العاطفة هي روح النص الأدبي، ومقاييس الحكم عليها
العاطفة في القصيدة كالماء الساري في العود الأخضر، فإذا جف هذا الماء ذبل هذا العود وأصبح هشيمًا لا قيمة له، كذلك العاطفة في الشعر.
والعاطفة في الشعر متنوعة؛ فعاطفة الحزن، وعاطفة الحب، وعاطفة الحقد أو الكره، هذه عواطف تتأثر بها نفس الشاعر؛ بسبب المواقف، والمثيرات، والخواطر.
والمقاييس القديمة التي اعتبرت في النقد العربي للحكم على العاطفة تتمثل فيما يلي:
أولًا: صدق العاطفة.
وثانيًا: قوة العاطفة.
وثالثًا: ثبات العاطفة أو استمرارها.
ورابعًا: تنوع العاطفة أو شمولها.
وخامسًا: سمو العاطفة أو درجتها.
هذا تعبير الدكتور أحمد الشايب عن المقاييس التي تقاس بها العاطفة في الأدب، وهي مستقاة من النقد القديم كما أشرت.
وصدق العاطفة وصدور الشاعر في شعره عن عاطفة صادقة لا تزوير فيها ولا افتعال هو مدار الحكم بالجودة على النص الأدبي من هذه الجهة في النقد الحديث أيضًا.
يمكن أن يكون هناك خلاف بين النقد القديم والنقد الحديث فيما يتعلق بسمو العاطفة، نحن نرى أن المذاهب الجديدة ترحب بالعواطف التي يضمنها الشعراء شعرهم، حتى لو كانت هذه العواطف في نظر كثير من الناس عواطف غير سامية. فالتعاطف مثلًا مع بنات الليل اللائي يبعن الهوى، هذا التعاطف مع هذا الصنف من الناس في نظر كثير من الناس لا يعبر عن عاطفة سامية، لكن عند كثير من النقاد يقدر هذا الأمر، ويشاد به على أنه نوع من الإنسانية الرحبة والتسامح، والمدار على الصدق صدق الشاعر في التعبير عن عاطفته التي يحسها ويشعر بها، دون تزوير، دون تزيين، دون تزييف حتى لو كانت هذه العاطفة غير سامية.
أفاد النقد الحديث بطبيعة الحال من الأفكار الجديدة، ومن المذاهب الأدبية والنقدية الجديدة في النظر إلى العاطفة والحكم عليها، وكثير من النقاد كتبوا بحوثًا قيمة ومهمة حول العاطفة في العمل الأدبي وخاصة في الشعر، وجعلوا التناسق بين القيم الشعورية والقيم التعبيرية هو مناط الجودة والتفاضل بين شاعر وشاعر آخر.
من الكتب الجيدة التي تحدثت عن المقاييس الخاصة بمضمون الشعر أيضًا كتاب الأستاذ سيد قطب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) تحدث عن التجربة الشعورية بوصفها مادة التعبير الأدبي، وبوصفها الهدف الذي من أجله كانت القصيدة، وإذا كانت غاية العمل الأدبي هي مجرد التعبير عن تجربة شعورية تعبيرًا موحيًا مثيرًا للانفعال في نفوس الآخرين، فإن هذا الناقد يرى أن هذه الغاية ليست بالأمر اليسير؛ لأن كل تجربة شعورية يصورها أديب تصبح ملكًا لكل قارئ مستعد للانفعال بها، فإذا انفعل بها فقدأصبحت ملكه، وأضاف بها إلى رصيده من المشاعر صورة جديدة ممتازة. ويشيد سيد قطب -رحمه الله- بالأدباء الكبار والشعراء العظام؛ لأنهم يعبرون عن تجارب شعورية عميقة، وعن عواطف إنسانية صحيحة.
والقارئ عندما يقرأ لهؤلاء الأدباء فإنه يمضي معه في رحلة ممتعة ومفيدة أيضًا، وضرب مثالًا أو أمثلة لذلك، لم يقتصر فيها على الأدب العربي. اختار نموذجًا لطاغور، وقال في تقديمه لهذا النموذج: “تعالَ نصاحب طاغور فترة من الوقت في عالمه الراضي السمح؛ فإن عنده دائمًا ما يعطيه، ولن نعود صفر اليدين بعد رحلة مع هذا الروح المانح الوهاب، وأتى بهذا النص الذي يقول فيه طاغور: اليوم لم يختم بعد، والسوق التي على شاطئ النهر لا تزال، لقد خفت أن يكون يومي قد تبدد، وآخر دراهمي قد ضاع، ولكن لا، لا يا أخي؛ إني ما زلت أملك شيئًا؛ لأن حظي لم يسلبني كل شيء، الآن انتهى البيع والشراء، لقد جمعت حصيلتي من الطرفين، والآن حان وقت عودتي إلى البيت، ولكن أيها الحارس أفتطلب ضريبتك؟ لا تخف يا أخي؛ لأني ما زلت أملك شيئًا؛ لأن حظي لم يسلبني كل شيء، إن سكون الريح ينذر بالعاصفة، وإن السحب المتجهمة في الغرب لا تبشر بخير، والماء ساكن ينتظر الريح. أما أنا فأهرول لأعبر النهر قبل أن يدركني الليل، ولكن يا صاحب المعبر أفتريد أن تطلب أجرك؟ أجل يا أخي، إني ما زلت أملك شيئًا؛ لأن حظي لم يسلبني كل شيء.
وفي ظلال الشجرة على جانب الطريق تربع الشحاذ، واأسفاه إنه يحدق في وجهي وفي عينيه رجاء وحياء، إنني في ظنه غني بما ربحت في يومي، أجل يا أخي إني ما زلت أملك شيئًا؛ لأن حظي لم يسلبني كل شيء، لقد اشتد ظلام الليل وأقفر الطريق، وتألق الحباحب بين أوراق الشجر، من عساك تكون يا من تتبعني في خطوات متلصصة صامتة؟ آه، لقد عرفت إنك تريد أن تسرق مني كل أرباحي، لن أخيب ظنك لأني ما زلت أملك شيئًا؛ لأن حظي لم يسلبني كل شيء.
وصلت المنزل عند منتصف الليل بيدين فارغتين، وأنت لدى الباب تنتظرين في يقظة وصمت، وفي عينيك الرغبة، وكعصفورة وجلة طرت إلى صدري يدفعك حب تواق، آه يا إلهي، إن شيئًا كثيرًا ما يزال باقيًا معي؛ لأن حظي لم يخدعني ويسلبني كل شيء”.
هذا النص يقول الأستاذ سيد قطب عنه: “أترى أنها رحلة إلى السوق، أم أنها رحلة في حياة؟ وأي رضاء، وأي اطمئنان، وأي ثقة تلك التي تستشعرها في هذه الرحلة مع طاغور؟! الحياة تعطي والحياة تأخذ، ولكن هناك في النهاية ثروة لا تنفد؛ ثروة القلب والشعور، وتلك السماحة الراضية حتى مع السارق المتلصص الذي يريد أن يسرق أرباح اليوم كله، يقول له: لن أخيب ظنك، وذلك الحب العميق الشفيف الرفاف عندما يقول: وأنت لدى الباب تنتظرين في يقظة وصمت، وفي عينيك الرغبة، وكعصفورة وجلة طرت إلى صدري يدفعك حب تواق: فواضح أن الشاعر وضح أنه أنفق كل ما كان معه. وصلت المنزل عند منتصف الليل بيدين فارغتين، لكن قلبه ما يزال عامرًا بالحب: إن هذا القلب الكبير غني بما يمكن أن يعطيه ويسعد به الآخرين حتى لو كان صاحبه صفر اليدين من المال”.
يقول الأستاذ سيد قطب في نهاية تعليقه على هذا النص: “إن لحظات مع هذا الإنسان في هذا العالم الراضي كالفردوس الناعم كالأحلام، لهي عمر جديد وكون جديد، بالتأكيد نحن نتفاعل مع هذا النص ونحس به ونغني مشاعرنا وعواطفنا، وتجربتنا الشعورية تزداد ثراء؛ لأننا أضفنا إليها هذه التجربة الرائعة التي عبر عنها هذا الشاعر”.
وأتى الناقد بتجربة شعورية أخرى عبر عنها الخيام، وتجربة الخيام تجربة رجل حائر يائس يبحث عن أسرار الوجود، وأسرار الموت والفناء، وعبر عن هذه التجربة في رباعياته في مثل قوله:
أحس في نفسي دبيب الفناء | * | ولم أصب في العيش إلا الشقاء |
يا حسرتى إن حان حيني ولم | * | يتح لفكري حل لغز القضاء |
ويقول سيد قطب عن هذه التجربة: “هذه رحلة أخرى في عالم آخر رحلة مضنية ولا شك، ولكنها لذيذة لذة الألم، ذلك الزاد الإلهي الذي تقتاته الأرواح، وكم خالجنا فيها من مشاعر الأسى والكآبة والعطف على ذلك الروح المعذب الحائر الذي يفني نفسه في طلب النور”.
وينتقل سيد قطب إلى تجربة أخرى يقول عنها: “والآن فإلى عالم ثالث، عالم يائس من الخير في الدنيا، ساحر بخداع العواطف والمشاعر، يتصور النظم الكونية تطارد بعنف أبناء الفناء الضعاف ولكنه ساكن لا يبدي الجزع ولا يثور، إنه توماس هاردي”.
وجاء بنص لهذا الشاعر يقول فيه على لسان امرأة: آه إخالك تحفر عند قبري يا حبيبي، تغرس على حوافيه أشجار الذاب، كلا حبيبك ذهب البارحة ليخطب كريمة من أجمل كرائم الثراء، وهو يقول في نفسه: ماذا عليها من ضير أن أنقض لها عهدي في الحياة؟ إذًا هذه امرأة ماتت، وتتصور أن زوجها ما يزال وفيًّا لها، وعندما سمعت حفرًا عند قبرها ظنت أن حبيبها يحفر ليغرس حول هذا القبر أشجارًا تظلله. لكن الشاعر قال: كلا حبيبك ذهب البارحة ليخطب كريمة من أجمل كرائم الثراء، وهو يقول في نفسه: ماذا عليها من ضير أن أنقض لها عهدي في الحياة، إذًا من ذلك الذي يحفر في ناحية القبر أقاربي الأعزاء لا بنية، إنهم يجلسون هنالك ويقولون: ماذا يجدي أي نفع لهذه الأشجار والأزهار؛ إن روحها لن يفلت من براثن القضاء خلال ذلك التراب المركوم؟ ولكني أسمع حافرًا يحفر هناك، فمن ذا عسى أن يكون، أهي عدوتي اللئيمة الرعناء؟ لا، إنها حين علمت أنك عبرت الباب الذي لا مفر منه ضنت عليك بالعداوة، ولم تجدك أهلًا للكره والبغضاء، فما تبالي اليوم في أي مرقد ترقدين، إذًا من يكون ذلك الحافر على قبري؟ فقد أعياني الظن وأقررت بالإعياء، آه إنه أنا يا سيدتي الودود، أنا كلبك الصغير، أعيش بقربك، وأرجو ألا يزعجك ذهابي ومآبي في هذا الجوار، تقول هذه المرأة مخاطبة الكلب، أو يقول الشاعر على لسانها: آه، نعم أنت الذي تحفر على قبري، عجبًا كيف غفلت عنك ونسيت أن قلبًا واحدًا وفيًّا قد تركته بين تلك القلوب الخواء. وأي عاطفة لعمرك في قلوب الناس تعدل عاطفة الولاء في فؤاد الكلب الأمين.
لكن الشاعر يستدرك على هذه المرأة ظنها، فيقول على لسان الكلب: سيدتي إنني أحفر عند قبرك لأدفن عظمة أعود إليها ساعة الجوع في هذا الطريق، فلا تعتبي علي إزعاجك فقد نسيت أنك في ذلك المكان تنامين نومك الأخير.
يقول الناقد سيد قطب تعليقًا على هذا النص: إنه عالم قانط يائس، لا بصيص فيه من أمل أو عزاء، حتى العواطف والمشاعر التي قد تعزي عن كثير من قسوة الحياة لا يراها إلا عبثًا وسخرية لا حقيقة لها، ولا وجود، ولكنه عالم كبير فريد، هذا العالم الكبير الفريد هو عالم الشعور، هو عالم العواطف التي يحملها لنا الشعر.
وعندما يقرأ القارئ هذه النماذج الجيدة التي اتسمت بعمق العاطفة وصدقها، فإنه يضيف إلى نفسه تجارب غنية من تجارب الآخرين؛ تثري إحساسه، وتوسع مداركه، وتنمي من نوازع الخير عنده، وتجعله أصح نظرة وأصوب رأيًا في الحياة والأحياء.
هذه النماذج الثلاثة التي أوردها الأستاذ سيد قطب كلها نماذج من الأدب العالمي تحمل هذه العواطف الإنسانية الراقية والعميقة والصادقة، هذه العناصر التي تحدثنا عنها والتي تمثل الشكل، وتمثل المضمون في العمل الأدبي، عندما يتعرض ناقد لعمل أدبي يحاول أن يحكم عليه، لا بد أن يستعرض هذه العناصر عنصرًا عنصرًا، ويستخدم فكره، وعلمه، وخبرته، والقواعد والمقاييس التي يعرفها من علم البلاغة ومن علم الأسلوب، ويختبر هذا كله بذوقه المدرب، ويحلل النص الأدبي إلى عناصره، وينظر في التجانس والتناسب والتناسق الموجود بين عناصر العمل الأدبي؛ العناصر التي يتكون منها المضمون، والعناصر التي يتكون منها الشكل، ومن خلال هذا التناسق والتناسب يحكم على ما يسمى بالوحدة الفنية للقصيدة أو الوحدة الفنية في هذا العمل الأدبي.
لو أردنا أن نقدم نموذجًا تطبيقيًّا تتم فيه عملية النقد للحكم على قصيدة من القصائد من خلال النظر إلى هذه العناصر كلها، أقدم لك مثلًا: قصيدة الشاعر إبراهيم ناجي “العودة”، وتعليقًا نقديًّا عليها، يقول إبراهيم ناجي في هذه القصيدة:
هذه الكعبة كنا طائفيها | * | والمصلين صباحًا ومساء |
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها | * | كيف بالله رجعنا غرباء |
دار أحلامي وحبي لقيتنا | * | في جمود مثلما تلقى الجديد |
أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا | * | يضحك النور إلينا من بعيد |
رفرف القلب بجنبي كالذبيح | * | وأنا أهتف يا قلب اتئد |
فيجيب الدمع والماضي الجريح | * | لم عدنا ليت أنا لم نعد |
لم عدنا أو لم نطو الغرام | * | وفرغنا من حنين وألم |
ورضينا بسكون وسلام | * | وانتهينا لفراغ كالعدم |
أيها الوكر إذا طار الأليف | * | لا يرى الآخر معنى للهناء |
ويرى الأيام صفرًا كالخريف | * | نائحات كرياح الصحراء |
وتنتهي القصيدة بهذه الأبيات التي يقول فيها الشاعر مخاطبًا دار محبوبته التي عاد إليها بعد زمن:
ركني الحاني ومغناي الشفيق | * | وظلال الخلد للعاني الطليح |
علم الله لقد طال الطريق | * | وأنا جئتك كي ما أستريح |
وعلى بابك ألقي جعبتي | * | كغريب آب من وادي المحن |
فيك كف الله عني غربتي | * | ورسا رحلي على أرض الوطن |
وطني أنت ولكني طريد | * | أبدي النفي في عالم بؤسي |
فإذا عدت فللنجوى أعود | * | ثم أمضي بعدما أفرغ كأسي |
التحليل النقدي لهذه القصيدة: بدأ بالحديث عن موضوعها، وهذا الموضوع هو بكاء الأطلال، وبكاء الأطلال معروف في الشعر القديم، لكن الشاعر هنا يبكي الأطلال بطريقة خاصة، وبطريقة جديدة. فالقصيدة كلها بكائية، ولم تأتِ على طريقة القدماء مقدمة يبكي فيها الشاعر ديار محبوبته، ثم يرحل عنها، وينتقل إلى غرض آخر من أغراض الشعر كالمديح أو غيره. فهنا موضوع الدراسة النقدية تشير إليه، ثم تتحدث هذه الدراسة النقدية عن التجربة الشعورية التي عاناها الشاعر، وتتحدث كذلك عن الصياغة الفنية المتعلقة بالألفاظ والأساليب والمجاز والتصوير والموسيقى، وتتحدث عن التناسق والتناسب بين هذه العناصر -عناصر الشكل، وعناصر المضمون- لتخلص إلى الحديث عن وحدة القصيدة، فترى أن وحدة القصيدة تحققت من كونها ذات موضوع واحد، ومن كونها تصور تجربة نفسية وشعورية ناضجة، وأن القصيدة تنمو نموًّا متدرجًا من البداية للنهاية مستوعبة تفاصيل التجربة وجزئياتها.
فقد وفق الشاعر في المواءمة بين المضمون الذي ملأ به قصيدته والوسائل الفنية والتعبيرية والتصويرية التي استخدمها في هذه القصيدة؛ فأسهم ذلك كله في تجلية الوحدة الفنية أو الوحدة العضوية على نحو ما، وتأكيد هذه الوحدة بقدر كبير.
إذًا هذه هي المقاييس النقدية التي يتحاكم إليها في نقد الشعر وهي مقاييس تستفيد -كما قلت- من النقد العربي القديم، وتستفيد من النقد الغربي الحديث، ويستخدمها النقاد المعاصرون والمحدثون في التعامل مع الشعر.