Top
Image Alt

الصلح على الإقرار، والصلح على الإنكار

  /  الصلح على الإقرار، والصلح على الإنكار

الصلح على الإقرار، والصلح على الإنكار

معنى الصلح على الإقرار, أي: أحد طرفي الخصومة يقر بدعوى المدعي، والصلح على الإقرار قد يكون بين المدعي والمدعى عليه، وقد يكون بين المدعي وأجنبي.

أما النوع الذي يكون بين المدعي والمدعى عليه, فيتنوع باتفاق الفقهاء إلى نوعين: صلح عن الأعيان، وصلح عن الديون، والصلح عن الأعيان في حالة الإقرار؛ والأعيان هي العين المعينة كسلعة أو جسم مجسم, وليس دينًا في الذمة؛ إما صلح حطيطة أو صلح معاوضة.

فمثال الصلح عن الأعيان: أن يدعي شخص دارًا في يد شخص, يقول له: هذه الدار داري، والشخص الآخر يعترف له بها ويقر، ويصالحه على نصفها أو ثلثها، فهنا الصلح على الإقرار بين المدعي والمدعى عليه.

وعن صلح الحطيطة؛ فحطيطة أي: يحط منه أو يصالحه على البعض، ولما ضربنا المثال قلنا: إنه يعترف له بالدار، لكن يقول له: أنا أصالحك على نصفها، لا أسلم لك أن الدار دارك، فأنا مقيم فيها منذ زمن، وكان أبي يسكن فيها، وربما كان له فيها حق؛ ولذلك أصالحك على أن أترك لك نصفها أو ثلثها.

والفقهاء اختلفوا في حكم الصلح -صلح الحطيطة، أو صلح التنازل عن بعض الحق في حالة الإقرار- على ثلاثة آراء:

الرأي الأول للحنفية: قالوا: لنا قولان في المذهب:

الأول: ألا يصح هذا الصلح، والمدعي يجوز له الادعاء بالجزء الباقي، أي: حتى لو قبل من الشخص وتصالح على ثلث الدار، أو ربع الدار، أو نصف الدار, فمن حقه بعد ذلك أن يدعي بالجزء الباقي مرة أخرى؛ لأنه يكون قد استوفى بعض حقه، ومسقط للبعض الآخر، والإسقاط عن الأعيان باطل، وهي قاعدة عندهم كما أن بعض المدعى به لا يكون عوضًا عن الكل، فأنا أدعي بأن الدار كلها لي، وأنت تدعي بأن لي بعضها، والبعض هذا لا يكون عوضًا عن الكل.

القول الثاني عند الحنفية: أن هذا الصلح صحيح، وأن هذا الشخص لو جاء وادعى بالجزء الباقي لا يقبل منه، وهذا ظاهر الرواية؛ لأن الإبراء عن البعض المدعى به إبراء عن الدعوى، وكأن أصحاب هذا القول من الحنفية يقولون: إنه ما دام أبرأه عن البعض, فكأنه أبرأه عن الدعوى به، فالصلح صحيح، ولا تسمع منه دعوى بعد ذلك بأن له جزءًا باقيًا.

ففي صلح الحطيطة قولان للحنفية: يصح هذا الصلح، ولا يصح هذا الصلح في القول الثاني.

الرأي الثاني للمالكية والأصح عند الشافعية ورواية عن أحمد: أنه صحيح، فصلح الحطيطة في الأعيان صحيح عندهم، وقالوا: إنه يعد من قبيل هبة بعض المدعى لمن هو في يده، وأصحاب هذا الرأي يقولون: كأنه لو ادعى عليه الدار، وقال له: أصالحك على بعضها، وقَبِل المدعي كأنه وهبه البعض فقبل النصف، وصالحه على النصف الآخر كأنه وهب له النصف الآخر، وسواء وقع بلفظ الهبة أو وقع بلفظ الصلح.

الرأي الثالث للحنابلة، وهو وجه آخر عند الشافعية: قالوا: يصح إذا وقع بلفظ الهبة بأن قال له: أنا موافق على التصالح بالتنازل لك عن نصفها، ووهبته لك، فإذا وقع هذا بلفظ الهبة والمدعي وهب نصفها فأعطني الباقي، هذا جائز؛ لأن التصرف لا يمنع من هبة بعض حقه, فكأنه قال: وهبتك. أما إذا وقع بلفظ الصلح فلا يجوز؛ لأنه يكون قد صالح بعض ماله ببعضه، أو عاوض عن بعضه ببعضه، والمعاوضة عن الشيء ببعضه محظورة.

وعلى كل حال هي مسألة لفظية، فلو قال له: أنا وهبتك هذا الجزء فأعطني الجزء الثاني، هذا يجوز عند أصحاب هذا الرأي، لو قال له: صالحتك به، قال: لا يجوز؛ لأن المعاوضة عن الشيء ببعضه محظورة، أو صالحتك عن بعضه ببعضه محظورة، هذه اختلافات ترجع إلى اللفظ.

كل هذا في صلح الحطيطة، أي: صلح التنازل عن العين أو جزء من العين، لكن صلح المعاوضة هو الذي يجري على غير العين المدعاة، مثال ذلك: أنه جاء وادعى عليه دارًا فيقر له بها، قال له: هذه الدار ملكي، قال له: أقر لك بأنها ملكك، ولكن أصالحك عنها بدار أخرى، فهذا صلح معاوضة، وفي حالة الإقرار، هذا جائز وصحيح باتفاق الفقهاء؛ لأنه إذا تغيرت العين المدعى بها أصبحنا هنا في مجال بيع، فكأن هذا يعد بيعًا، وإن عقد بلفظ الصلح؛ لأنه مبادلة مال بمال. ويشترط فيه جميع شروط البيع، فما يفسد البيع يفسده، وما يشترط في البيع لصحته مشروط هنا؛ من القدرة على التسليم، وأن يقبضه ذلك قبل الافتراق، وألا يكون مما يدخله الربا كأن يصالحه على بُرّ بشعير, هذا يدخل فيه الربا فيكون يدًا بيد، وجميع أحكام البيع تتعلق بهذا الصلح الذي هو عن المعاوضة, فصلح المعاوضة جائز باتفاق الفقهاء ولا خلاف فيه؛ لكن يشترط فيه شروط البيع. هذا الصلح عن الأعيان في حالة الحطيطة أو المعاوضة.

هل يجوز الصلح عن الديون؟

نعم, فلو أن شخصًا له دين في ذمة آخر، هذا الدين الذي يكون في ذمة شخص لآخر قد يكون صلح إسقاط وإبراء، ويسمى صلح الحطيطة، أو يسمى صلح معاوضة، وصلح الإبراء بأن يقول له: أنا لي عندك في ذمتك مائة؛ فيقول له: نعم -هذا على إقرار, أي: يقول له: نعم- ولكن أريد أن نتصالح معًا على نصف هذا المبلغ، فهذا صلح عن دين وعلى إقرار، وصح بالإسقاط هنا بأن يقول له: صالحتك عن المائة الحالّة التي لي عليك على خمسين، أي: يكون الصلح عن دين حالّ ببعضه مؤجلًا، أي: حل ميعادها؛ فقال له: أنا لي عندك مائة وحل موعدها؛ فقال: نعم، ولكن ليس معي مالٌ الآن، قال: أصالحك على خمسين حالة الآن, عَجِّلْنيها.

وقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الصلح على قولين:

القول الأول للجمهور -الحنفية، والمالكية، والشافعية: قالوا: هذا جائز؛ لأنه أخذ بعض الحق وأسقط باقيه، فهذا يجوز.

القول الثاني للحنابلة: قالوا: يجوز هذا الصلح بلفظ الإبراء، أما إذا وقع بلفظ الصلح فلا يصح في أشهر الروايتين، وهنا ينبغي التمسك باللفظ؛ فإذا وقع بلفظ الهبة في الأعيان فإنه يجوز، وإذا وقع بلفظ الصلح فلا يجوز.

فهنا الحنابلة في القول الثاني يقولون: إذا وقع بلفظ الإبراء في حالة الدين يصح، وإذا وقع بلفظ الصلح فلا يصح، كأنه صالح عن بعض ماله ببعضه، والرواية الثانية أنه يجوز، أي: إن أشهر الروايتين أنه لا يجوز، الرواية الثانية يجوز.

هذا بالنسبة للصلح عن الدين الحالّ ببعضه مؤجلًا؛ لكن الصلح عن الدين المؤجل ببعضه معجلًا, أيضًا اختلف الفقهاء على جوازه على قولين:

الأول: قال جمهور الفقهاء: لا يجوز هنا، وعلة المنع أن صاحب الدين المؤجل لا يستحق المعجل، فما دام الدين مؤجلًا فلا تستحقه معجلًا، أي: إن أصل الدين المؤجل يأخذه معجلًا، هذا لا يجوز، ولا يستوفي حقه إلا عند حلول الأجل؛ لأن الأجل ليس بمال، وما دام أدخله أو قدر الأجل بمال فدخلنا هنا في الربا, فلا يجوز.

القول الثاني: جوز ذلك الإمام أحمد، وهي رواية اختارها ابن تيمية وابن القيم، وقالوا: هذا عكس الربا تمامًا، فابن تيمية وابن القيم قالا: لأن الربا عبارة عن أحد الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا ليس كذلك تمامًا، فهذا يتضمن براءة ذمة الشخص الذي يصطلح مما في ذمته في مقابلة سقوط الأجل, فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فكلٌّ منهما منتفع، أي: انتفع كل واحد منهما، هذا كلام ابن القيم، فيقول: هذا ليس ربا لا حقيقة، ولا لغة، ولا عرفًا؛ فإن الربا حقيقته الزيادة، وهي منتفية هنا.

صلح المعاوضة عن الدين على الإقرار:

كأنه حين قلنا: إنه يصالحه هناك في صلح الحطيطة عن الدين, يأخذ بدل المائة خمسين حالّة أو مؤجلة، وعرفنا حكمها، لا الآن يأخذ معاوضة عن الدين، أي: يجري على غير الدين المدعى، بأن يقر شخص الآخر بدين في ذمته، ثم يتفقان على أن يعوضه عنه، فالإقرار هنا إذا كان على إقرار، إما أن يقر بنقد ويصالحه بنقد، كأن يقر له بألف درهم فيصالحه عن غير جنسها؛ يصالح عنها بعشرة دنانير، أو العكس, فهذا جائز؛ لأن له حكم الصرف، ويشترط فيه شروط الصرف من ناحية الحلول والتقابض إلى آخره.

وإن كان الإقرار بعرض، وصالحه عنه بنقد، أو العكس, فهذا له حكم البيع؛ لأن البيع مبادلة مالٍ بمال، فهنا نشترط أحكام البيع, فلا بد من توافر شروط أحكام البيع، إن كان في إقرار بدين في الذمة، ويصالحه بموصوف في الذمة عنه من جنسه بأن يصالحه عن دينار في ذمته بإردبّ من القمح أو الشعير, فالصلح صحيح عند الجمهور بشرط التقابض قبل التفرق من المجلس؛ لأنه لو تفرقا قبل أن يقبض كل منهما هذا بدل ذاك, صار من بيع الدين بالدين وهو منهيّ عنه.

error: النص محمي !!