العزيمة والرخصة
العزيمة لغة: الصّريمة والقطْع.
وهي: القصْد المؤكّد، كقوله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]. أي: مقصدًا بليغًا متأكِّدًا في العصيان.
وتدور جميع معاني العزيمة حول: الانحتام، والصّرامة، والبتّ في الأمر، والقطْع فيه.
العزيمة اصطلاحًا: عرّفها ابن قدامة -رحمه الله- بتَعريفَيْن:
التعريف الأول: الحُكم الثّابت مِن غيْر مُخالفة دليلٍ شرعيّ.
الحُكم الثّابت: يتناول الواجب، والمندوب، والمحرَّم، والمكروه؛ فإنّ العزيمة تشمل جميع هذه الأحكام.
“من غير مخالفة دليل شرعيّ”: هذا الدّليل الشّرعيّ إمّا أن يكون معارضًا مساويًا أو راجحًا.
فإذا كان ذلك الدليل المعارِض للعزيمة مساويًا، وجب الوقف، وانتفت العزيمة، وطُلب التّرجيح من الخارج.
وإذا كان الدليل المعارض راجحًا، فإنه يلزم العمل بما دلّ عليه، وتنتفي العزيمة حينئذٍ، وتثبت الرّخصة.
التعريف الثاني: ما لزم بإيجاب الله تعالى؛ وهذا التعريف يقصر العزيمة على الواجب فقط.
وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: هل العزيمة تشمل جميع الأحكام التّكليفيّة أم تختصُّ ببعضها؟
اختلف العلماء -رحمهم الله- في ذلك على أقوال:
الأول: أنها تشمل جميع الأحكام التّكليفيّة؛ وهو قول الجمهور.
الثاني: أنها تشمل جميع الأحكام التّكليفيّة ما عدا المحرَّم؛ وهو قول الرازي.
الثالث: أنها تختصّ بالواجب والمندوب فقط؛ وهو قول القرافي.
الرابع: أنها تختصّ بالواجب فقط؛ وهو قول الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، وغيرهم… والراجح هو قول الجمهور.
أمثلة العزيمة، وإطلاقاتها:
قلنا: إن العزيمة تشمل جميع الأحكام التّكليفيّة، وأمثلة ذلك كما يلي:
- العزيمة الواجبة، مثل: النّطق بكلمة التوحيد، ووجوب الصلاة.
- العزيمة المندوبة، مثل: لزوم حضور القلب والخشوع في الصلاة، والمحافظة على هيئتها.
- العزيمة في التحريم، مثل: حرمة الإشراك بالله، وحرمة عقوق الوالديْن.
- العزيمة في الكراهة، مثل: الالتفات في الصلاة.
- العزيمة في الإباحة: جميع الأشياء التي دلّ الشّرع على إباحتها، كالأكل، والشّرب، والنوم، ونحو ذلك…
والعزيمة تُطْلق على أقسام مِن الحُكم الشّرعي، منها:
- الحُكم الذي لم يتغيّر أصلًا، كوجوب الصلوات الخَمس.
- الحُكم الذي تغيّر إلى صعوبة، كحرمة الاصطياد بالإحرام بعد إباحته قبْله.
- الحُكم الذي تغيّر إلى سهولة لغير عذر، كجواز تَرْك الوضوء لصلاة ثانية لمَن لمْ يُحْدِث.
- الحُكم الذي تغيّر إلى سهولة لعُذر، مع عدم قيام السّبب للحُكم الأصليّ، كإباحة تَرْك ثبات الواحد مِن المسلمين للعشرة مِن الكفّار بعد تحريمه.
تعريف: “الرّخصة” في اللّغة والاصطلاح:
الرّخصة لغة: مُشتقّة مِن: “الرّخص”، وهو: اليُسر والسُّهولة.
فالرّخصة في اللغة: السّهولة، واليُسْر، والمُسامحة، واللِّين.
الرّخصة اصطلاحًا: كثرت تعاريف العلماء -رحمهم الله- للرّخصة، وهذه التعاريف مع اختلافها فهي متقاربة، وهي وإن كان عليها اعتراضات، إلاّ أنها تجتمع على الأمور التّالية:
- أنّ الحُكم المُرخَّص فيه ليس ابتدائيًا.
- أنه أخفّ مِن سابِقه.
- أنّ هناك دليلًا على مشروعيّته.
وقد عرّف ابن قدامة -رحمه الله- الرّخصة بتعريفيْن:
الأوّل: استباحة المحظور مع قيام الحاظر.
واعتُرض على هذا التعريف بما يلي:
- لفظ “الاستباحة” هنا مُطلَق، ولا عبرة بالاستباحة إلاّ إذا كانت شرعيّة.
- أنّ الممنوع لا يُستباح إلاّ بعُذر، ولم يُذكر ذلك في التعريف.
الثّاني: ما ثبت على خلاف دليلٍ شرعيّ لمعارضٍ راجح.
فقوله: “على خلاف دليلٍ شرعيٍّ”: يُحترز به عمّا ثبت على وفْق الدّليل الشرعيّ؛ فإنه لا يكون رخصة، بل عزيمة، كالصوم في الحضر.
“لمعارض راجح”: المقصود بالمعارض هنا: العُذر.
ويحترز به عمّا ثبت لمعارضٍ غير راجح، وهو: إمّا مساوٍ، وحينئذٍ يلزم التّوقّف حتى يوجد مرجِّح عند مَن يرى ذلك، وإمّا قاصر عن المساواة للدّليل الشرعيّ الأوّل، فلا يؤثّر، وتبقى العزيمة على حالها.
وأجْود تعريفات الرّخصة التي ذكرها العلماء: تعريف القاضي البيضاوي، وهو:
الحُكم الثّابت على خلاف الدّليل، لِعُذر.
“الحُكم”: جنس يشمل الرّخصة والعزيمة.
“الثّابت”: أي: الذي ثَبَت؛ وفي هذا إشارة إلى: أنّ التّرخّص لا بدّ له مِن دليل؛ لأنه لو لمْ يكن له دليل لمْ يَكن ثابتًا، ولو لم يكن ثابتًا للَزم ترْك العمل بالدليل السّالم عن المُعارض؛ وهذا باطل.
“على خلاف الدّليل”: لإخراج الحُكم الثّابت على وفْق الدّليل.
“لعُذر”: لإخراج جميع التّكاليف؛ لأنّها أحكامٌ ثابتة بأدلّتها الخاصّة بها، على خلاف الدّليل الذي هو: (أنّ الأصل: عدَم التكليف)، ومع ذلك لا تُسمَّى رخصة؛ لأنها لم تَكُن لِعُذر، وكذلك لإخراج الحُكم الثابت بدليل راجح على دليل آخر معارض له.
مما يتعلق بمعنى الرخصة:
- لا يُسمّى ما لمْ يخالف الدّليل: “رخصة”، وإن كان فيه سعة، كعَدَم صوم شوّال، وإباحة المباحات.
- ما حطّ ووضع عنّا مِن الإصر الذي كان على غيْرنا، -مثل: قطْع محلّ النّجاسة مِن الثّوب والبدن- يجوز تسميته: “رخصة” من باب المجاز، بمعنى: أنه سُهّل علينا ما شُدِّد عليها، رفقًا مِن الله بنا.
- إباحة التّيمّم إنْ كان مع القدرة على استعمال الماء، لِمرض، أو زيادة ثمن، سُمِّي: “رخصة” عند المصنّف -رحمه الله-. وإن كان مع عدم الماء لا يُسمّى رخصة؛ لأنه عاجز عن الماء؛ فسبب الحُكم الأصليّ وهو: وجود الماء، زائل هنا غير قائم.
هل العزيمة والرّخصة مِن أقسام الحُكْم التّكليفيّ أم الوضعيّ؟
اختلف العلماء -رحمهم الله- في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنّ العزيمة والرّخصة مِن أقسام الحُكم التّكليفيّ؛ وهو قول الجمهور.
ودليلهم: أنّ كُلًّا مِن العزيمة والرّخصة لا يخرجان عن أقسام الحُكم التّكليفيّ، وذلك أنّ العزيمة: اسم لِمَا طلَبه الشّارع، أو أباحه على وجه العموم، والرّخصة: اسمٌ لما أباحه الشّارع للضّرورة أو الحاجة.
قالوا: والطّلب والإباحة مِن أقسام الحُكم التّكليفيّ.
القول الثاني: أنّ العزيمة والرّخصة مِن أقسام الحُكم الوضعي. الغزالي، والشّاطبي، والآمدي، وابن حمدان الحنبلي، وغيرهم… دليلهم:
أنّ مرجع العزيمة إلى جَعْل الحالة العاديّة للنّاس سببًا لاستمرار الأحكام الأصليّة العامّة، ومرجع الرّخصة إلى جَعْل الشّارع وصفًا مُعيَّنًا سببًا للتّرخيص.
فاعتبار السّفر، أو المرض، أو الضرورة، أو غيرها، أسبابًا للتّرخيص، لا طلب فيه، بل فيه وضْع وجعْل واعتبار؛ وهذه كلها أحكام وضْعيّة.
فهؤلاء نظروا إلى الأسباب التي أدّت إلى استمرار الأحكام الأصليّة العامّة، أو التي أدّت إلى التّخفيف بإباحة الفِعل الذي كان ممنوعًا، والسبب مِن أقسام الحُكم الوضعيّ.
القول الثالث: أنّ العزيمة والرّخصة مشتملة على الحُكْمَيْن، ولا تختصّ بواحد منهما بانفراده.
- فكوْنها: وجوبًا، أو ندبًا أو إباحة، وغير ذلك، هي مِن هذه الجهة تُعدّ مِن الأحكام التّكليفيّة.
- وكونها مسبّبة مِن عذر طارئ يناسب تخفيف الحُكم، مع قيام الدليل على الأصل، من هذه الجهة تُعَدّ مِن الحُكم الوضعيّ؛ فهي تطبيق للحُكمَيْن، وليست قِسمًا لأيّ منهما بانفراده.
تقسيمات الرّخصة:
تنقسم الرّخصة إلى عِدّة تقسيمات بعِدّة اعتبارات، ومِن تلك التقسيمات:
أولًا: تقسيمها باعتبار حُكْمها؛ وهي بهذا الاعتبار تنقسم إلى عِدّة أقسام:
القسم الأول: رخصة واجبة: أي: أنّه يَجب الأخْذ بها؛ فإن امتنع عن ذلك ومات، أو لحقه ضرر، فإنّه يأثم.
ومثّل العلماء لذلك بأكْل الميْتة للمُضطرّ.
فأكْل الميْتة مُحرَّم بقوله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } [المائدة: 3]، لكن لو خاف المُكلَّف على نفسه الهلاك مِن الجوع، فإنّه حينئذٍ يجب عليه الأكل، وقد قال الله تعالى: { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
فتَغيّر حُكم أكْل الميتة مِن صعوبة التّحريم إلى سهولة الوجوب، لموافقته لغرض النفس لعذر الاضطرار مع قيام سبب التّحريم حال الحلّ، وهو الخبث.
القسم الثاني: رخصة مندوبة: وهي التي فِعْلُها أفضل مِن تَرْكها، كقصْر الصلاة في السّفر عند الجمهور.
القسم الثالث: رخصة مُباحة: وذلك كبيع العرايا، وهو: بيْع الرّطَب على رءوس النّخل بِقَدر كَيْله مِن التّمر خرْصًا فيما دون خمسة أوسق. وقد ذهب الإمام الشاطبي -رحمه الله- إلى أنّ حُكم الرّخصة مِن حيث هي رخصة: الإباحة مطلقًا. وما ذُكر مِن الرُّخَص التي تكون واجبة أو مندوبة، فإنّ وصْفها بذلك يرجع إلى عزيمة أصليّة لا إلى رخصة بعيْنها.
وقد استدلّ -رحمه الله- على ذلك بأدلة كثيرة، منها:
الدليل الأول: النّصوص الشّرعيّة التي تدلّ على أنّ الرخصة لا تعدو أن تكون من رفْع الحرج عمّن فَعَلها، وأنّه غير مؤاخَذ ولا إثم عليه، ونحو ذلك، مثل قوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
فهذا النوع مِن الأدلة لا يدلّ على أكثر مِن الإباحة، ولم يتحتّم فيها الطّلب بالأخذ بالرّخصة.
الدليل الثاني: أنّ أصل الرّخصة هو: التّخفيف عن المُكلّف والتيسير عليه؛ فيتخيّر بين الأخْذ بالعزيمة أو الرّخصة. وعلى هذا، ينطبق تعريف المباح مِن حيث إنّه مخيّرٌ بيْن فِعْله وتَرْكه.
الدليل الثالث: هناك تعارض بيْن مدلول الرّخصة -وهو: التيسير والتسهيل- وبيْن مدلول الأمْر، سواء كان واجبًا أو مندوبًا؛ إذ الأمْر يجعل المأمور به عزيمة.
وكلام الإمام الشّاطبي -رحمه الله- لا يناقض قول الجمهور؛ لأنّ الشّاطبي -رحمه الله- قد نظر إلى أصْل الرّخصة دون ما يَعرض لها بحسب الدّليل الخارجيّ.
القسم الرابع: رخصة يُكرَه فِعْلُها: كالقصْر في أقلّ مِن ثلاث مراحل.
القسم الخامس: رخصة خلاف الأَوْلى: وهي التي تَرْكُها أفْضل مِن فِعْلها. ومثّل لها بعض العلماء بالتّلفّظ بكلمة الكُفر عند الإكراه. ومثّل بعضهم بالسّفر لأجل أنْ يترخّص فقط.
هل تكون الرّخصة محرّمة?
الرّخصة لا تكون محرَّمة، لما يأتي:
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله يُحبُّ أنْ تُؤْتَى رُخَصُه)).
وجْه الدّلالة: أنّه لو كانت الرّخصة حرامًا، لما أحبّ الله سبحانه وتعالى أنْ تُؤتَى.
- أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال لعمّار رضي الله عنه، لمّا أُكْره على كلمة الكُفْر، وكان قلْبه مطمئنًا بالإيمان: ((فإنْ عادوا فعُدْ)). فلو كانت الرخصة حرامًا، لما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لعمّار.
وقد قرّر العلماء -رحمهم الله- قاعدة فقهيّة مُهمّة في هذا الباب، وهي أنّ: “الرُّخَص لا تُناط بالمعاصي”.
ففِعْل الرّخصة مَتى توقّف على وجود شيء، نُظِر في ذلك الشيء، فإن كان تعاطيه في نفسه حرامًا، امتنع معه فعل الرّخصة، وإلاّ لم يمتنع فِعْل الرخصة.
ولهذا فرّق العلماء -رحمهم الله- بين المعصية بالسّفر، والمعصية في السّفر.
ومثال العاصي بالسّفر: المرأة التي تخرج مِن بيت زوجها ناشزًا ظلمًا، والمسافر للمَكْس، ونحو ذلك… فهؤلاء عاصون بنَفْس السّفر؛ لأنّ خروجهم في الأصل غير مشروع. والرُّخَص لا تكون لأمثال هؤلاء.
ومثال العاصي في السّفر: مَن سافر للتّجارة، ثم شرب الخمر في أثناء سفَره؛ فهذا يُسمََّى: عاصٍ في السّفر؛ لأنّ سفَره في الأصل مُباح. فالرّخصة تكون سائغة لهؤلاء.
ويَرى بعْضُ المحقِّقين: أنّ الأخذ بالرّخصة مُطلق، لا يُقيَّد بسَفَر دون سفَر؛ بل يجوز للعاصي أن يترخّص أيضًا، وهذا هو الأقرب للصواب -والله أعلم-.
تقسيم الرّخصة مِن حيث الكمال والنّقصان:
القسم الأول: رخصة كاملة: وهي التي لا بَدَل لها بعْد فِعْلها، كالمَسْح على الخُفَّيْن.
القسم الثاني: رخصة ناقصة: وهي التي لها بدَل بعْد فِعْلها، كالفِطْر في رمضان للمسافر.
تقسيم الرّخصة مِن حيث سببها:
القسم الأول: رخصة سببها اختياريّ، كالسّفر.
القسم الثاني: رخصة سببها اضطراريّ، كالاغتصاص باللّقمة المبيحة لشُرب الخمر.
تقسيم الرّخصة مِن حيث حُكم سببها:
القسم الأول: رخصة سببها مباح، كالسفر.
القسم الثاني: رخصة لا يباح سببها، كالغصّة لِشرب الخمر؛ إذ لا يَحلّ لأحد أنْ يغصّ نفْسه ليشرب الخمر ولا غيْر الخمر، بل الغصّة حرام مطلقًا.
القسم الثالث: رخصة لا يوصف سببها بإباحة ولا غيْرها، وهو السّبب الاضطراريّ.
هل المُخصَّص مِن العامّ يُعدّ مِن قبيل الرّخصة?
اختلف العلماء -رحمهم الله- في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنّه لا يُعدُّ من قبيل الرّخصة؛ وهو اختيار الآمدي.
القول الثاني: التفصيل؛ وهو اختيار ابن قدامة.
- الصورة المُخرجة من العموم بالمخصِّص، إن كانت توجد فيها علّة الحُكم العامّ، فتُسمَّى: رخصة.
ومثال ذلك: بيْع العرايا مخصوص مِن بيْع المزابنة المحرّم.
فبيع المزابنة -وهو: بيع التّمر بالرطب كيلًا- مثلًا، وقد نهى الشارع عنه، ثم خُصّت العرايا منه للحاجة، بالشروط التي ذكرها العلماء -رحمهم الله- في كتبهم.
وعلّة تحريم المزابنة -وهي: عدَم تحقّق المُماثلة الواجب تحقّقها في التمر بالتمر- موجودة في الصورة المُخرَجة مِن العموم بدليل خاصّ، وهي: إباحة العرايا.
- وإن كانت الصورة المخرَجة مِن العموم بالمخصِّص لا توجد فيها علّة الحُكم العامّ، فلا تُسمَّى رُخصة.
ومثال ذلك: إباحة رجوع الأب فيما وهَب لابنه.
فهذا داخلٌ في عموم المنْع مِن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْس لنا مَثَل السَّوء. العائد في هِبَته كالكلب يعود في قيْئه))، ثم وَرَد النّصّ بتخصيص الأب في جواز الرّجوع في الهِبة التي وهَبَها لولده.
فاختصاص الأب بالرجوع، هو لمعنًى خاصّ فيه، وهو: الأُبُوّة. وهذا المعنى لا يوجد في غيْره مِن الواهبِين؛ وبالتّالي فلا يُسمَّى رخصة.
القول الثالث: أنّ الجميع مِن قبيل الرّخصة؛ وهذا هو الصحيح، وذلك لانطباق معنى الرخصة على الصّورتَيْن، فلا فَرْق بينهما.
أسباب التّرخيص:
الأخْذ بالرّخصة يكون بأسباب مُعيَّنة، يجمع تلك الأسباب: أنّ مِن مقاصد الشريعة وقواعدها العامّة: التّيسير على المكلَّفين، ورفع الحَرَج عنهم.
ومِن الأسباب التي يُباح معها التّرخص، ما يلي:
السّفَر. | المرض. |
الإكراه. | النِّسيان. |
الجهْل. | العُسْر وعمُوم البَلْوى. |
- النّقص، مثل: عدم تكليف الصّبيّ والمجنون، وإسقاط الصّلاة عن المرأة حال الحيْض.
هل الأفْضل: الأخْذ بالرّخصة أم العزيمة؟
اختلفت نظْرة العلماء -رحمهم الله- في ذلك:
فذهب بعض العلماء إلى أفضليّة الأخْذ بالرّخصة والعمَل بها. وذهب البعض الآخر إلى أفضليّة الأخْذ بالعزيمة. وصار آخرون إلى عدَم الحُكم على ذلك بِحُكم مطّرِد عامّ؛ بل مَرَدّ ذلك إلى اختلاف حالات الرّخص، والشّخص المُترخِّص.
من أدلة مَن يرى أفضليّة الأخْذ بالعزيمة وتقديمها على الرّخصة:
أولًا: عموم الأدلّة التي تدلّ على أنّ الشّرع للابتلاء والامتحان، والدعوة إلى الصّبر على ذلك، مثل قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [الملك: 2].
ثانيًا: ما رُوي عن آحاد الصحابة مِن تقديم العزيمة، كما فعل خُبيب رضي الله عنه.
ثالثًا: أنّ العزيمة راجعة إلى أصْل كُلّيّ، والرّخصة راجعة إلى أصل جُزئي.
رابعًا: أنّ الأصل في الأحكام: العزيمة، والرّخصة طارئة.
من أدلة مَن يرى أنّ الأخذ بالرّخصة أوْلى:
أولًا: الأدلّة العامّة الدّالة على التّيسير ورفع الحَرَج، كقوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
ثانيًا:حديث عائشة رضي الله عنها: ((ما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيْن أمْريْن إلا اختار أيْسَرَهما، ما لمْ يَكُن إثمًا)). ولا شكّ أنّ الرّخصة أيْسر مِن العزيمة.
ثالثًا: أنّ الرُّخص مِن مِنح الله وفَضْله، فتَرْكُها إعراضٌ عن فضْل الله ورحمته، واستغناء عنه؛ وذلك لا يجوز.
ونلاحظ أنّ كلام العلماء في هذه المسألة إنّما هو مِن حيث العموم دون آحاد المسائل، وإلا فقد قرّر العلماء -كما مرّ سابقًا- أنّ الرّخصة قد تكون واجبة، وقد تكون مندوبة، إلى غير ذلك من التقسيمات…
والذي يظهر في هذه المسألة -والله أعلم-: أنّ الأخْذ بالرّخصة أوْلى على كلّ حال، ما لم يكن في الأخذ بالعزيمة مصلحة أوْلى وأعلى مِن الأخذ بالرّخصة.