الشعر الحر
والشعر الحر: هو لون من التعبير، يعبر به الأديب عن موقف، وفكر، وعاطفة، يعني: يعبر عن مضمون، بلغة موحية، ومصورة، ومؤثرة، لكنه لا يلتزم في هذا التعبير بالطريقة التقليدية للشعر العربي، فلا يلتزم بوحدة البيت، ولا يلتزم بالقافية، وإنما كان الشعراء الذين دعوا إلى الشعر الحر، والشعراء الذين كتبوا المسرحية بالشعر الحر كانوا يلتزمون بالتفعيلة العروضية. من الذين كتبوا المسرح بهذه الطريقة: عبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور، وفاروق شوشة، وغيرهم.
يجرنا هذا الكلام إلى الحديث عن الشعر الحر، وكيف ينقد؟ فنقول: إن الشعر الحر إذا أراد أن يكون أدبًا لا يستطيع أن يتحلل من كل القواعد، ولا يتأبى على كل المقاييس النقدية التي استمرت في وجدان العرب، وفي تراثهم المتتابع حتى وصلت إلى العصر الحديث.
فنقد المضمون المتمثل في الفكر، والعاطفة، مقاييسه المعتمدة في النظر إلى الفكر من حيث العمق، ومن حيث عدم التناقض، ومن حيث القدرة على الإقناع. والنظر إلى العاطفة من حيث الصدق، والقدرة على التأثير، وعدم التناقض، والاستمرار وعدم الانقطاع.
هذه مقاييس يمكن تطبيقها على الشعر الحر، فإذا وجدت مضامين الشعر الحر متفقة مع هذه المقاييس، وكانت المضامين جيدة، فيحكم للمضمون بأنه جيد. وتحاكم لغة الشعر الحر كذلك، بما تحاكم به لغة التعبير في العمل الأدبي؛ لا بد أن تكون هذه اللغة صحيحة الدلالة، وملتزمة بالقواعد، قواعد التركيب والإعراب الصحيح، وجارية على نسق الأسلوب العربي.
ولا بد أن تكون هذه العبارة موحية، وأن تحمل ألوانًا من التصوير؛ لأن الشعر لغة التصوير والعواطف، والذي يمكن التحلل منه هو مقياس نقد موسيقى الشعر التقليدي؛ هذه المقاييس التي تعتمد على علم العروض والقافية الذي وضعه الخليل بن أحمد.
ونحن نقول: إننا لا نستطيع أن نحاكم الشعر الحر إلى مقاييس العروض والقافية؛ لأن دعاة هذا الشعر أعلنوا أنهم سائرون على هذه التقاليد، وأنهم لا يلتزمون بها، وأنها في نظرهم تمثل قيودًا تعوق حريتهم؛ ومن أجل ذلك هم يتمردون عليها، ولا يمكن أن يحاكم أحد إلى شيء يرفضه ولا يؤمن به.
يعني لا يمكن أن نقول عن قصيدة من الشعر الحر: من عيوب هذه القصيدة مثلًا عدم وحدة القافية، أو عدم التزامها بوحدة البيت؛ لأن صاحب هذه القصيدة أساسًا متمرد على هذه المقاييس وتلك الأسس، لكن في المجمل تعرضت حركة الشعر الحر لنقد عنيف وقت ظهورها، واستمر هذا النقد مصاحبًا لها في مسيرتها، وإلى يومنا هذا لم يستطع الشعر الحر ولا أصحابه أن يقنع الكثير من النقاد بأنه قادر على استنباط منظومة موسيقية معينة يمكن الاحتكام إليها، وتكون هذه المنظومة بديلًا عن المنظومة التقليدية المعروفة للشعر العربي. ومن هنا لا يزال هناك الكثير من النقاد في حالة خصام مع هذا الشعر المسمى بالشعر الحر.
وهناك عيوب في الشعر الحر، أو وقع فيها كثير من الدعاة لهذا الشعر، والمتحمسين له، بعيدًا عن مسألة الوزن والقافية، أو بعيدًا عن مسألة وحدة القافية ووحدة البيت، من هذه العيوب: أن كثيرًا من نماذج هذا الشعر تضمن أفكارًا صادمة لعقيدة المسلمين، وكان كثير من هؤلاء الشعراء يتسمون بجرأة زائدة عن الحد المقبول في استخدام تعبيرات تعد صادمة للذوق الإسلامي، بل تعد صادمة للعقيدة الإسلامية. وشواهد هذا تظهر في كثرة دوران بعض الألفاظ التي تحمل قيمًا لا يؤمن بها المسلمون مثل: الخطيئة، والفداء، والصلب، والخلاص، وغيرها.
ومن شواهده أيضًا: استخدام لفظ الجلالة في سياقات غير مناسبة وغير لائقة.
ومن العيوب التي وقع فيها هذا الشعر أيضًا: الغموض، والغموض يمكن أن يكون مقبولًا إذا كان غموضًا يستطيع الإنسان أن ينفذ من خلاله إلى إحساس أو إلى فكر أو معنى، لكن عندما يتحول الكلام إلى ألغاز لا توحي بشيء، ولا تدل على شيء، فإن ذلك يكون عيبًا يعصف بالكلام من أساسه؛ لأن الشعر أو الأدب، أي فن من فنون الأدب له هدف، هذا الهدف هو: التأثير في المتلقي، التأثير في فكر المتلقي، التأثير في وجدان المتلقي. إذا كان الكلام ألغازًا مستغلقة على الفهم، وعاجزة عن التأثير في النفس فقد فقد هذا الكلام هدفه وخرج من دائرة الأدب.
وهناك كثير من الشعر الحر يسلك هذا السبيل، خاصة عند أدونيس ومن يسير على طريقته.
من العيوب أيضًا التي تؤخذ على الشعر الحر: الوقوع كثيرًا في الأخطاء، الأخطاء اللغوية، والأخطاء النحوية، والصرفية، والدلالية، حتى الأخطاء الإملائية.
وقد يتخذ بعضهم من ذلك مظهرًا من مظاهر التمرد على اللغة في قواعدها المختلفة، وقد ترتب على ذلك -على هذه الدعوة الجامحة المتمردة التي تدعو إلى التحرر- أن رأينا كثيرًا من النماذج التافهة والساقطة التي كتبها أصحابها بوصفها شعرًا حرًّا، باسم التحرر كتبوا أي شيء لا يدل على شيء، وكثرت النماذج الغثة تحت عنوان “الشعر الحر”.
هذه عيوب أخذت على حركة الشعر الحر، وما تزال هذه العيوب تظهر في هذا اللون من التعبير حتى الآن.
وقد أسلفت أن الكتابة للمسرح الجاد إذا كانت من شعراء موهوبين، يحافظون على مضمون جيد، بلغة وطريقة أداء تحتكم إلى المقاييس المعتبرة؛ فإن الشعر الحر يمكن أن ينجح نجاحًا كبيرًا في هذا المجال؛ بهذا الشرط الذي ذكرته.
بهذا، نكون قد انتهينا من الدرس الأخير في مادة “النقد الأدبي الحديث”.
أرجو أن أكون قد قدمت لكم في هذه الدروس شيئًا مفيدًا ونافعًا، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يكتب التوفيق والسداد للجميع.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.