Top
Image Alt

الشرط السابع الموجب للقطع

  /  الشرط السابع الموجب للقطع

الشرط السابع الموجب للقطع

الشرط السابع: انتفاء الشبهة:

الشبهة معلومة ومعروفة، ويعنَى بها: الالتباس، ويُراد بها في الحدود: ما كان من نقص في درجة الجناية يجعلها غيرَ مكافئةٍ لمستوى العقوبة المقدرة، وللشبهات دور كبير ومجال فسيح في درء الحدود أن تنفذ؛ ولذلك نجد الكثير من الجنايات لم تبلغ في حجمها وشدتها درجة الكمال، ومن ثم -نظرًا لاعتبار هذا الشرط- باتت تلك الجنايات في كثير من الأحيان غير مكافئة للعقاب الذي قدره الشرع؛ لأن هذا القصور في درجة الجناية معتبر في نظر الشريعة شبهة، وهذه الشبهة يُدفع بها الحد.

ولا جرم أن يكون ذلك أيضًا سمةً من سمات الكمال المطلق في شريعة الإسلام، تلك الشريعة الكاملة المُثلَى التي جاءت لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ودفع الظلم بكل صوره وأشكاله عن العباد، وإذا لم يكن ثمة مناص من تنفيذ العقوبة المقدرة، فإنه لا شك أنه ينبغي أن تأتي الجناية مكتملةً على التمام، لا تشوبها شائبة من نقص أو ضعف أو انخرام، وإذا وقع شيء من ذلك اعتبرته الشريعة شبهةً دارئةً للحد؛ ليقوم مقامَ الحد عقاب دون ذلك وهو التعزير.

وقد حرص الإسلام على التماس الشبهات؛ لدرء الحدود عن العباد ما أمكنَ، وفلسفة الإسلام في ذلك واضحة، أن الخطأ في عدم العقوبة خير من العقوبة في ظلم.

وفي هذا المعنى أخرج الترمذي بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ((ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)).

وأحاديث كثيرة في هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: ((ادرءوا الحدود بالشبهات))، ((ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم)) إلى غير ذلك من الأحاديث.

بعد هذا نقدم أمثلةً يستبين منها السامع والقارئ وجه الشبهة التي تسقط أو تدرأ الحد عن الجناة، ومن تلك الأمثلة: لو أصاب الناس قحط أو مجاعةٌ، حتى جنحت الأنفس الكسيرة طاوية للسرقة من أموال الآخرين حتى تتخلص من غائلة الجوع، فإنه في مثل هذه الحال لا ينبغي أن تقطع يدُ السارق الجائع ما دام غير واجد ما يأكله، ويعزز ذلك قول الله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المائدة: 3]، والمخمصة: هي الجوع وخلاء البطن من الطعام، والآية تعني: أن مَن دعته ضرورة من جوع أو غيره إلى أكل الميتة وسائر المحرمات، فإن الله غافر له ذلك ولا إثمَ عليه.

وفي عام الرمادة، أُصيب فيه المسلمون بالقحط والجدب حتى أخذتهم الضائقة وشدهم الجوع، فوقع البعض منهم في السرقة ولم يقم عليهم عمر حدًّا، وكان يقول: “لا قطع في عام المجاعة”.

وهذا الذي ذهب إليه عامة العلماء كالحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والشيعة الإمامية.

ومن الأمثلة أيضًا: لو سرق شخص من بيت مال المسلمين ما يبلغ النصاب، فلا حد عليه؛ لأنه واحد من المسلمين، وله في هذا البيت حق، فلا جرم أن تكون هذه شبهة مسقطةً، ويدرأ بها الحد، وفي هذا المعنى يقول علي رضي الله عنه: “ليس على من سرق بيت المال قطع”.

ومن الأمثلة أيضًا: أنه لو سرق ضيف من مال المضيف، فإن كان سرق من غير حرز فلا قطعَ عليه؛ لأنه مأذون له بالدخول بمقتضى تلك الضيافة، ومجرد الإذن يعتبر فيه من الشبهة ما تسقط الحد، أما إن سرق من حرز في داخل الدار فالقطع؛ لأنه وإن أذن له في دخول الدار، لم يؤذن له بالدخول في الحرز، وهذا قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة، خلافًا للإمام مالك، حيث لا يجب القطع عنده وإن كسر البيت المغلق.

وفي تقديرنا: أن الصواب ما قال به الحنفية، والشافعية؛ لأن الضيف سار بمنزلة أهل الدار كأنه واحد منهم، وقد أكرموه وأضافوه، وبذلك فإن فِعْلَه في الدار يعتبر خيانةً وليس سرقةً توجب الحد.

ومن أمثلة ذلك أيضًا: سرقة أحد الزوجين من الآخر، فإنه لا قطعَ على الزوجين في تلك الحالة، وإن كان للعلماء تفصيل، حيث يرى فقهاء الحنفية، أنه لا يقطع أحد الزوجين بالسرقة من الآخر، سواء سرق من البيت الذي هما فيه أو من بيت آخر، بينما يذهب المالكية إلى أنه: إن سرق كل واحد منهما من مال الآخر في غير بيته الذي يسكن فيه، وجب عليه القطع.

إلى غير ذلك من تفصيلات الفقهاء، والتي لا يتسع المجال لذكرها.

لكن هناك مسألة ينبغي أن نتحدث عنها، وهي: ما إذا اشترك جماعة في السرقة، أي: تمت السرقة بواسطة جماعة من الناس، فهل يقطع الجميع، أو لا يقطع أحد؟ أو يقطع أحدهم دون الآخر تبعًا لدرجة الجناية؟ للفقهاء تفصيل هنا يستحسن ذكره؛ حيث ذهب فقهاء الحنفية، إلى وجوب القطع على كل واحد من المشتركين في السرقة، بشرط أن يتضمن المسروق من الأنصباء ما يساوي عدد السارقين أو عدد المشتركين، أو بعبارة أخرى: أن الحد يلزم المشتركين في السرقة جميعًا، إذا أصاب كل واحد منهم عشرة دراهم، وهي مقدار النصاب عند الحنفية, أما إن أصاب كل واحد أقل من النصاب، فلا قطعَ عليهم؛ وذلك لأن موجب السرقة هو النصاب، فإذا لم يوجد في حق كل واحد، فلا ينبغي أن يحد بالقطع، لكنهم لو دخلوا الحرز وحملوا المسروق على ظهر واحد منهم أو اثنين حتى خرجا ومعهما المسروق، وخرج الباقون من غير حمل شيء، فالقياس أن لا يقطع فيهم غير الحامل، وفي الاستحسان يجب القطع للجميع، ووجه ذلك: أن السرقة من الجماعة تكون في العادة بهذه الصورة.

وكذلك لو حملوا المسروق على دابة فخرجت من الحرز، وجب القطع عليهم جميعًا.

أما الشافعية، فقالوا: إذا سرقت الجماعة قُطع كلُّ واحد منهم إذا كان المسروق من حيث النصاب يعدل أعدادهم، وهو ما قالته الحنفية؛ وذلك لأن كل واحد منهم يطلق عليه أنه قد سرق نصابًا وهو يقتضي القطع، أما إذا أخرج أحدهم نصابين أو ثلاثةً أو أكثرَ بعدد السارقين، ولم يخرج الآخرون شيئًا، وجب القطعُ على الذي أخرج فقط؛ لأنه انفرد بالسرقة على التمام، وأما إذا اشتركوا في سرقة نصاب واحد فلا حدَّ على أحدهم؛ لعدم اكتمال الجناية في حق كل واحد منهم.

وقال أبو ثور: يجب الحد عليهم جميعًا؛ قياسًا على قتل الجماعة بالواحد، وهو ضعيف ومرجوح.

أما فقهاء المالكية، والحنابلة، فقد ذهبوا إلى وجوب الحد بالقطع على المشتركين جميعًا ما دام المسروق قد بلغ النصاب، وهو ثلاثة دراهم، ومن ثم فيتبين من كلامهم أنهم لم يشترطوا تعدد الأنصباء، ليصيب كل سارق من المشتركين بمفرده نصابًا واحدًا، كما هو الشأن عند فقهاء الحنفية، والشافعية.

ووجه ذلك: أن هؤلاء السارقين اشتركوا في هتك الحرز وإخراج النصاب، كما لو كان ثقيلًا فحملوه مجتمعين وأخرجوه، وكذلك فإن الحاجة إلى الزجر عن السرقة وهتك الحرز، يقتضي تنفيذ الحد عليهم جميعًا.

على أن المالكية أيضًا، يركزون على عنصر التعاون في السرقة ليجب القطع على الجميع، فإذا انتفى التعاون بين المشتركين لا يقطع منهم إلا مَن خرج من الحرز وهو يستقل بمفرده بنصاب.

الوسائل التي تثبت بها السرقة:

لا ينبغي أن يقطع السارق إلا بدعوى من المسروق منه، وهو صاحب المال حتى ولو اعترف السارق، أو قامت عليه بينة بأنه سرق، وعلى هذا، فإن الذي يوجب الحد على السارق ليس الإقرار منه، أو الشهادة عليه، وإنما الدعوى من مالك المال عليه؛ لأن الخصومة معتبرة شرطًا لظهور السرقة وتنفيذ الحد.

إذن لو تمت السرقة بِناءً عن إقرار، أو عن شهادة دون دعوى من مالك المال، فلا قطعَ إذ لا خصومة.

ووجه ذلك: أن المال المسروق ربما كان مباحًا للسارق من خلال سبب من الأسباب، كما لو كان مالك المال أباحه إياه، أو وقفه على المسلمين، أو على جماعة منهم، وكان السارق واحدًا منهم، من أجل ذلك كانت المطالبة المتمثلة في الدعوى ضرورية من المالك؛ إذهابًا للشبهة، وهو ما ذهب إليه جمهور الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

أما المالكية، فقد اتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين، وبإقرار من السارق إن كان ذلك عن طواعية، ومن ثم فبناءً على كلامهم أنه لو أقرَّ السارق على نفسه بأنه سرق قُطِعَ، شريطةَ أن يكون حين الإقرار طائعًا غير مكره، وقالوا أيضًا: إن المقر على نفسه بالسرقة، له أن يرجع عن الإقرار ولا حدَّ عليه.

إذن المهم في كلام المالكية، هو إثبات السرقة بكل من الإقرار، والشهادة؛ ليتسنَّى للحاكم بعدُ أن يقيم الحد على السارق، ولو لم يكن ثمة دعوة، أو خصومة مقامة من ذلك المالك.

error: النص محمي !!