Top
Image Alt

الصلح على الإنكار

  /  الصلح على الإنكار

الصلح على الإنكار

لأن كل ما سبق كان في الصلح على الإقرار, فهناك المدعي والمدعى عليه, وأحدهما ينكر لكن يقر بما عليه، ثم يحصل تصالح على الوجه الذي ذكرناه، إما تصالح على البعض، أو تصالح على العوض… إلى آخر، لكن هنا أحكام الصلح على الإنكار، بمعنى: أن للمدعي حقًّا لا يعلمه المدعى عليه, فيدعي شخص على آخر شيئًا، وينكره المدعى عليه، ثم يصالح عنه.

والفقهاء اختلفوا في حكم هذا الصلح -أي: لو قال شخص لآخر: أنا لي عندك مائة جنيه، أو مائة دينار، فينكره المدعى عليه، ثم يقول المدعى عليه: أرحني من هذه المطالبة, وخذ بدل المائة التي تدعيها خمسين، كأنه بعد أن أنكر تصالح:

الرأي الأول: قال جمهور الفقهاء: هذا الصلح جائز مع إنكار المدعى عليه، بشرط أن يكون المدعي معتقدًا أن ما ادعاه حق، والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه.

فقالوا: هذا يجوز, بشرط أن كل واحد منهما يعتقد أن كلامه صحيح، المدعي يدعي أن ما ادعاه حق، والمدعى عليه يعتقد أن ليس له حق، فيدفع إلى المدعي شيئًا لقطع الخصومة، كأن يقول له: أرحني من خصومتك ونزاعك, وهذه خمسون بدل المائة، بعد أن أنكر، فيدفع له شيئًا لقطع هذه الخصومة.

وجمهور الفقهاء يقولون: أما إذا كان عالمًا بأنه كاذب -عالمًا بكذب نفسه- فالصلح باطل في حقه، وما أخذه بالكذب حرام، فكأن الكلام في جانب المدعي إذا كان يعلم بكذب نفسه والمدعى عليه أراد أن يريح نفسه من الطلب, فأعطاه خمسين بدل المائة، وأخذه وهو يعلم أن ما أخذه ليس له، وأخذه بالكذب فهو حرام؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل.

أدلة الجمهور كثيرة؛ منها قول الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}, فيدل إطلاقه على أن الصلح خير, على أن كل صلح مشروع إلا ما خصه الدليل؛ ولذلك فالصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، وهذا الصلح أحل حرامًا على المدعي فجعله يقبل خمسين من المدعى عليه، وهو ليس له فيها حق. 

أيضًا يستدلون بأن الصلح إنما شرع لقطع الخصومة، وهذه الحاجة عند الإنكار أولى بالجواز منها عند الإقرار، كأنهم يقولون: إن الصلح ما دام شرع للحاجة إلى قطع الخصومة، فما دام في حالة الإقرار جائزًا يبقى في حالة الإنكار أولى؛ لأن الإقرار مسالمة، وهذا ما عبر عنه ابن قدامة بقوله: إذا حل مع اعتراف الغريم, فلأن يحل مع جحده وعجزه عن الوصول لحقه إلا بذلك أولى.

والصلح على الإنكار كأنهم يقولون: إن افتداء اليمين جائز؛ لما روي عن عثمان، وابن مسعود أنهما بذلا مالًا في دفع اليمين عنهما، فالصلح على الإنكار ما دام الإنسان يدفع عن نفسه مالًا -أي: يفتدي به دخوله مثلًا في خصومة ومنازعة- جائز من باب أولى ما دام الإنسان يفتدي اليمين بالمال, فيبقى الصلح على الإنكار جائزًا لدفع الخصومة, قياسًا على اندفاع اليمين عن الإنسان إذا جازت عليه, هذا بالنسبة للرأي الأول.

الرأي الثاني: قال الشافعية: الصلح على الإنكار باطل، فلا يصح الصلح إلا مع الإقرار، واستدلوا على ذلك بأن الصلح مع الإنكار أحل حرامًا أو حرم حلالًا؛ لأن المدعي إن كان كاذبًا فقد استحل مال المدعى عليه وهو حرام، وإن كان صادقًا فقد حرم على نفسه ماله الحلال؛ لأنه يستحق جميع ما يدعيه، وفي كل من الحالتين هنا الإنكار أحل حرامًا أو حرم حلالًا.

حكم الصلح على الإنكار بين المدعي والمدعى عليه, عند القائلين به:

قال الجمهور: يراعى فيه من الصحة ما يراعى في البيوع، والمشهور عند مالك وأصحابه أنهم قالوا: الصلح الذي يقع فيه ما لا يجوز في البيوع صلحٌ يفسخ باتفاق, فكما أن هناك بيعًا يفسخ باتفاق وصلحًا يفسخ باختلاف, هناك بيع يفسخ باختلاف، وصلح لا يفسخ باتفاق إن طال, وإن لم يطل فيه خلاف، كأنهم قالوا: يراعى في الصحة في الصلح على الإنكار بين المدعي والمدعى عليه ما يراعى في البيوع، وهذا عند جمهور الفقهاء من حنفية ومالكية وحنابلة، وهذا قول المالكية.

أما الحنفية والحنابلة ففرقوا بين الحكم في حق المدعي, والحكم في حق المدعى عليه؛ حيث قالوا: المال المصالح به في الصلح على الإنكار يكون معاوضة في حق المدعي؛ لأنه يعتقد أنه أخذ عوضًا عن حقه فيلزمه ما اعتقده، وبناءً على ذلك فإذا كان الصلح على الإنكار أخذ المدعي شيئًا عوضًا عن دعواه، وكان هذا مثلًا مما يشفع فيه ثبتت فيه الشفعة؛ لأن المدعي أخذه عوضًا فكأنه اشتراه، وبالنسبة للمدعى عليه دفعه قطعًا للمنازعة وخلاصًا من اليمين، فكأنه أعطى عوضًا على سبيل الخلاص من النزاع، وبناءً على ذلك لو كان ما صالح به المنكر جزءًا مثلًا لم تثبت فيه الشفعة، والمدعي يعتقد أنه أخذه يكون ذلك استرجاعًا لماله كاسترجاع العين المغصوبة, وليس من باب المعاوضة.

الصلح بين المدعي والأجنبي:

اختلف الفقهاء في ذلك؛ فالحنفية يقولون: إن الصلح بين المدعي والأجنبي لا يخلو إما أن يكون بإذن المدعى عليه أو بغير إذنه، أي: الأصل أن هناك مدعيًا ومدعًى عليه، لكن المدعى عليه اختفى ولم يظهر في الصورة، والصلح تم بين المدعي وشخص أجنبي، المدعى عليه أذن له أن يصالح، فالحنفية يقولون: إن كان الصلح مع الأجنبي بإذن المدعى عليه كان الصلح صحيحًا، وكان هذا الأجنبي وكيلًا على المدعى عليه في الصلح، وإن كان هذا الأجنبي تصالح مع المدعي, فلنفترض أن شخصًا قال لآخر: أنا أدعي أن هذا البيت المملوك لفلان ملكي، فهذا لا يعني: أنا أعتقد أن هذا ليس ملكك، وإذا كنت تدعي أنه ملكك, أنا أعرف أنه ليس ملكك وتعالَ نتصالح، هذا شخص أجنبي، وأراد أن يتصالح بغير إذن المدعى عليه صاحب الدار.

فالحنفية يقولون: إن كان هذا الصلح بغير إذن المدعى عليه فهذا صلح فضولي، أي: شخص فضولي ظهر من غير أن يكون له حق وتصالح مع المدعي، إذا أراد أن يتصالح وتصالح وقبل المدعي الصلح, فإما أن يضيف الفضولي الصلح إلى نفسه، فيقول: تصالحت مع فلان عن الدار، هذا صلح صحيح، ويلزم الفضولي بدل الصلح؛ لأنه أدخل نفسه في مكان ليس من حقه، وتصالح على شيء يلزمه بدل الصلح، هذا في حالة ما إذا تصالح وأضاف الصلح إلى نفسه، فقال: أنا الذي أتصالح، وهو فضولي لم يأت باسم الشخص المدعى عليه، ولم يظهر في صورة المصالحة.

لكن إذا أضاف الفضولي الصلح إلى المدعى عليه, فهذا الأمر له تفصيلات كثيرة، حيث قالوا: إن له خمس صور؛ أربعًا منها صحيحة والخامسة موقوفة، وهذه الصور البحث فيها يطول فتطلب في مظانّها. هذا كلام الحنفية بالنسبة لصلح المدعي مع الأجنبي.

أما المالكية فقالوا: يجوز للشخص أن يصالح غيره بوكالة أو بغيرها، ويلزم المصالح ما صالح به، هذا كل ما قاله المالكية في هذه المسألة, وهو قريب من مذهب الحنفية؛ فبوكالة يجوز، وبغير وكالة يعتبر فضوليًّا، ويلزم المصالح ما صالح به.

وقال الشافعية في الصلح بين المدعي والأجنبي: إما أن يكون هذا الصلح مع إقرار المدعى عليه أو مع إنكاره، فالشافعية ربطوها بحالة ما إذا كان المدعى عليه يقر أو ينكر، والصلح يتم مع أجنبي، أي: يكون المدعي بدعواه مع شخص ينكر، ثم يأتي الصلح مع أجنبي عن هذا المدعي المنكر أو المقر.

فالشافعية يقولون: هناك فرق بين الحالتين؛ بين ما إذا كان المدعى به عينًا أو دينًا، وإذا كان المدعى به عينًا أو دينًا, فهذا له اختلافات طويلة ذكرتها كتب الشافعية باستفاضة، وتطلب في مظانها.

أما الحنابلة فقالوا: يكون صلح الأجنبي مع المدعي في حالة الإنكار فقط، ولم يتعرضوا لصلحه في حالة الإقرار، وقالوا: إن الحكم يختلف بين ما إذا كان صلح الأجنبي عن المنكر عن العين، أو عن الدين، وبذلك تبنى تفصيلات كثيرة إذا كان عن العين أو الدين وتطلب في مظانها.

error: النص محمي !!