العطف على أسماء هذه الحروف بالرفع
يُعطفُ بالرّفع على محلِّ أسماء هذه الحروف بشرطيْن:
الأول: استكمال الخبر.
الثاني: كون العامل (أَنَّ)، أو (إِنَّ)، أو (لكنَّ)، ممّا لا يغيِّر معنى الجملة، نحو قوله تعالى: {أَنّ اللّهَ بَرِيَءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]؛ فعطف {رَسُولُهُ} على محلّ لفظ الجلالة: {اللّهَ} بعد استكمال الخبر، وهو: {بَرِيَءٌ} .
وقول الشاعر:
فَمَنْ يَكُ لَمْ يُنْجِبْ أبُوه وأُمُّهُ | * | فإنّ لنا الأمّ النَّجِيبةَ والأَبُ |
فعطف “الأبُ” على محلِّ: “الأمَّ” بعد استكمال الخبر، وهو: “لنا”.
وقول الشاعر:
وما قَصَّرَتْ بي في التَّسامي خؤُولةٌ | * | ولكنَّ عمِّي الطيِّبُ الأَصْلِ والخَالُ |
فعطف “الخالُ” على محلِّ: “عمِّي” بعد استكمال الخبر، وهو: “الطيِّبُ”.
والمحقِّقون من البصريِّين على: أنّ رَفْعَ ذلك ونحوه ليس بالعطف على محلِّ الاسم، بل على أنه مبتدأ حُذفَ خبره. والتقدير: ورسولُه بريء، ولنا الأب النّجيب والخالُ الطيبُ الأصلِ، أو على أنه مرفوع بالعطف على ضمير الخبر المستتِر فيه؛ وذلك إذا كان بينهما فاصل، فهو مِن عطْف مفرد على مفرد. فـ {وَرَسُولُهُ} { بَرِيَءٌ }معطوف على الضمير المستِتر في { بَرِيَءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ}: أي: بريء هو ورسولُه، لِوجود الفصل بالجار والمجرور، وهو {مّنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وكذلك “الأب”: معطوف على الضمير المستِتر في: “لنا”. و”الخال”: معطوف على الضمير المستِتر في: “الطّيِّب”، لوجود الفصل في البيت الأوّل بالصِّفة والموصوف، وفي الثاني بالمضاف إليه، لا أنّ رَفْعَ ذلك ونحوه بالعطف على محلِّ الاسم، مثل: “ما جاءني من رجلٍ ولا امرأةٌ”، بالرّفع. فعطَف “امرأةٌ” على محلِّ: “رجُل”؛ لأن الرافع لمحلِّ “رجل”: الفعل، وهو” “جاءني”، وهو باقٍ ولا يَمنعه عن العمل في محلِّ “رجل” الحرف الزائد؛ لأن الزائد وجودُه كلا وُجود.
والرافع لمحل الاسم في مسألتنا التي نحن فيها: الابتداء، وقد زال بدخول الناسخ، وهو: (أنّ) و(إنّ) و(لكنّ).
ولم يشترط الكسائي والفراء الشرط الأوّل، وهو: استكمال الخبر، تمسَّكًًا بنحو قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ}، فعطف {وَالصّابِئُونَ} بالرّفع على محلّ: الّذِينَ آمَنُواْ} قبل استكمال الخبر، وهو: {مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ}{ .
وبقراءة بعضهم: {إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلّونَ عَلَى} [الأحزاب: 56]، فعطف {وَمَلاَئِكَـتَهُ} بالرفع على محلِّ لفظ الجلالة قبل استكمال الخبر، وهو: {يُصَلّونَ} وبقول الشاعر:
فمن يكُ أمسى بالمدينة رَحْلُهُ | * | فإنِّي وقَيَّارٌ بها لَغِريبُ |
عطف “قيارٌ” بالرفع على “ياء المتكلِّم” قبل استكمال الخبر، وهو: “لَغَريبُ”.
وقول الشاعر:
وإلاَّ فاعلمُوا أَنَّا وأَنْتُمُ | * | بُغَاةٌ ما بَقِينَا في شِقَاقِ |
عطف “أنتم”، وهو: ضمير رفع، على محلّ ضمير المتكلِّم المعظِّم نفسه: “أّنَّا” أو المشارك غيره، قبل استكمال الخبر.
ولكن اشترط الفراء -إذا لم يتقدّم الخبر-: خفاءَ إعراب الاسم، كما في بعض هذه الأدلة المتقدِّمة: الآية: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ}، والبيتان المتقدِّمان. ويَمْنَع إن كان الاسم مُعرَبًًا كما في قوله تعالى: {إنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ} بالرّفع، لِما فيه من تخالفٍ المتعاطفيْن في الحركة اللفظية.
وما تمسّك به من الأدلة المتقدمة، خَرَّجها المانعون من البصريِّين على التقديم والتأخير؛ فيكون{مَنْ آمَنَ}: خبر “إنَّ”، وخبر {وَالصّابِئُونَ} ، وخبرُ “إِنَّ” محذوفًًا لدلالة خبر المبتدأ عليه. كقول الشاعر:
خليليّ هَلْ طِبٌّ فإنِّي وأنتما | * | وإنْ لم تَبُوحا بالهَوَى دَنِفَانِ |
حذف خبر “إنّ” لدلالة خبر المبتدأ عليه. والتقدير: فإني دَنِفٌ -أي: مريض- وأنتما دَنِفَان. ويتعيّن التوجيه الأوّل -وهو: التقديم والتأخير- في قول الشاعر:
فإنيِّ وقيارٌ بها لَغَريبُ | * | …. …. …. ….. |
والأصل: فإني لغريب، وقيارٌ غريبٌ؛ ولا يتأتّى فيه التوجيه الثاني، وهو: الحذف من الأوّل، لأجل “اللام”؛ لأنها لا تدخل في خبر المبتدأ، إلاّ إن قُدِّرت زائدة، مثلها في قول الشاعر:
أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوز شَهْرَبة | * | …. …. …. ….. |
ويصير التقدير: فإني غريب، وقيار غريب.
ويتعيّن التوجيه الثاني -وهو: الحذف من الأوّل- في قوله تعالى: {إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ } بالرّفع. والتقدير: إن الله يُصلِّي، وملائكتُهُ يصلُّون على النبي. ولا يتأتى فيه التوجيه الأوّل لأجْل “الواو” في: {يُصَلّونَ} لأنها للجماعة المشتركة، والله واحد لا شريك له، إلاّ إن قُدِّرتْ “الواو” للتعظيم، مثلُها في قوله تعالى: {قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، فإنها لتعظيم الواحد المخاطب فيأتي التوجيه الأوّل، ويصير التقدير: إنّ اللهَ يُصلُّون، وملائكتُهُ يُصلُّون.ولم يشترط الفراء الشرط الثاني -وهو: كون العامل “إنَّ” أو “أنَّ” أو “لكنَّ” تمسكًًا بنحو قول الشاعر:
يا يَلْتَنِي وأَنتِ يا لَميسُ | * | في بَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ |
عطف “أنتِ” على اسم “ليْتَ”، وهو: ياء المتكلِّم. وخُرِّج على أن الأصل: وأنتِ معي. والجملة من المبتدأ والخبر: حاليّةٌ. والخبر: قوله: “في بلدة”. وهذا تخريجُ ابن مالكٍ؛ وهو على ندرة أو قِلّة.