Top
Image Alt

الطعن في بعض الأحاديث الصحيحة: حديث موسى وملَك الموت

  /  الطعن في بعض الأحاديث الصحيحة: حديث موسى وملَك الموت

الطعن في بعض الأحاديث الصحيحة: حديث موسى وملَك الموت

أشهر مَن فعَل ذلك، قديمًا وحديثًا:

لقد وجّه بعض الطوائف والأفراد نقْده لأحاديث بعَيْنها، بدعوى أنّ فيها نكارة، وأنها تُخالف العقل والواقع! دون الْتفات منهم لكونها صحيحة ثابتة، ولا لكوْنها ممّا جاء في (الصحيحيْن) أو أحَدهما، ولا لكونها ممّا احتجّ بها أهل الاختصاص، وهم: المحدِّثون، والحُفّاظ، والنّقّاد، الذين عليهم المُعَوّل في هذا الشأن.

وممّن نحَا هذا المنحى مِن المتقدِّمين: طوائف من أهل الكلام من الجهمية، والمعتزلة، وكذلك الشِّيعة. ومن المتأخِّرين: الشيخ: محمد رشيد رضا -في بدء أمْره- ومحمود أبو ريّة، ومحمد توفيق صدقي، ومحمد الغزالي، وغيرهم…

وسوف أستعرض كلامهم هنا في حديثيْن صحيحيْن طعنوا فيهما، هما: حديث: فَقْء  موسى  عين ملَك الموت، وحديث: وقوع الذّباب في الإناء. ثم أُتبع ذلك بالرد العلميّ عليهم في ذلك.

حديث موسى, وملَك الموت:

روى البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة : أنه قال: ((أُرسِل ملَك الموت إلى موسى  فلمّا جاءه صكّه ففقأ عيْنَه. فرجع إلى ربه، فقال: أرسلْتني إلى عبْد لا يريد الموت. قال: فردّ الله إليه عيْنه، وقال: ارجع إليه، فقلْ له: يضَع يدَه على متْن ثوْر، فله بما غطّتْ يدُه بكلّ شعْرة سَنَة. قال: أي رب! ثم مه؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل اللهَ أنْ يُدنيَه مِن الأرض المقدّسة رمية بحجر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنتُ ثمَّ، لأريتُكم قبْره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر)).

هذا حديث صحيح، حَكَم أهل الحديث بصحَّته، وقد حَمَله أهل السّنّة على ظاهره، وأنّ موسى  فقأ عيْن ملَك الموت المُتمثّل في تلك الصورة حقيقة؛ وقد فعل ذلك -بإذن مِن الله تعالى.

وهذا خبَر إنما يُدرِك معناه مَن لمْ يُحرَم التوفيق لإصابة الحقّ.

فإن الله أرسل ملَك الموت إلى موسى  رسالة ابتلاء واختبار، وهو سبحانه لا يريد إمضاء ما أمر به، كما أمر إبراهيم  مِن قبْل بذبْح ابنه أمْر ابتلاء واختبار. وقد جاءه الملَك في صورة لا يعرفه عليها، وكان موسى  غيورًا، وقد رأى رجلًا في داره لا يعرفُه، فلطمه ففقأ عيْنه.

ومن المعلوم في شرعنا: أنّ مَن فقأ عيْن الدّاخل داره بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته مِن غيْر أمْره، فلا حرج عليه. فما فعَلَه موسى كان مُباحًا له لا حرج عليه في فعْله؛ لأن ذلك ممّا يجوز اتّفاق الشرائع فيه.

فرجع ملَك الموت إلى ربّه وأخبره بما فعّل موسى  فأمَره أمْر ابتلاء واختبار آخر لموسى  بأن يضع يده على متن ثور، وله بما غطّت يده من شَعره بكل شعرة سَنة. فلمّا علِم موسى أنّه ملَك الموت، وأنه جاء بأمْر مِن عند الله، طابت نفسه بالموت ولم يستمهل، وقال: فالآن.

فلو علِمه موسى  في المرّة الأولى لما فعَل ما فعَل.  هذا ما ذهب إليه أصحاب الحديث، خلافًا لمَن زعم أنهم حمالة الحطب، ورعاة الليل، يجمعون ما لا ينتفعون به، ويَروُون ما لا يُؤجَرون عليه، ويقولون بما يُبطله الإسلام، جهلًا منه لمعاني الأخبار، وترْك التّفقّه في الآثار، معتمدًا منه على رأيه المنكوس، وقياسه المعكوس.

قال النووي -رحمه الله-: “قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث، وأنكر تصوّره: قالوا: كيف يجوز على موسى فقءُ عيْن ملَك الموت؟ قال: وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة:

أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى  قد أذِن الله تعالى له في هذه اللّطمة، ويكون ذلك امتحانًا للملطوم، والله سبحانه وتعالى يفعل في خلْقه ما يشاء، ويَمتحِنهم بما أراد.

والثاني: أنّ هذا على المجاز؛ والمراد: أن موسى ناظَره وحاجّه فغلَبه بالحُجّة. ويقال: فقأ فلانٌ عيْن فلان، إذا غالبه بالحُجّة. ويقال: عورتُ الشيء، إذا أدخلت فيه نقصًا. قال: وفي هذا ضعف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ((فرَدّ الله عَيْنَه)). فإن قيل: أراد: ردّ حُجّته، كان بعيدًا.

والثالث: أنّ موسى  لمْ يعلَم أنه ملَك من عند الله، وظن أنه رجل قصَده يريد نفْسه، فدافعه عنها، فأدّت المدافعة إلى فقْء عيْنه، لا أنه قصدها بالفقْء. وتؤيِّده رواية: صَكَّه. وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره مِن المُتقدِّمين. واختاره المازري والقاضي عياض. قالوا: وليس في الحديث تصريحٌ بأنه تعمّد فقْء عيْنه.

فإن قيل: فقد اعترف موسى حين جاءه ثانيًا بأنه ملَك الموت!.

فالجواب: أنه أتاه في المرّة الثانية بعلامة علِم بها أنه ملَك الموت، فاستسلم، بخلاف المرّة الأولى.

وقد أثار محمود أبو ريّة، ومحمد الغزالي بعض الشّبهات حول هذا الحديث، أُجملها في النقاط التالية:

  1. أنه مرويّ عن أبي هريرة -وقد جادل البعض في صحته-“، وأنّ في متنه علّة قادحة تَنزل به عن مرتبة الصِّحّة. والعلة في المتون يُبصرها المحقِّقون، وتخفَى على أصحاب الفكر السّطحيّ.
  2. أنه مُشكل وتفوح منه رائحة الإسرائيليات.
  3. أنّ مَتْنَه يُثير الريبة؛ لأنه يفيد أنّ موسى يكْره الموت، ولا يحب لقاء الله؛ وهذا معنى مرفوض عند الأنبياء والصالحين، لِمَا جاء في الحديث الآخَر: ((مَن أحبّ لقاءَ الله، أحبّ اللهُ لقاءَه)).
  4. أنّ الملائكة لا تَعرض لهم العاهات التي تَعرض للبشر مِن عمًى وعوَر.

أما الشبهة الأولى:

1. أنه مرويّ عن أبي هريرة -وقد جادل البعض في صحته-“، وأنّ في متنه علّة قادحة تَنزل به عن مرتبة الصِّحّة. والعلة في المتون يُبصرها المحقِّقون، وتخفَى على أصحاب الفكر السّطحيّ:

الجواب:

أولًا: هذا حديث صحيح، تلقّاه علماء الحديث بالقبول والتسليم، لأنه ورد إليهم عن طريق الثقات الأثبات المأمونين؛ ولذا أوردوه في دواوين الإسلام مِن صحاح وسنن وجوامع، مسلِّمين بصحّته معتقدين بمضمونه.

وقد رواه البخاري ومسلم في صحيحَيْهما، والنسائي في سُننه، والإمام أحمد في مسنده، وابن حبّان في صحيحه، وعبد الرزاق في مصنَّفه، وابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث)، وغيرهم…

وقد تصدّى جمْع من علماء الإسلام والأئمة الأعلام للرّدّ على مَن طَعَن فيه بالتكذيب، ودحضوا شبهاتهم، وكشفوا عُوارهم، فلم يبْق لدَعيٍّ حجة بوجْه.

ثانيًا: لم يُبيِّن هؤلاء الطاعنون مَن هؤلاء الذين جادلوا في صحّته، ولعلهم يعنون مَن وصفهم المازري بالملحدين؛ فهؤلاء لا حُجّة في قولهم، ولو أجمعوا على ذلك، كيف وهم ملحدون؟! ومن العار -بل من الضلال- أنْ يكون سلف هذيْن في تصحيح الأحاديث وتضعيفها هؤلاء.

ثالثًا: ما هي العلّة القادحة التي ادّعاها هؤلاء في متْن هذا الحديث؟ ومَن سبقهم إليها من علماء الإسلام الذين يؤخذ بقولهم ويُعتمد على تصحيحهم وتضعيفهم؟.

رابعًا: قول الغزالي: “العلّة في المتون يُبصِرها المحقِّقون، وتخفى على أصحاب الفكْر السّطحيّ”.

مَن هُم المحققون الذين يعْنيهم الغزالي؟ لعله يعْني النّظَّام وشيعته، الذين كشف ضلالَهم ابن قتيبة وابن خزيمة وغيرهم حول هذا الحديث، أو لعلّه يعني مَن سمّاهم المازري بالملحدين؛ فإن لم يكونوا هؤلاء، فلِمَ لم يكشف لنا عن أسمائهم، أو على الأقل اسم و احد منهم؟!.

ثم مَن هم أصحاب الفكر السّطحيّ؟ أظنه يعني: الإمام أحمد، والبخاري، ومسلمًا، والنسائي، وابن قتيبة، وابن خزيمة، والمازري، والقاضي عياض، والنووي، وغيْرهم مِن أئمة الإسلام وعلمائه، ممّن روى هذا الحديث، وحكَم بصحته، وآمن به، وردّ كيْد الطاعنين فيه.

إنها إساءة بالغة تُوجَّه لعلماء الإسلام وأئمته، ممّن اعترفت لهم الأمّة بالفضل، وأجمعت على جلالتهم وعلوّ قدْرهم. وعلى النقيض مِن هذا، يُمدَح أهل البدَع والضلال ويُمجَّدون. إنه جوْر وظلْم وتجنٍّ على العلْم وأهله؛ نسأل الله السلامة والعافية.

2. الزعم بأنه مُشكل، وأنه تفوح منه رائحة الإسرائيليات:

الجواب:

لا إشكال في الحديث -كما توهّم أبو ريّة- والحديث مرفوع ثابتٌ رفْعُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء  في رواية همام بن منبه. ورواية طاوس أيضًا لها حُكم الرفْع، لأنه ممّا لا مجال للرأي فيه، وما كان كذلك فله حُكم الرّفع؛ فهذا يبعد كوْنه مِن الإسرائيليات.

ولو كان كذلك، لما خفِي على علماء الأمة وجهابذتها، ولَسارعوا بِبيان ذلك وإيضاحه؛ وهم أعلَم بذلك وأوْعى.

قال الشيخ المعلّمي في ردّه على أبي ريّة: “قد علمْنا أنّ كلام الأنبياء كلّه حقّ من مشكاة واحدة،  وأنّ الرب الذي أوحى إلى أنبياء بني إسرائيل هو الذي أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولو جاز الحُكم بالرائحة لما ساغ أدنى تشكّك في حُكم البخاري، لأنه أعرف الناس برائحة الحديث النبوي، وبالنسبة إليه يكون أبو رية أخشم، فاقد الشّمّ أو فاسده”.

3.  إنّ كراهية الموت أمْر فطريّ في البشَر، وقد شرع الله الدِّفاع عن النفس، ونهَى عن إلقائها في التّهلكة:

وقد اتّخذ الأنبياء -مع أنهم أكثر الناس شجاعة- مِن الأسباب الواقية المشروعة ما يَدفعون به الأخطار وغوائل الأعداء.

فالنبي صلى الله عليه وسلم هاجر خفْية، واختفى في الغار، وأعمى أخباره عن الأعداء، واتّخذ حراسًا يحرسونه حتى نزل قول الله تعالى: {يَـَأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] فصرفهم عن حراسته، وظاهَر يوم أحُد بين دِرعيْن.

وقد وقع لموسى من ذلك أمور، كما قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رَآهَا تَهْتَزّ كَأَنّهَا جَآنّ وَلّىَ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يَمُوسَىَ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنّكَ مِنَ الاَمِنِينَ} [القصص: 31]. وقال تعالى: {وَجَآءَ رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىَ قَالَ يَمُوسَىَ إِنّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ} [القصص: 20].

وهذا كلّه مِن الأسباب الشّرعية المعقولة، التي لا تخدش في مقام الأنبياء، ولا مكانتهم.

وموسى لم يعلَم أن ذلك المعتدي عليه ملَك الموت، ولذلك لطَمه دفاعًا عن نفسه وردًا لغائلته، لا فرارًا من موت، ولا رغبة في حياة؛ ولذا لما علِم في المرة الثانية أنه ملَك الموت رغب في لقاء ربه، واختار الموت دون الحياة.

ولا معارضة بين هذا الحديث وبين حديث: ((مَن أحبّ لقاءَ الله أحبّ اللهُ لقاءَه)). وهذا بيانه:

روى مسلم، بسنده إلى عائشة  قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومَن كرِه لقاء اللهِ كرِه اللهُ لقاءَه. فقلت: يا نبي الله، أكراهيّة الموت؟ فكلّنا نكْره الموت. فقال: ليس كذلك، ولكنّ المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله ورضوانه وجنّته، أحبّ لقاء الله، فأحب الله لقاءه. وإنّ الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله وسخطه، كرِه لقاءَ الله، وكرِه اللهُ لقاءه)).

وروى بسنده عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومَن كره لقاءّ اللهِ كرِه اللهُ لقاءه. والموت قبْل لقاء الله)).

وروى بسنده أيضًا، عن شريح بن هانئ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحبّ لقاء الله أحبّ اللهُ لقاءه، ومَن كره لقاء الله كرِه الله لقاءه)). فأتيت عائشة فقلت: يا أمّ المؤمنين. أسمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله حديثًا؟ إن كان كذلك فقد هلكْنا. فقالت: إنّ الهالك مَن هلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحبّ لقاء اللهِ أحبّ الله لقاءه، ومَن كرِه لقاء الله كرِه الله لقاءه)). وليس منا أحَد إلا وهو يكره الموت. فقالت: قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بالذي تذهب إليه؛ ولكن إذا شخص البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد، وتشنّجت الأصابع، فعند ذلك مَن أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومَن كرِه لقاء الله كرِهَ اللهُ لقاءه.

قال النووي -رحمه الله-: “هذا الحديث يُفسِّر آخِرُه أوَّلَه، ويُبيِّن المراد بباقي الأحاديث المُطلقة: مَن أحبّ لقاء الله، ومَن كره لقاء الله.

ومعنى الحديث: أنّ الكراهة المُعتبَرة هي التي تكون عند النّزع في حالة لا تُقبل توبته ولا غيرها، فحينئذ يُبشَّر كل إنسان بما هو صائر إليه وما أُعِدّ له، ويكشَف له عن ذلك”.

ومن هنا، يتبيّن أنّ حب لقاء الله وكراهيته ليسا على إطلاقهما، وإنما ذلك مقيّد بوقت محدود وزمن معيَّن، وهو الذي نصّ عليه الحديث: ((إذا شَخَص البصر…)) إلخ.

وبيّن ذلك النووي -رحمه الله. وليست هي كراهية الموت التي طُبع عليها البشر قبل تلك الحال. وقد خَطّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن فهم ذلك. والحال التي جابه فيها موسى ملَك الموت -عليهما السلام- ليست هي الحال التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بِذِكر الحديث.

4. القول بأنّ الملائكة لا تعرض لهم العاهات التي تَعرض للبشر، دعوى تحتاج إلى دليل. وما المانع في ذلك؟:

وهم خلْق مِن خلْق الله وُجدوا مِن عدَم، فوهب الله لهم الحياة، ثم يموتون ويفنَون بقدرة الله تعالى؛ فمن جاز عليه الموت، فغيره ممّا هو دونه مِن العاهات أولى بالجواز.

وقد جاء في القرآن والسُّنّة ما يُثبت أنّ الملائكة يتمثّلون في صُوَر البشر، كما جاءوا إلى إبراهيم, ولوطٍ,  وكما تمثّل الملَك لمريم -عليها السلام- في صورة رجُل، كما قال سبحانه: {فَتَمَثّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17].

وقد كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دِحية الكلبي، وفي صورة رجل من الأعراب، فما المانع أنْ يتمثّل ملَك الموت في صورة رجل، ثم يأتي إلى موسى  وهو لا يعرفه، وقد ظنه عاديًا يريد الاعتداء عليه، فدافعه عن نفْسه، فلطمه ففقأ عيْنَه.

وليس ذلك بغريب على موسى, فقد وكز القبطي فقضى عليه، ولم يكن يريد ذلك، كما قال سبحانه: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىَ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـَذَا مِنْ عَدُوّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىَ فَقَضَىَ عَلَيْهِ قَالَ هَـَذَا مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ إِنّهُ عَدُوّ مّضِلّ مّبِينٌ (15) قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ} [القصص: 15، 16].

واللطمة إنّما أذهبت العيْن التي هي تَخييل وتمثيل، وليست حقيقة، فلما عاد ملَك الموت إلى حقيقته، لم ينتقص منه شيء؛  فتأثير اللطمة إنما كان على ذلك الجسد العارض، وفقْء العيْن عبارة عن عاهة عارضة للصورة التي تمثل بها الملك، وليست للصورة التي خُلِق عليها.

ونفْي الحقيقة هنا ليس نفيًا لحقيقة اللّطمة، ولا لتأثيرها، وإنما هو نفْي لوقوعها على ذات الملَك في خِلْقته الحقيقية.

error: النص محمي !!