Top
Image Alt

(الشعر المصري بعد شوقي) لمندور

  /  (الشعر المصري بعد شوقي) لمندور

(الشعر المصري بعد شوقي) لمندور

ومن الكتب المهمة في الدراسات النقدية أيضًا والتي واكبت مراحل تطور الأدب وخاصة الشعر، وقدمت دراسات عن شعراء كثيرين وعن دواوين وعن ظواهر أدبية مختلفة: كتاب الدكتور محمد مندور (الشعر المصري بعد شوقي)، وقد صدر هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء، تعرض المؤلف فيه -كما أشرت- لكثير من الظواهر الأدبية والشعرية، ولكثير من الشعراء والدواوين، وقدم آراء مهمة في كل هذه الموضوعات.

بعض الظواهر الأدبية والشعرية التي تعرض المؤلف:

في الجزء الثالث من هذا الكتاب يقدم الدكتور محمد مندور دراسة عن ديوانين يعتبرهما ثروة فريدة في شعرنا العربي المعاصر، بل إنه يقول: بل ربما اعتبر ظهورهما حدثًا فريدًا في تاريخ الشعر العربي كله، إن لم يكن في معظم الآداب العالمية؛ هذان الديوانان ترجع أهميتهما -كما يبين الدكتور مندور- إلى أن الشعر بوجه عام لم يألف الحديث عن الزوجة حية أو ميتة مثل هذا الحديث الصادق المسهب، وذلك بالرغم من أن المرأة قد احتلت مكان الصدارة بين مصادر الإلهام في كافة الفنون، وتلك ظاهرة فريدة في تاريخ الآداب كلها؛ حيث نرى الرجال يتغنون بالمرأة وجمالها سحرها، ويرضون عن الحياة إذا رضيت عنهم الحبيبة، ويشقون بها إذا تنكرت لهم، ومع ذلك لم نرَ شاعرًا يتغزل في زوجته الحية، وكأن إحساسه بالملكية قد أطفأ في نفسه لواعج الشوق ومصادر الإلهام، وهذا أمر قد نستطيع فهمه، ولكن كيف السبيل إلى تفسير سكوت أغلب الشعراء عن التغني بآلام الفراق التي يسببها الموت، مع أنهم يتغنون بآلام الفراق الموقوت أو الهجر العارض؟!.

الديوانان أهميتهما ترجع إلى هذه الظاهرة: أننا لا نجد الشعراء يطيلون الحديث عن الزوجة؛ سواء أكانت هذه الزوجة حية -يتغزل فيها ويذكر حبه وتعلقه بها- أو ميتة -رحلت عنه فيصور حزنه على رحيلها.

والديوانان اللذان يقدمهما الدكتور مندور: هما ديوان (أنات حائرة) للشاعر عزيز أباظة، وديوان (من وحي المرأة) للشاعر عبد الرحمن صدقي، ويوازن الدكتور مندور بين هذين الديوانين الذين صدرا عن عواطف متشابهة، وأوحت بكل منهما حادثة واحدة: هي حادثة فقد الزوجة.

يقول عن ديوان (أنات حائرة) للشاعر عزيز أباظة: وديوان (أنات حائرة) يشهد بأن صاحبه، أكثر محافظة وحفاظًا على التقاليد من صاحب ديوان (من وحي المرأة)، ولا أدل على ذلك من أن عزيز أباظة عندما رأى أن يلتمس لكربه متنفسًا في السفر إلى بعض بقاع الأرض ساقه إحساسه إلى الأرض المقدسة: إلى مكة والمدينة ومناسك الحج؛ حيث أنشد مجموعة من القصائد التي يتكون منها الجزء الأخير من ديوانه، وفيها تختلط المشاعر الدينية والذكريات المقدسة بلواعج الفقيدة وذكريات حياته معها، وكأنه قد نظم قصيدة: أشجان رمضان، كقنطرة يعبرها من ذكريات الفقيدة في حياته الدنيوية إلى المشاعر الدينية، التي تغلف فاجعته كلها في ثوبها الروحي الهفهاف في قصائد: في بطحاء مكة، وفي عرفات، وفي عوالي منى، وفي أيام التشريق، وعلى قبر خديجة أم المؤمنين، ووحي يثرب وأحد، وساعة في البقيع … وذلك بينما يخصص الأستاذ عبد الرحمن صدقي الجزء الثالث والأخير من ديوانه (من وحي المرأة) للرحلة إلى ايطاليا التي ربما يكون قد ساقه إليها عمله عندئذ كمدير لدار الأوبرا المصرية؛ لكنه مع ذلك لا يخلو من دلالة على اتجاهه الروحي؛ فإيطاليا كانت تمت إلى زوجته ماري كانيلا بنت المهندس كانيلا بصلة روحية قوية، لأنها  كانت إيطالية أصلًا ومصرية مولدًا.

ثم يقول” ومما لا شك فيه أن عبد الرحمن صدقي -بشعره وأدبه وظروف حياته واتجاه روحه ومنبته- يعتبر أقل محافظة وحفاظًا على التقاليد من الشاعر عزيز أباظة الذي يلوح أن ميوله الدينية الروحية قد عززت في نفسه نزعة المحافظة والحفاظ على التقاليد اللغوية والدينية والإمعان في هذه المحافظة.

إذًا هنا الدكتور مندور يوازن بين ظروف حياة الشاعر عزيز أباظة وظروف حياة الشاعر عبد الرحمن صدقي، ويشير إلى أثر الظروف في الرجل وفي شعره؛ فعبد الرحمن صدقي بسبب ظروف حياته أقل محافظة من عزيز أباظة، محافظة في التقاليد والسلوك ومحافظة كذلك في اللغة والتعبير.

ثم بعد ذلك أورد الدكتور مندور قصيدة من الأنات الحائرة، رأى أن هذه القصيدة تعتبر خريدة هذا الديوان -يعني أجود قصائده- لأنها استوعبت كل ذكرياته عن الفقيدة، في لحن مشبع وترنيم يكاد يشبه ترانيم العبادة، وهذه القصيدة عنوانها ذكريات، مما جاء فيها قول عزيز أباظة مخاطبًا زوجه الراحلة:

يذكرنيكِ كل جليل أمر

* وكل يسيره فتذوب نفسي

إذا سكب الصباح فأنتِ همي

* وإن وقب المساء فأنتِ أنسي

جمعت على الهوى طرفي نهاري

* كأني لم أُرَع بنواكِ أمسي

رعاك الله ما فارقتِ روحي

* وإن فارقتِ بعض الوقت حسي

أراكِ كما رأيتكِ حين كنا

* على حرم الصبا نضحي ونمسي

نذوق رحيقه طفلين شبَّا

* على ودٍّ وخالصةٍ وقدسِ

هناك على ملاعب ضاحكاتٍ

* وسامٍ لم يُرَعْنَ بيوم وكسِ

بشط عنبري الماء يحنو

* على واديه في حدب وهمسِ

ثم ينتقل عزيز أباظة إلى قافية أخرى؛ فيقول:

تذكرنيكِ أشياء أراها

* فينشطر الفؤاد لها انشطارا

إذا قمنا لمائدة مساءً

* وإن قمنا لمائدة نهارا

يطالعني مكانك وهو خالٍ

* فتبتدر الدموع له ابتدارا

نحيط به فنوسعه حنينًا

* وتقديسًا لذكرك وادكارا

وبعد عدة أبيات ينتقل الشاعر لقافية أخرى، فيقول:

تذكرنيكِ يا زين اليتامى

* وقد فقدوا بك الكهف الحفيا

وبعد عدة أبيات ينتقل الشاعر إلى قافية أخرى، فيقول:

تذكرنيكِ أحداث الليالي

* فإنكِ كنت لي منها مجنّا

وينتقل بعد ذلك أيضًا إلى قافية جديدة، هي قافية السين؛ فيقول:

تذكرنيكِ ما دميت جفون

* وما شقيت بما حملت نفوسُ

وتتغير هذه القافية إلى قافية النون، فيقول:

يذكرنيكِ باكيةٌ وباكِ

* من أبناء السبيل البائسينا

وحانية الضلوع على يتامى

* بمدرجة الطريق مروَّعينا

ثم تتغير أيضًا هذه القافية؛ ليقول في أبيات تنتهي بقافية التاء المكسورة:

تذكرنيكِ كل صلاة وقت

* فما أغفلت ذكركِ في صلاتي

وما أديت حق الله إلا

* وكان إليك يا زين التفاتي

من الأعماق أرسله دعاءً

* تسرب في دموعي السافحاتِ

ليدفع عنكِ غائلة الليالي

* ويمنع عنكِ باغتة الشكاةِ

وبعد أن أثبت الدكتور مندور القصيدة كاملة، علق على ما احتوته من مضامين، وأثنى على هذه المضامين وحديث الشاعر عنها، وقال: ففي هذه القصيدة بأجزائها المختلفة استعرض الشاعر ألوانًا متباينة من ذكرياته مع الفقيدة في حياتها الخاصة وفي الحياة العامة على السواء، وعرج على ديار الصبا مما يذكرنا ببكاء الديار دون أن نحس بأي تقليد أو محاكاة للأقدمين؛ لأن الشاعر قد انساق إلى هذا الحديث بواقع حياته وتجربته الحية؛ فجاء حديثًا أصيلًا نحس فيه الجدة والصدق، ونكاد نحسه إبداعًا فنيًّا لم يُسبق إليه؛ مما يقطع بأنه ليست هناك موضوعات تقليدية وأخرى جديدة بطبيعتها، بل هناك مضامين بشرية صادقة مستمدة من الحياة ومضامين أخرى مصطنعة مستخرجة من الذاكرة، يقصد إليها الشاعر قصدًا دون أن يحفزه إليها حافز حياة، وما الموضوعات والأغراض إلا أوعية تصب فيها تلك المضامين التي يجب أن تكون هي محك حكمنا على التقليد أو الأصالة.

ثم تحدث الدكتور مندور بعد ذلك، عن الديباجة اللغوية وأسلوب الشاعر عزيز أباظة في ديوانه (أنات حائرة)، وانتقل بعد ذلك إلى ديوان (من وحي المرأة)، للأستاذ عبد الرحمن صدقي في إطار هذه الموازنة.

error: النص محمي !!