الشعر الديني الصوفي، والشعر النسائي
أولًا: الشعر الديني والصوفي:
لا شك أن الشعر الديني موجود منذ العصر الجاهلي؛ فالجاهليون لهم شعر في الدين يتعلق بما كانوا يعتقدونه، وقد ازدهر الشعر الديني وتعددت موضوعاته بعد ظهور الإسلام، ودارت هذه الأشعار الإسلامية حول محاور العقيدة الإسلامية؛ كالإيمان بالله، واليوم الآخر، والإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم، وما في اليوم الآخر من الحساب، والجزاء، والجنة، والنار؛ كما كان للقضاء، والقدر، والموت، والمصير، نصيبٌ في هذا الشعر؛ كما أن الأخلاق الإسلامية كان لها نصيبٌ كذلك من هذا الشعر.
واستمر الشعر الديني مع استمرار مسيرة الشعر عبر العصور، ولكننا في العصر العباسي سنجد أن الشعر الديني أصبح ظاهرةً كأنها توازن أو تقاوم ما شاع في المجتمع العباسي من شعر اللهو والمجون والزندقة؛ فالمجتمع العباسي كان مجتمعًا عجيبًا، فيه كثير من الأمور المتناقضة: الترف، والبذخ، وكثرة المال، ودخول كثير من أصحاب الملل والنحل القديمة في الإسلام واختلاطهم بالعرب، وميراثهم من الأفكار التي كانت موجودة قبل الإسلام والتي يرفضها الإسلام… كل هذا التغير جعل العصر العباسي يموج بكثير من التناقضات؛ فكما شاع اللهو والمجون، وتسربت أفكار إلحادية إلى كثير من الشعر والشعراء، أيضًا ظهر هذا الشعر الديني الملتزم الذي يستقي مادته وأفكاره من الإسلام الصحيح ومن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ فكأن هذا الشعر الديني كان ظاهرة في مواجهة ظاهرة شعر المجون والزندقة.
ونحن نعرف هذا المعنى ونتأكد منه عندما نجد الدكتور شوقي ضيف يقول عن شعر الزهد:
هذه الصفحة التي صورناها من شعر المجون والزندقة كانت تقابلها صفحة رائعة من شعر الزهد؛ فقد كانت المساجد مكتظة بالوعاظ والنُّساك وأهل الحديث والفقه والورع ومن حولهم العامة، وقد صدَّقت كثرتهم ربها مخافة وعيده، مؤمنة بأن القيامة موعدها وموقفها مع ذي الجلال، وأن العمر وإن طال قصيرٌ، وأن الدنيا ينبغي أن تكون دار زاد لدار المعاد.
وما يني الوعاظ والنساك من المحدثين يزجرونهم عن التعلق بمتاعها الزائل؛ واضعين نصب أعينهم الموت وتبعات الحياة الموبقة، وأن العاقل من عرف أن الناس سفر وعما قليل راحلون؛ فإما عذاب مستديم، وإما نعيم مقيم.
دارَ إذًا الشعر الديني والشعر الصوفي على هذه المحاور: الدعوة إلى الإيمان بالله والخوف منه وتعظيمه وتوحيده، والعمل للآخرة والتخفف والزهد في الدنيا؛ فكان هذا الشعر إذًا صرخة في وجه الإلحاد، واللهو، والمجون، والغزل الفاحش، ووصف الخمر… وما إلى ذلك من الأمور التي شاعت في هذا العصر.
ونحن إذا أردنا أن نتوقف عند نماذج من هذا الشعر الديني والصوفي؛ نبدأ ببعض الأشعار التي تدور حول الإيمان بالله سبحانه وتعالى والدعوة إلى تفويض الأمر إليه في أمر القدر والرزق؛ فهذا شاعرٌ عباسيٌّ اسمه: محمود الورَّاق، وهو من شعراء الزهد في هذا العصر يقول:
قدرُ الله كائنٌ حين يُقضى ورودُه | * | قد مضى فيك علمُه وانتهى ما يريدُه |
ويقول الورَّاق:
أتطلب رزق الله من عند غيرِه | * | وتصبح من خوف العواقبِ آمِنا |
وترضى بعرَّاف وإن كان مشركًا | * | ضمينًا ولا ترضى بربك ضامنًا |
ويلوم الورَّاق العصاة الذين يسرفون على أنفسهم في السيئات، ويدَّعون أنهم يحبون الله عز وجل ويحتج عليهم احتجاجًا منطقيًّا في هذه الأبيات المشهورة التي يقول فيها:
تعصى الإلهَ وأنت تُظهِر حبَّه | * | هذا محالٌ في القياس بديعُ |
لو كنت تضمِر حبه لأطعته | * | إن المحبَّ لمن أحبَّ مطيعُ |
في كل يوم يبتليك بنعمةٍ | * | منه وأنت لشُكرِ ذاك مضيعُ |
ويخاطب الورَّاق هذا العاصي الغافل ويذكره بالله سبحانه وتعالى فيقول:
يا غافلًا ترنو بعينَيْ راقدٍ | * | ومشاهدًا للأمر غيرَ مشاهد |
تصل الذنوبَ إلى الذنوبِ وترتجي | * | دَرَكَ الجِنانِ بها وفوزَ العابدِ |
ونسيتَ أن اللهَ أخرج آدمًا | * | منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ |
وفي مجال التذكير بالموت وما يتبعه من الحساب؛ يقول مالك بن دينار:
أتيت القبور فناديتهنَّ | * | أين المعظمُ والمحتقر |
وأين المُذِل بسلطانه | * | وأين المزكَّى إذا ما افتخر |
تفانوا جميعًا فما مخبرٌ | * | وماتوا جميعًا ومات الخبر |
تروح وتغدو بَنَاتُ الثرى | * | فتمحو محاسنَ تلك الصور |
فيا سائلي عن أناس مضوا | * | أما لك فيما ترى معتبر |
ويقول محمد بن يسير -وكان ماجنًا هجاءً خبيثًا؛ لكنه ألم يومًا بمجلس أبي محمد الزاهد صاحب الفضيل بن عياض؛ فتذكر ذنوبه وأشفق على نفسه وقال هذه الأبيات:
ويلٌ لمن لم يرحم اللهُ | * | ومن تكون النارُ مثواه |
واغفلتا في كل يوم مضى | * | يذكِّرُني الموت وأنساه |
من طال في الدنيا به عمره | * | وعاش فالموت أساراه |
كأنه قد قيل في مجلس | * | قد كنت آتيه وأغشاه |
محمد صار إلى ربه | * | يرحمُنا الله وإياه |
ومن هذا القبيل أيضًا قول محمد بن حازم، وكان مثل صاحبه الأول، كان أيضًا شرَّابًا لاهيًا يسير في طريق الغواية، ثم تاب إلى الله سبحانه وتعالى وأخذ يُكثر من شعر الزهد حاثًّا على القناعة وقطع الأسباب التي تجعل القلب غافلًا ولاهيًا ومنصرفًا إلى متاع الدنيا؛ فيقول:
ومنتظرٍ للموت في كل ساعة | * | يشيد ويبني دائمًا ويحصِّنُ |
له حين تبلوه حقيقةُ موقنٍ | * | وأفعالُه أفعالُ من ليس يوقنُ |
ويقول ناصحًا وواعظًا:
اضرَع إلى الله لا تضرع إلى الناسِ | * | واقنع بيأسٍ فإن العزَّ في الياس |
يريد: اليأس من الدنيا، أي: الانقطاع عنها، وعدم الطمع فيها، وعدم الطمع فيما عند الناس.
واستغنِ عن كل ذي قربى وذي رَحِمٍ | * | إن الغَنِيَّ من استغنى عن الناس |
وكان الخليل بن أحمد من العلماء العاملين الصالحين، وقد عرف عنه أنه كان يأبى أن يصحب الخلفاء والحكام وذوي الجاه متعففًا بذلك ومستغنيًا بدينه عن الدنيا.
ويروى في ذلك أن سليمان بن قبيصة بن يزيد بن المهلب -وكان واليًا على السند- أرسل إلى الخليل بن أحمد وطلب منه أن يعمل وزيرًا له؛ فكتب إليه الخليل يقول:
أبلغ سليمانَ أني عنه في دعةٍ | * | وفي غنًى غير أني لست ذا مالِ |
سخَّى بنفسيَ أني لا أرى أحدًا | * | يموت هزلًا ولا يبقى على حالِ |
الرزقُ عن قدَرٍ لا الضعف يُنقِصُه | * | ولا يزيدُك فيه حولُ محتالِ |
والفقرُ في النفس لا في المال نعرفُه | * | ومثل ذاك الغنى في النفسِ لا المال |
من شعر الجهاد نذكر هذه الأبيات التي قالها عبد الله بن المبارك؛ إذ أرسل إلى الفضيل بن عياض الناسك العابد المشهور رسالة شعرية يقول فيها:
يا عابدَ الحرمين لو أبصرتنا | * | لعلمت أنك في العبادة تلعبُ |
مَن كان يخضِب جيده بدموعه | * | فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ |
أو كان يتعب خيلَه في باطل | * | فخيولنا يومَ الصبيحةِ تتعبُ |
ريح العبيرِ لكم ونحن عبيرُنا | * | وَهَجُ السنابكِ والغبارُ الأطيبُ |
ولقد أتانا من مقال نبيِّنا | * | قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يُكذَبُ |
لا تستوي أغبارُ خيلِ الله في | * | أنفِ امرئٍ ودخان نار تلهبُ |
هذا كتاب الله ينطق بيننا | * | ليس الشهيد لا يكذبُ |
ففي هذه الأبيات إشادة بفضل الجهاد، وأن الذين يجاهدون أفضل من الذين ينقطعون إلى العبادة ويتركون قتال الأعداء.
ومن المحاور التي دار عليها الشعر الديني أيضًا: محور الأخلاق، ومن هذا مثلًا قول محمود الوراق في تصوير عفوه عن بعض ظالميه:
إني وهبت لظالمي ظُلمي | * | وغفرت ذاك له على علمي |
ورأيته أسدى إليَّ يدًا | * | لمَّا أبان بجهله حلمي |
رجعتْ إساءَتُه عليه | * | وإحساني إليَّ مضاعفَ الغُنْمِ |
وغدوت ذا أجرٍ ومَحْمَدةٍ | * | وغدا بكسبِ الظلمِ والإثمِ |
وكأنما الإحسان كان له | * | وأنا المسيءُ إليه في الحُكْمِ |
ما زال يظلمني وأرحَمُه | * | حتى رثيتُ له من الظُّلْمِ |
ويصور شعرُ الزهد في العصر العباسي بعض المواقف التي كانت تحدث في بيئة الزهاد، عندما يُعرَض على واحد منهم مثلًا منصبٌ فيقبله؛ فقد يلومه بعض إخوانه على ذلك، من هذا: أن إسماعيل بن علية كان زاهدًا ناسكًا مع ابن المبارك، ثم إن إسماعيل هذا وليَ أمر الصدقات بالبصرة؛ فكتب إلى عبد الله بن المبارك يخبره بذلك، ويقول له: أحب أن تبعث إلي إخواننا من القراء لأشغلهم أو لنوظفهم؛ فأجابه عبد الله بن المبارك بقوله: القراء ضربان -أي: نوعان: قوم طلبوا هذا الأمر -أي: قراءة القرآن- لله؛ فأولئك لا حاجة لهم في لقائك. وقوم طلبوه للدنيا؛ فأولئك أضر على الناس من الشُّرَط، أي: رجال الشرطة الذين يؤذون الناس. وألحق بجوابه هذه الأبيات -يخاطب فيها هذا الزاهد الذي قبل المنصب، فيقول له:
يا جاعلَ الدين له بازيًا | * | يصطاد أموالَ المساكين |
والبازي: الطائر الذي يُصطاد به.
احتلت للدنيا ولذاتها | * | بحيلةٍ تذهب بالدين |
وصرت مجنونًا بها بعدما | * | كنتَ دواءً للمجانين |
أين رواياتك فيما مضى | * | عن ابن عون وابن سيرين |
وابن عون وابن سيرين من الزهاد العباد.
أين رواياتك في سردها | * | في ترك أبواب السلاطين |
إن قلتَ أُكرِهْتُ فذا باطلٌ | * | ذل حمارُ العلمِ في الطين |
ومن هذه المواقف أيضًا: أن الزاهد محمد بن كناسة لامه بعض أصدقائه على أنه يجيد الشعر ولا يتكسب به، وأنه لا يذهب به إلى أبواب السلاطين والأمراء، وأمثاله ممن يُحسنون الشعر يكسبون به الألوف المؤلفة وهو يعيش في كفافٍ وفقرٍ؛ فَرَدَّ عليهم دعوتهم وإغراءهم وغوايتهم بقوله:
تؤنِّبُني أن صُنْتُ عرضي عصابةٌ | * | لها بين أطناب اللئام بصيصُ |
يقولون لو غمَّضْتَ …. | * | …. …. …. …. |
أي: لو تساهلتَ وتركتَ الزهد وجئت إلى أبواب الملوك تمدحهم.
يقولون لو غمَّضْتَ لازددتَ رفعةً | * | فقلت لهم إني إذًا لحريصُ |
أتَكْلِمُ وجهي لا أبًا لأبيكم | * | مطامعُ عنها للكرام محيصُ |
وقوله: “أتَكْلِمُ وجهي؟” استفهام إنكاري، و”تكلِمُ” يعني: تجرح، يقول: إنه لا يريد أن يجرح وجهه، أو يريق ماء وجهه بالذهاب إلى الأمراء والملوك -كما يدعونه- ثم يقول:
معاشيَ دُوَيْنَ القوتِ والعِرضُ وافرٌ | * | وبطنيَ عن جدوى اللئام خميصُ |
سألقى المنايا لم أخالطْ دنيَّة | * | ولم تسِرْ بي في المخزِيَاتِ قَلُوصُ |
و”القَلُوص”: هي الناقة الشابة، يقول: إنه سيظل زاهدًا محافظًا على دينه مهما كان فقره؛ فإنه لا يريد من الدنيا شيئًا.
وظل شعر الزهد والشعر الصوفي ملتزمًا بالمنهج الإسلامي في العقيدة والأخلاق إلى أن تسرب إلى هذا الشعر أفكار مانوية وبوذية من آثار تلك النحل القديمة التي دخل أصحابها في الإسلام، لكن بعضهم ظل متعلقًا بأفكار قديمة من مذهب قديم أو نحلة بالية؛ فظهرت هذه الأفكار التي لا تتفق مع الإسلام؛ كالقول بالحلول، والاتحاد، والفناء، ووحدة الوجود، من هذه الأفكار التي ظهرت عند الحلاج وعند السهروردي، وهذه الأفكار الفلسفية التي اختلطت بشعر الزهد جرَّت على أصحابها الاتهام بالإلحاد والخروج عن الإسلام؛ فكان جزاء بعضهم ومصيره القتل بسبب هذا الاتهام؛ كما حدث للحلاج وكما حدث للسهروردي.
ثانيًا: الشعر النسائي:
لم يكن الشعر النسائي -أيضًا- شيئًا جديدًا على الشعر العربي؛ فنحن نعرف شواعر كثيرات ظهرت في العصر الجاهلي، وكان من أشهرهن الخنساء، والذي يرجع إلى المفضليات سيجد قصائد ومقطوعات لشواعر من العصر الجاهلي ومن العصر الإسلامي، والظاهرة التي نتحدث عنها في العصر العباسي ربما تقترن بكثرة الغناء والمغنيات اللائي كُنَّ يحسنَّ إنشاد الشعر، وبعضهن كُنَّ يحسنَّ إنشاءه، بالإضافة إلى إنشاده، ويمكن أن نجد في كتب الأدب التي أرَّخت لهذا العصر أسماء كثير من النساء الشاعرات.
نذكر منهن مثلًا شاعرة صالحة زاهدة هي رابعة العدوية، ومن شعرها المشهور قولها:
أحبك حبين حبَّ الهوى | * | وحبًّا لأنك أهلٌ لذاك |
فأما الذي هو حبُّ الهوى | * | فشُغلي بذكرك عمن سواك |
وأما الذي أنت أهلٌ له | * | فكشفُك للحجْبَ حتى أراك |
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي | * | ولكن لك الحمد في ذا وذاك |
ففي هذه الأبيات: تعبير عن الحب لله، هذا الحب الذي ملأ على الشاعرة نفسها وتملك قلبها، وأصبحت لا ترى في الكون إلا الله عز وجل ولا يشغلها شيء في الدنيا أو في الحياة عن حبه، وتقر بالحمد الجزيل له في كل الأحوال.
ومن النساء الشواعر: “محبوبة” التي ترجم لها الأصفهاني في كتابه (الأغاني)، وقال عنها: كانت “محبوبة” مولدة من مولدات البصرة شاعرة شريفة مطبوعة لا تكاد “فضل” الشاعرة اليمامية أن تتقدمها.
وكانت “محبوبة” أجمل من “فضل” وأعف، وملكها المتوكل وهي بكر؛ أهداها له عبد الله بن طاهر، وبقيت بعده مدة فما طمع فيها أحدٌ، وكانت أيضًا تغني غناء ليس بالفاخر البارع.
وذكر أبو الفرج الأصفهاني من أخبارها أن عليَّ بن الجهم كان مقربًا من المتوكل جدًّا، وأن المتوكل لم يكن يكتمه شيئًا من سره مع حرمه وأحاديث خلواته؛ فقال له يومًا: إني دخلت على جارية قبيحة -أي: ليست جميلة- فوجدتها قد كتبت اسمي على خدِّها بغالية -والغالية: هي أخلاط من الطيب والروائح الجيدة- يقول المتوكل: فلا والله، ما رأيت شيئًا أحسن من سواد تلك الغالية على بياض ذلك الخد؛ فقل في هذا شيئًا. قال: وكانت محبوبة حاضرة للكلام من وراء الستر، وكان عبد الله بن طاهر أهداها في جملة أربعمائة وصيفة إلى المتوكل، قال: فدعا علي بن الجهم بدواة، فإلى أن أتوه بها وابتدأ يفكر ما يقول؛ كانت محبوبة قد قالت على البديهة من غير فكر ولا روية:
وكاتبةً بالمسكِ في الخدِّ جعفرا | * | بنفسي مخَطُّ المسكِ من حيثُ أثَّرا |
لئن كتبَتْ في الخدِّ سطرًا بكفِّها | * | لقد أودعتْ قلبي من الحبِّ أسطُرا |
فيا من لمملوكٍ لمِلْكِ يمينه | * | مطيعٍ له فيما أسرَّ وأظهرا |
ويا من مُنَاها في السريرةِ جعفرٌ | * | سقى اللهُ من سُقيا ثناياك جعفرا |
ومن الأخبار التي ذكرها أبو الفرج عن “محبوبة”: أن المتوكل دفع إليها تفاحة مغلفة فقبلتها وانصرفت عن حضرته إلى الموضع الذي كانت تجلس فيه إذا شرب، ثم خرجت جارية لها ومعها رقعة فدفعتها إلى المتوكل؛ فقرأها وضحك ضحكًا شديدًا، وكان مما كتبته فيها:
يا طيبَ تفاحةٍ خلوْتُ بها | * | تُشعِل نارَ الهوى على كبِدي |
أبكي إليها وأشتكي جَنَفِي | * | وما ألاقي من شدة الكمدِ |
لو أن تفاحةً بكَتْ لبكَتْ | * | من رحمتي هذه التي بيدي |
إن كنتِ لا ترحمين ما لقيَتْ | * | نفسي من الجهد فارحمي جسدِي |
قال: فوالله ما بقي أحد إلا استظرفها واستملحها، وأمر المتوكل فغني في هذا الشعر. ومن شعر “محبوبة” الذي رواه أبو الفرج قولها:
أيُّ عيشٍ يطيبُ لي | * | لا أرى فيه جعفرا |
ملِكًا قد رأته عيني | * | قتيـــلًا مــــــــــــــــــُعَـــــــفَّرا |
كل من كان ذا هُيامٍ | * | وحزنٍ فقـــــد بـــــَرَا |
غيرَ محبوبةَ التي | * | لو ترى الموتَ يُشترى |
لاشــــــــــــترته بـمـــــــِلْكِها | * | كــل هــــــذا لتُقبَرا |
إنَّ مـــوتَ الكئيب | * | أصلحُ من أنْ يُعمَّرا |
وواضح أنها تصور في هذا الشعر حزنها على المتوكل بعد أن قتل.
ومن النساء الشواعر اللائي ترجم لهن أبو الفرج الأصفهاني كذلك: “عبيدة” الطنبورية، و”الطنبورية” نسبة إلى الطنبور: وهو آلة من الآلات الموسيقية، يقول عنها: كانت “عبيدة” من المحْسِنات المتقدمات في الصنعة والآداب، يشهد لها بذلك إسحاق -الموصلي طبعًا- وحسبها بشهادته يقول: وكانت من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم صوتًا، ويذكر أنها كانت من المحسنات وكانت لا تخلو من عشق، ولم يعرف في الدنيا امرأة أعظم منها في الطنبور، وكانت لها صنعة عجيبة، ويذكر هذه الأبيات، يقول: فمنها في الرمل:
كُنْ لي شفيعًا إليك | * | إن خفَّ ذاك عليكا |
وأعفني من سؤالي | * | سواك ما في يديكا |
يا من أعز وأهوى | * | ما لي أهون عليكا |
ومن الشعر الذي أورده أبو الفرج، والذي غنته “عبيدة”: قولها:
قريبٌ غير مقتربِ | * | ومؤتلفٌ كمجتنبِ |
له وُدي ولي منه | * | دواعي الهمِّ والكُرَبِ |
أواصله على سببٍ | * | ويهجرني بلا سببِ |
ويظلمني على ثقةٍ | * | بأن إليه منقلبي |
وأنت تلاحظ أن هذه الأشعار التي تُنسَبُ إلى النساء تتسم بالرقة والخفة ووضوح الألفاظ ورشاقة النغم.