Top
Image Alt

الصراع اللغوي؛ أسبابه، ونتائجه

  /  الصراع اللغوي؛ أسبابه، ونتائجه

الصراع اللغوي؛ أسبابه، ونتائجه

الصراع اللغوي:

هو ذلك التنافس بين لغتين أو أكثر للهيمنة في مجتمعٍ ما، وتختلف نتائج الصراع وآثاره تبعًا لنوع العامل ومداه، يعني: أنه إذا كان هناك صراع بين لغتين في مجتمع ما، تختلف نتائج وآثار هذا الصراع تبعًا لنوع العامل ومَداه؛ فهناك عوامل للصراع اللغوي. والصراع اللغوي نتيجة مثلًا حرب، ونتيجة تجاور أو نتيجة هجرة. فيحدث تماس لغوي بين لغتين أو أكثر؛ قد يكون الصراع مثلًا قويًّا، وقد يكون ضعيفًا؛ فآثار الصراع تختلف باعتبار القوة والضعف.

فكثيرًا ما يحدث احتكاك لغوي بين لغتين أو أكثر عن طريق الحرب، أو التجارة، أو السياحة، أو التجاور الجغرافي، وتتقارع اللغتان وتتصارعان، وعندما تخمد نار الصراع وتخبو، وتضع الحرب أوزارها؛ إما أن تظفر إحدى اللغتين بالأخرى وتنتصر عليها، إلا أنها تتأثر بها، أو أن تتكافئَا، فلا تستطيع إحداهما القضاء على الأخرى، وعندئذ تترك كل لغة آثارًا في نظيرتها، فتتقاسم اللغتان التأثير والتأثر.

يقول “فندريس”: إن تطور اللغة المستمر في معزل عن كل تأثير خارجي، يعد أمرًا مثاليًّا لا يكاد يتحقق في أية لغة.

بل على العكس من ذلك، فإن الأثر الذي يقع على لغة من لغات مجاورة لها، كثيرًا ما يلعب دورًا هامًّا في التطور اللغوي، وتطور اللغة أي انقسامها إلى لهجات.

وفي التاريخ ما يؤيد ذلك: فقد غزا العرب جهاتٍ كثيرةً، وأعلى اللهُ العربيةَ على غيرها من اللغات، وأظفرها على كثير منها، واستطاعت العربية أن تصرع تلك اللغات في مَهْدها، وأن تحل محلها؛ فقد تغلبت اللغة العربية على الآرامية في العراق وفي الشام، وعلى الفارسية في بعض الأماكن التي كان خاضعة لمملكة فارس القديمة، وعلى القِبطية في مصر، وعلى البربرية في شمال أفريقيا، وحلت محل تلك اللغات.

وذلك لأسباب عدة:

أولًا: السبب الديني: لأنها اللغة العربية لغة القرآن الكريم، والإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم فتعانقت مع القلوب، واستولت على المشاعر واستمالت الأبصار.

ثانيًا: السبب السياسي: وهو أن اللغة العربية كانت لغة الحكام المنتصرين.

ثالثًا: السبب الشعبي: وهي لغة خصبةٌ بالناطقين بها، أي: أنها أكثر الناطقين بهذه اللغة فهي غنية بروائع أساليبها؛ ولذلك كان هذا السبب الشعبي أيضًا من أسباب تغلب اللغة العربية.

رابعًا: السبب اللغوي: وهي لغة راقية، غنية بأساليبها خصبة بمفرداتها، وجموعها، وثرية بجمال دلالاتها وإيجازها، زاخرة بصيغها واشتقاقاتها، ناطقة بكمال إعرابها، كاشفة عن مرونتها، ومواكبتها الحضارات في يومها، وفي غَدِهَا. فهذا عن طريق الكناية، وذاك عن طريق الاستعارة، وذاك عن طريق التورية، وما إلى ذلك، وخصبة بالمفردات فللمعنى الواحد أكثر من مفردة، عندما نقول: قمح وحنطة وبُر، عندما نقول: يد وساعد، هذا يجعل اللغة العربية غنية في ثروتها، وتكاثر هذه المفردات سبب من أسباب تغلب اللغة العربية.

أيضًا الجموع الكثيرة: جمع قلة، وجمع كثرة، وجمع مذكر، وجمع مؤنث، إلى آخره. فهذه اللغة غنية بهذه الجموع. والإعراب الكامل غير موجود إلا في اللغة العربية، وهذا من مميزات اللغة العربية. والأسلوب الواحد، نجد مثلًا عندما يقول إنسان: أنا قاتلُ فلان، غَيْرَ المعنى الذي يقول: أنا قاتلٌ فلانًا، فقاتلٌ بالتنوين تهديد. أما عندما يقول: أنا قاتلُ فلان فهذا على اعتبار الماضي فكأنه فعل هذا الفعل. وهكذا يتغير المعنى بتغير الإعراب.

أيضًا هذا الصراع اللغوي يختلف في نتائجه وآثاره تبعًا لشدته أو ضعفه، فإذا كان الغزاةُ كَثْرة، وأعقبهم هجرات من الشعب الغازي إلى البلاد المغزوة، يبحثون فيها عن موارد الرزق المختلفة؛ فإن الطبقة العليا -وهي طبقة الحكام- ستكون من الغزاة أو من الفاتحين. والطبقة الوسطى من تجار وصناع وغيرهم، سيكونون من الغزاة. أما الطبقة الدنيا من المجتمع فستكون من أصحاب البلاد الأصليين، وهم الذين هُزموا وغُلِبوا على أمرهم وضعفوا، ومن عادة الضعيف أن يقلد القوي، ومن عادة المحكوم أن يقلد الحاكم؛ ومن ثم لا تمكث اللغة المغزوة وقتًا طويلًا حتى تنهزِمَ، ولكنها مع انهزامها تُؤثِّر في اللغة الغازية.

مثال ذلك: غزو الأنجلوسكسون لبلاد الإنجليز، وهذا كان قديمًا حيث قضت اللغة الغازية الإنجليزية على اللغة الكلتية المغزوة، إلا أن “الكِلتية” تركت بعض الآثار في اللغة الإنجليزية الغازية. ومثال ذلك أيضًا: الفتح الإسلامي لمصر مثلًا، حيث قضت اللغة العربية -لغة الفاتحين- على اللغة القبطية في مصر، بما هيأ الله لها من أسباب النصر؛ إلا أن العربية تأثرت بالقبطية، وبخاصة في المفردات.

ومن الكلمات القبطية التي لا تزال مستعملة في العامية المصرية إلى اليوم كلمات: طوب، كلمة قبطية ومعناها بالقبطية: حجر، وكلمة مِيْت ومعناها: ريف، نقول: ميت عقبة، ميت أبو الكوم، ميت غمر، ميت كذا، ولذلك لا يصح لنا أن نقول: قرية ميت أبو الكوم؛ لأن معنى “ميت” هي قرية، ودخلت اللغة العربية؛ رغم أن اللغة القبطية هُزِمَت وغُلِبَت؛ ولكن مع انهزامها تركت آثارًا في اللغة العربية، وهذه المفردات دليل على تأثر اللغة العربية باللغة القبطية.

أيضًا من الألفاظ القبطية: كلمة “بولاق” ومعناها: شاطئ النهر أو جزيرة، نقول عندنا في مصر: بولاق الدكرور وكلمة: شُونة، موجودة في اللغة العربية ومعناها: مخزن، مقتبسة من اللغة القبطية، وكلمة: زلط ومعناها: حَجر أملس، ومن أراد أن يطلع على كثير من الكلمات هذه، فليرجِعْ إلى تاريخ اللغات السامية لـ (إسرائيل ول فنسون) الطبعة الأولى صـ222.

وكلمة قطن، وهو نبت زراعي، من أراد أن يطلع أيضًا على كثير من الكلمات فلينظر إلى (غرائب اللغة العربية) لـ رافائيل نخلة اليسوعي الطبعة الرابعة 285. وكلمة: “تاتا” كلمة مصرية قديمة ومعناها: امشي. كلمة: “بخ” بمعنى: شيطان، وكلمة ترخ كلمة قبطية، وكلمة المدمس -الفول المدمس- أصلها المتمس بمعنى: الفول المطبوخ في الفرن، كلمة البيصارة أصلها: بيصورة، وهي أيضًا قبطية. كذلك كلمة: “ياما” أيضًا قبطية ومعناها: كثير. كلمة “عنتيل” قبطية، ومعناها: قوي، نقول: فلان عنتيل، يعني: قوي، كلمة “باش الخبز” أي: تبلل. كلمة أيضًا قبطية، ودخلت في اللغة العربية.

ونقول: فلانٌ لايص أي: وقع في الوحل، وكلمة شبرا ومعناها: الحقل، ويُقال: شبرا منت، وكلمة “منيا” التي تسبق أسماء البلاد معناها بالقبطية: محطة، كمنيا القمح، ومنيا… إلى آخره.

هذه الألفاظ كلها ألفاظ قبطية. مثل: الفوطة، والفأس، والماجور، والمنشة، والزباطة، هذه الألفاظ كلها ألفاظ قبطية دخلت اللغة العربية.

ومن أراد أن يكثر من هذه الألفاظ؛ فليرجع إلى (علم اللغة) للدكتور علي عبد الواحد وافي، الطبعة السابعة، نقلًا عن كتاب (آثار حضارة الفراعنة في حياتنا) للأستاذ محرم كمال.

كما تركت الآرامية آثارًا في عربية الشام رغم أنها انهزمت وانكسرت أمام العربية، إلا أنها تركت آثارًا في عربية الشام؛ عندما فتح العرب بلاد الشام والعراقَيْن -عراق العرب وعراق العجم؛ لأن العراق يسمى عراق العرب، وعراق العجم- حيث دخلت العربيةَ كثيرٌ من الكلمات الآرامية، وبخاصة المختصة بالزراعة؛ وذلك لأن الأعراب كانوا يحتقرون الزراعة، فضلًا عن كون بلادهم الأصلية -أي: شبه جزيرة العرب- فقيرة جدًّا بالحيوانات.

يقول الدكتور جواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام): وكراهة العرب للزراعة كراهية نشأت من عدم توافر الماء والأرض لأكثر الناس؛ فصاروا يكرهونها، والآراميون هم الذين غرسوا النخل في تلك البلاد. هذا طبعًا من مرجع (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) أو (تاريخ العرب قبل الإسلام) لجواد علي، الطبعة الأولى الجزء السابع صفحة 27.

فمن الكلمات الآرامية التي دخلت اللغة العربية -رغم انهزام الآرامية- كلمة: بِذر أو بَذَر، وأيضًا حصد، وداسَ؛ لأن كل هذه الكلمات متصلة بالزراعة: حصد الزرع، داس الحِنطة، مثلًا: بِطيخ من الآرامية، بعير كلمة آرامية، تِبن كلمة آرامية، توت كلمة آرامية أيضًا: تين، ثوم، جرجير، خوخ، شتلة، سعتر، فجل، فحل، فرع، فل، كبش، كراث، كرفس، كزبرة، كمثرى، كُنَاشة، كانون، لبلاب، لوف، لبنة، تمساح، خُص، مدماك، مرج، نعناع، ناقوس، نورج، يم. هذه الكلمات كلها كلمات آرامية دخلت اللغة العربية.

ومن أراد الإكثار من هذه، فلينظر إلى (غرائب اللغة العربية) لرافائيل نخلة اليسوعي، من صفحة 170إلى 210.

واللغة البربرية رغم انهزامها في بلاد المغرب أيضًا، ولكنها تركت آثارًا في اللغة العربية.

أما إذا كان الغزاة قلة؛ فإنه بمرور الوقت، ستذوب لغتهم في لغة أصحاب البلاد المغزوة، وفي هذه الحال فإن اللغة المغزوة ستتأثر باللغة الغازية رغم تغلبها عليها، ومثال ذلك: غزو النورمانديين لإنجلترا في القرن الحادي عشر؛ حيث تغلبت اللغة الإنجليزية على لغة الغزاة النورمانديين، ومع ذلك تركت النورماندية الفرنسية آثارًا في اللغة الإنجليزية، واللغة العربية لم تقوَ على الانتصار في بلاد فارس؛ فأطلق اسم إيران على بلاد فارس منذ عام 1935 ميلاديًّا، التي فتحها العرب في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 16 هجرية، فلم تقوَ اللغة العربية على الانتصار -في بلاد فارس- على اللغة الفارسية على الرغم من فتح العرب لبلاد الفارس وبقائها تحت سلطانهم أمدًا طويلًا؛ وذلك لأن الشعب العربي لم يكن إذ ذاك أرقى حضارةً من الشعب الفارسي، ولقلة عدد الجالية العربية بفارس، وضعف امتزاجها بالسكان، ولانتماء اللغتين إلى فصيلتين مختلفتين؛ فالعربية من الفصيلة السامية والفارسية من الفصيلة الهندية الأوروبية. هذا سبب عدم تغلب العربية على الانتصار في بلاد فارس.

أما بلاد العراق والشام، فاللغة العربية واللغة الآرامية فصيلة واحدة والعربية قضت على الآرامية ولكن ليس قضاء كليًّا، فالآن بعض اللهجات من الآرامية -السريانية- موجودة في قرية قربَ دِمشق تسمى قرية “معلولة”. لماذا قضت عليها العربية؟ لأن اللغة الآرامية لغة المَسيحيين، واللغة إذا كانت تستند إلى دين، فإن هذه اللغة تقوى؛ ولذلك فإن اللغة العربية لما استندت إلى الدين الإسلامي؛ تغلبت على بقية اللغات الأخرى كالآرامية، والعبرية، والفينيقية.

error: النص محمي !!