصن به الإنسانية من أمراض خطيرة.

الشبهة الرابعة: إن في إقامة الحدود سلبًا لحق الحياة، وهو حق مقدس لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه، فكيف تسوغون لحاكم أن يسلب محكومًا حق الحياة؟ وكيف يجوز لقاضٍ عادل أن يقضي على إنسان بالقتل وإزهاق الروح؟

وللرد نقول: إن الشارع الحكيم الذي منح حق الحياة وقدسه، وجعل الدماء، والأموال، والأعراض محرمة بين الناس، هو الذي أكد ذلك التقديس والاحترام لإقامة الحدود، وإن المحدود الذي استحق الرجم، أو القتل، هو الذي جنى على نفسه؛ لأنه لم يحترم حق غيره، ولو أنه احترم حق الحياة في غيره؛ لحفظ له حق الحياة في نفسه، ولقد قرر الله تعالى في كتبه السابقة، وذكر ذلك في القرآن الكريم: { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

فالمعتدي على حق الحياة في غيره، يعد معتديًا على حق الحياة في نفسه؛ ولذلك حينما أراد الله أن يحذر الناس من أن يقتل بعضهم بعضًا قال: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ  } [النساء: 29]، وهو تعبير قمة في البلاغة والزجر، مع التلويح بحكمة النهي؛ ذلك لأن قاتل الغير متسبب في قتل نفسه قصاصًا، أو حدًّا؛ ولأن المعتدي على حق الحياة الإنسانية، معتدٍ على حق مقدس مشترك بينه وبين بقية الأحياء من بني آدم، وبنات حواء، هذا من ناحية.

هذا، والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

error: النص محمي !!